قصة قصيرة
تفهّم صمتي كي تستحقني
صبحة بغورة
قاصة من الجزائر
رسمت بجسدها الممشوق أمام قرص شمس الأصيل لوحة تضج بالأنوثة والجمال، الأفق يبدو وراءها حيث تلامس خضرة المروج زرقة السماء، كان يحلو لها أن تتمتع ببهاء المكان وهدوئه الشامل فتضيف من روحها الى روعته سحرا مميزا ،كان تقديرها للحياة من تقدير ما فيها من جمال ،إنها تجيد مداعبة الزهور البرية المتناثرة على تلك الهضبة الخضراء التي اعتادت أن تقصدها كلما ازداد حنينها الى الطبيعة البِكر حيث السكينةُ والأمان. تتأمل ما حولها وتسرح بخيالها بعيدا فتنسج من أحلامها صورا لا يراها سواها .
لم تلبث وهي في غمرة استغراقها أن سمعت هتافات تصلها من بعيد ،رأت جموعا من أهل البلدة فوق سيارات مكشوفة وآخرين يسيرون على الأقدام يرفعون صور مرشحهم لانتخابات المجلس المحلي، ولمحت بعض النسوة في المؤخرة يزغردن ويصفقن ، اقتربت القافلة أكثر ومرت بجانبها ،ففترت حدة الهتاف وخفت الهرج وتوقف الصياح واشرأبت أعناق النسوة الى الفتاة التي لم تتحرك من مكانها وبقت منتصبة أعلى الهضبة وكأنها قطعة منها ، الجميع يعرفها ويشهد لها بحسن الأخلاق والسيرة الحسنة وكم حاولت بعض النسوة خطبتها لأولادهم دون جدوى ،كانت تراهم مجرد دمى تمشي على الأرض ،لا يتمتعون برجاحة الفكر وحسن التدبير ،تسكعهم استهلك قدرتهم على صنع الحياة ، المستقبل لا يعني عندهم سوى الغيب ويعتقدون أنهم لا يملكون ازاءه أي إرادة ،سأل مرشحهم السيد مراد أحد رفاقه عنها وهو يمسح عرقه بمنديله الطويل وعرف أنها أمينة الابنة الوحيدة لأحد وجهاء البلدة ، تأملها جيدا ولم تغادرها عيناه ،تعلق بها والموكب يسير حتى غادرها ،التفت اليها خلفه ولكنه لم يرها ،اختفت وكأنها تلاشت ، فانشغل بها أكثر لأنه حرم من النظرة الأخيرة التي كان يمكن أن تحمل رسالته اليها .
لم تمر سوى بضعة أيام حتى طرق السيد مراد ذات مساء منزلها وخلال لقائه بوالدها طلب خطبتها له وانتظر أياما ليعرف الرد ، كان والد أمينة يعلم أن مستقبل ابنته معه مضمونا وستعيش معه حياة هانئة ، اقتنعت أمينة بفكرة والدها وتمت الخطبة في أجواء بهيجة اختلطت فيها السعادة الفرح بحماس الترشح للانتخابات ،تواصلت اللقاءات بين الخطيبين الشابين في حدود ما تسمح به العادات والتقاليد وحاولت خلالها ابداء تعاطفها الكبير معه لما رأت فيه من طموح باهر وشجاعة لافتة محاولة بذلك تقليل مستوى التوتر الذي ينتابه كل حين من حملات خصومه ومنافستهم وكان أن تحولت لقاءاتهما الى مجرد اجتماعات عمل متشنجة، ورغم حرصها في كل مرة أن تبدو أمامه في أبهى صورة كأنثى تشتهيها العيون لم تلمس منه اهتماما خاصا بها ولم تسمع كلمة ترضي أنوثتها ، كانت تلوذ بالصمت الجليل في انتظار أن يعبر يوما عن سعادته بها ، الحملة الانتخابية لا تزال مشتعلة والباقي من أيامها لا يزال طويلا والأحاديث هي نفسها انها الشكوى المريرة من الحساسيات السياسية وصراع قوى النفوذ ،وسيطرة مراكز صنع القرار وتحكم أصحاب المال في المؤسسات الإستراتيجية ، الحالة الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة في البلاد ، لقد استمعت اليه مليا وتفهمته كثيرا ،وصبرت أكثر، وكلما تقربت منه وتجاوبت معه أمعن هو في الانصراف عنها ، لم تشأ أن تكون المبادرة بتحويل الحديث الى ما يهم طبيعة عواطفهما خجلا وحياء ،منعها كبرياؤها من البوح الجميل حتى أحست بجفاف عاطفي تجاهه ، ولكنها عندما تستدرك نفسها وتحاول أن تجدد أملها فيه عندما ينجح في الانتخابات يفاجئها بما لا يرضيها.
عاود أمينة الحنين الى الهضبة الخضراء ففيها تجد راحتها وتمارس طقوسها الخاصة في التأمل والتفكير لم تداعب كعادتها الزهور بل انشغلت بحالها الذي لم تتوقعه ، لقد بدأت تسترجع صدمات ما تلقته من السيد مراد وما تجرعته في صبر وصمت من كلمات لها معنى ثقيل ، تذكرت ما قاله يوما لها أن أهمية الزواج بالنسبة للسياسيين أنه مجرد دليل اجتماعي على استقرارهم الأسري ولا يتجاوز حدود الحرص على اظهار عفة النفس لكسب الثقة والنجاح ، الهدوء الذي يسود المكان دفعها أن تستسلم لاستعادة المزيد من ما دار بينهما ، لقد فهمت من أحاديثهما أنه يصوغ أسلوبه في الحياة من تقديره للأشياء فقفز الى ذهنها سؤال أخافها هل أصبحت هي من أقل الأشياء في نظره حتى لا يعيرها الاهتمام اللائق بها ،مرت أمامها قافلة تعلوها الهتافات باسمه رافعة صور مكبرة له ،انتفضت في مكانها انتفاضة رفض داخلي أن تكون من مجرد أداة لفوزه في الانتخابات ،أبت نفسها أن تستمر على هذا الحال المهين ،لقد فتحت بتساؤلاتها أبوابا للأمل وللخروج من قوقعة اليأس، دفعتها كرامتها أن تقنع والدها بالتراجع عن هذه الخطبة ، وحين علم السيد مراد بقرارها كانت قد وصلته رسالة قصيرة منها لم تضيع قراءتها شيئا من وقته الثمين ، صاغتها في عبارة واحدة صغيرة أوجزت المعنى الكبير فتركته حائرا في أدق الأوقات بالنسبة له ” كنت أود أن تفهم صمتي كي تستحقني ” فرك الرسالة بغيظ واضح لفت انتباه المعاونين ثم تركها على مكتبه وانصرف فالتقطها أحدهم ، قرأها ومعاني المكر تلمع في عينيه ،التقطها خلسة وانصرف في هدوء قاصدا أحد خصومه في الانتخابات فافتضح أمره الشخصي .
على هضبتها الخضراء رأت الحياة تتجدد باستمرار لا شيء يوقف حركتها تجولت بين الأزهار البرية تعجبت من كثرتها وأدهشتها ألوانها الجميلة المختلفة وكأنها تراها لأول مرة ، أحست أنها أزالت حملا كبيرا عنها وأزاحت عبئا أثقل قلبها وأسقطها بملء ارادتها في بؤرة دور الضحية فليس ثمة ما هو مرهق للفؤاد من أن يشغله من لا يحس به ويعذبه. لقد استعادت شخصيتها وعادت بعد تيه الى قناعتها الأولى تقدر حق التقدير قيمة يد رجل محب بقدر وقوفه الى جانب قلبها .. مرت أمامها مرة أخرى قوافل الناخبين يصيحون فرحا بفوز مرشحهم في الانتخابات ،نظرت فرأت صورا مكبرة للمرشح الفائز ولكن لم يكن هو .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص لصحيفة قريش. – ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة