سنة على الانتخابات وتشكيل الحكومة في المغرب
د. أنس البعقيلي – المغرب
مرّت سنة على انتخابات 8 شتنبر وما تلاها من تشكيل المؤسسات المنتخبة وتكوين الأغلبية الحكومية بقيادة عزيز أخنوش، يحق التساؤل اليوم عن جدوى مشاركة حزب منظم ووازن من حجم حزب الاستقلال في هذه الحكومة من باب الربح والخسارة السياسية والتنظيمية للحزب وللوطن، وهل هناك جدوى من استمرار وجود حزب الاستقلال في حكومة أخنوش التي تعاني من انتقادات حادة وتواجهها ملفات ثقيلة وتحديات وطنية وإقليمية ودولية أمام خفوت تواصلها وعدم قدرتها على التعبير عن منجزها؟
يتيح مرور الزمن استيعاب الكثير من التحولات التي تفرضها الوقائع والأحداث السياسية، وتضغط على مختلف الفاعلين والمحللين في لحظة وقوعها والالتباسات المصاحبة لها، ومن تم فإن العودة إلى نتائج اقتراع الانتخابات البرلمانية التي عرفها المغرب في شتنبر الماضي، وما تلاها يفرض وقفة للتأمل البعيد عن التهاب الوقائع وتسارع إسقاطاتها، لنطرح السؤال بموضوعية: هل كان ضروريا انخراط حزب الاستقلال في الحكومة القائمة؟ وهل هناك حاجة للاستمرار في التواجد ضمن أغلبيتها برغم رفع “هاشتاغ ارحل” عن رئيسها؟
كل حزب سياسي طموحه هو الوصول إلى السلطة، ووظيفته هي تولي مقاليد الحكم أو المساهمة فيه لتجريب تطبيق جزء من خياراته، وأيضا لاختبار برنامجه ومشروعه السياسي، إضافة إلى كون التمرس بالحكم يسمح للنخب الحزبية وللأطر التي يقدمها لتسيير الشأن العام، بالتمرس على الإدارة المغربية والتعرف عن قرب على كيفية صناعة القرار السياسي والإكراهات الموضوعية التي تواجههم، وتنسيب خيارات الحزب لتصبح أكثر براغماتية وأكثر دراية بتسيير شؤون البلاد وبالإكراهات الحقيقية التي تواجهه وبصعوبات تنزيل البرامج ومساطر الإدارة وعوائقها… وإذا كان الحزب هو تجسيد لمصالح الفئات التي يدافع عنها، فإن كل استحقاق انتخابي أو سياسي هو أيضا فرصة لتوسيع قاعدته الاجتماعية وربط النخب بدواليبه التنظيمية من خلال مختلف المنافع المشروعة المرتبطة بمواقع المسؤولية والدواوين الوزارية وغيرها، من هذه الزاوية يمكن معرفة وجه الربح والخسارة في مشاركة حزب الاستقلال في حكومة أخنوش ومدى مردودية هذه المساهمة على الشأن العام وعلى الحزب أيضا.
بالعودة إلى نتائج الانتخابات الأخيرة ليوم 8 ستنبر 2021، نجد أن كلا من حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة كانا يتوفران على أغلبية مريحة، يمكن أن يعززاها بحزب من الأحزاب الصغرى الموجودة مثل الاتحاد الدستوري أو حزب الحركة الشعبية بشروط الحزبين المهيمنين، فقد حصد حزب التجمع الوطني للأحرار 102 مقعدا ويليه حزب الأصالة والمعاصرة ب86 مقعدا، أي 188 مقعدا من أصل 395 مقعدا، وهو ما يعني أن الحاجة إلى حزب الاستقلال لم تكن ضرورية، وكان يمكن تشكيل أغلبية مريحة بدون حزب علال الفاسي.
وفي هذه الحالة كان حزب الاستقلال سيجد نفسه في المعارضة، وهذا ليس هو عمق المشكل لأن الحزب الوحيد الذي يدخل ويخرج من الحكومة بليونة وسلاسة هو حزب الاستقلال منذ انخراطه في الحكومة الأولى للمغرب المستقل حتى انسحاب وزرائه من حكومة البكاي، واختياره المعارضة عام 1983 إلى خروجه من حكومة عبد الإلاه بن كيران، لكن السؤال المركزي هو إلى جانب من كان سيجد حزب الاستقلال نفسه في المعارضة ومن هم حلفاؤه؟ حزب الاتحاد الدستوري؟ الحركة الشعبية؟ العدالة والتنمية؟ فباستثناء حزب التقدم والاشتراكية الأقرب تاريخيا إلى حزب الاستقلال والصداقات التي تجمع بين زعيميهما نبيل بنعبد الله ونزار بركة لا تحتاج إلى برهان، فإن باقي الأحزاب تبدو بعيدة عن خطه السياسي بما فيها الاتحاد الاشتراكي بقيادته الحالية، يعني أن قوة 82 مقعدا حتى ولو كانت محورية في المعارضة، فإن كل الأحزاب الأخرى هي التي كانت ستستفيد من هذا الموقع السياسي وليس حزب الاستقلال، أضف إلى ذلك فالتحديات التي كانت مطروحة زمنها، كانت تفرض تموقع حزب الاستقلال داخل الحكومة لا خارجها، ذلك أن حزب الاستقلال كان دوما يختار المشاركة السياسية في الحكومة في لحظات الأزمات الكبرى التي تواجه المغرب، وسهل الاستدلال على ذلك، منذ التجارب الأولى لحكومات ما بعد الاستقلال، حيث انتصر علال الفاسي لمبدأ أن يكون للمغرب دستور حتى وإن لم يكن في مستوى تطلعات الحزب، لكن بحدسه السياسي كان يرى أن توفر المغرب على وثيقة دستورية تنظم العمل المؤسساتي خير من بقائها بلا دستور، لذلك صوت على دستور 1962 وانخرط في أول انتخابات عرفها مغرب الاستقلال في ظل الدستور.
انحاز حزب الاستقلال بعدها إلى المعارضة، اثناء حالة الاستثناء بحكم انعدام الحد الأدنى الديمقراطي لأي مشاركة في تزكية وضع غير سليم، لكن في اللحظة التي طرحت فيها قضية الصحراء بعد المسيرة الخضراء، اتخذ محمد بوستة قرارا بالمشاركة في حكومة أحمد عصمان عام 1977 برغم تزييف الإرادة الشعبية في مسلسل العمليات الانتخابية لصالح حزب المرشحين الأحرار، لم يكن ممكنا أبدا عدم الانخراط في دعم قضية الوحدة الترابية للمغرب، وتحمل حزب الاستقلال حقيبة وزارة الخارجية في أشد اللحظات خطورة، أمام هجوم جزائري كاسح وتواطئ اليسار الإسباني وفي ظل هيمنة الأنظمة العسكرية العربية التي تبنت الإيديولوجية الاشتراكية بعد أن جاءت إلى الحكم عبر الدبابات، وقدم حزب الاستقلال نموذجا في الترافع عن القضية الوطنية عبر أجهزته الحزبية وفي الملتقيات الدولية ومن خلال إعلامه وأيضا من خلال منصب أمينه العام في وزارة الخارجية، لأنه لم يكن ممكنا لحزب ظل يطالب ب”الاستقلال التام أو الموت الزؤام” كما كان يردد زعيمه الراحل علال الفاسي، أن يقول للحكم: “اذهب وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون”، وبرغم أنه لم يكن يقود الحكومة وإنما مساهما فيها.. فقد تحمل مسؤوليته التي تمليها عليه شعاراته وقناعاته ويفرضها تاريخه الوطني.
وفي 1983 لم يكن ممكنا الاستمرار في الحكومة فاختار حزب الاستقلال المعارضة لأكثر من عقد ونصف، وبرغم تزوير إدريس البصري للانتخابات ضد حزب الاستقلال الذي تم تحجيم مقاعده لتوضع في نفس حجم حزب إداري صغير هو حزب عرشان، وحتى مع ضغط قرار مؤتمره الاستثنائي بعدم تزكية أي مؤسسة منبثقة من انتخابات 1997، فإنه حين عين الملك الراحل الحسن الثاني قائدا وطنيا من وزن عبد الرحمان اليوسفي، في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، ولكي لا يضع العصا في عجلة التناوب التوافقي ويساهم في الانتقال السلس، اتخذ حزب الاستقلال من خلال أجهزته قرارا تاريخيا يتمثل في الدخول في الحكومة إلى جانب أغلب مكونات الكتلة الديمقراطية، لأنه ماذا سيعارض؟ حليفه في الكتلة، الاتحاد الاشتراكي الذي ساهم في وضع ميثاق الكتلة ومقترحات ومشاريع تغيير الدستور، وكان قرار محمد بوستة الذي سهر على إنجاز تناوبين: تناوب داخلي تنظيمي بعد أن فضل ترك الأمانة العامة لتنتقل إلى جيل جديد، أطر ما بعد رواد الحركة الوطنية والمؤسسين داخل حزب الاستقلال، وتناوب توافقي بين الملك الراحل والحركة الديمقراطية… هو المشاركة في حكومة التناوب التوافقي برغم دقة المرحلة لفائدة الحركة الديمقراطية وخدمة للتحول الديمقراطي الذي أطلقت ديناميته حكومة التناوب مع كل الأخطاء أو الأعطاب التي صاحبت التجربة الفريدة من نوعها.
وبعد أحداث الربيع العربي، والمصادقة على دستور جديد وانتخابات أتت بجزء من الحركة الإسلامية إلى الحكم، ساهم حزب الاستقلال من باب دعم الإصلاحات والعمل على التنزيل الديمقراطي لدستور 2011، وإيمانا منه بأن جيلا جديدا من الإصلاحات ستقودها الحكومة الجديدة بزعامة عبد الإلاه بن كيران، ركب القطار الحكومي من جديد، لكن في اللحظة التي أحس بخيبة أمل في تحقيق الإنجازات التي علق عليها آماله انسحب بهدوء من الحكومة..
بمعرفة عميقة بهذا التاريخ من الذهاب والإياب السلس لحزب الاستقلال بين المعارضة والحكومة، دون أن يؤثر الموقع السياسي على هويته الإيديولوجية مما جعله حزبا مرنا، لم يتعرض حزب الاستقلال لأي عملية انشقاق لمدة أكثر من 60 عاما، في الوقت الذي كانت تتفتت فيه الهيئات الحزبية بالمغرب وتذوب مثل فص ملح، الواحدة تلو الأخرى، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، كما أنه الحزب الوحيد بالمغرب الذي لم تكن تتضرر صورته السياسية بذلك القدر القوي الذي كانت تخرج منه باقي الأحزاب السياسية منهكة ومفككة وضعيفة بسبب كل مشاركة حكومية كما حدث لحزب الاتحاد الاشتراكي وباقي ما كان يسمى ب”الأحزاب الإدارية” التي ما أن تخرج من الحكومة حتى تصاب بالكساح السياسي والجمود التنظيمي.. انطلاقا مما سبق وتأسيسا عليه هل كانت مشاركة حزب الاستقلال ضرورية في حكومة أخنوش؟
خارج حسابات المقاعد الانتخابية، وإمكانية تشكيل حكومة أخنوش بدون حزب الاستقلال، يجمع معظم المحللين السياسيين أن وجود حزب الاستقلال في حكومة أخنوش، أعطى الحكومة وإن كان أقل الأحزاب استفادة من مواقعها، خاصة في حكومة تم الرهان على كفاءاتها وعلى أطرها الشابة وعلى برامجها التي كانت لأول مرة دقيقة وتحاول أن تجيب على انتظارات قطاعات واسعة من المجتمع، حزب الاستقلال الذي ظل موجودا في قلب المسؤولية في لحظات الأزمات الكبرى التي عرفها المغرب منذ الاستقلال، لم يكن ممكنا أن يحسب عليه التخلف عن اللحظة الحالية التي تأتي في سياق عالمي تميز بالآثار الناتجة عن وباء كورونا على الاقتصاد الوطني، ومخلفات سوء تدبير المرحلة السابقة لأكثر من عقد من الزمان، والتي شلت العديد من المشاريع وعطلت بسبب البلوكاج السياسي ربح الكثير من الفرص الضائعة، بما يعني هدر زمن سياسي كانت له تكلفة كبيرة على الاقتصاد المغربي.
لقد منح أطره ووزن أمينه العام في قلب وزارة أساسية قدر لها أن تواجه مرحلة حرجة في تاريخ المغرب المائي، بحسن تدبيره قطاعا حيويا في الحياة ودورة الاقتصاد الوطني بشكل غير مسبوق.. ووحده هذا الإنجاز له ما بعده في القابل من العقود، قلت منحت مشاركة الحزب على الأقل التنبيه للأولويات ودق جرس التنبيه لكل ابتعاد عن التعاقدات الأساسية التي وعدت بها الحكومة الرأي العام، للحفاظ على بعد الثقة والوفاء بالالتزامات رغم كل الإكراهات التي رافقت الحكومة من انعكاسات أخطر وباء عرفته البشرية، بالإضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية والضغط المتزايد على المالية العمومية بسبب اتساع حجم مطالب المواطنين وتطلعهم- وهذا حق مشروع- لجودة الخدمات وتحقيق العدالة والمساواة ورفض الحكرة والظلم، وظل صوت حزب الاستقلال صوت الطبقات الوسطى التي تشكل صمام أمان للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب، ولا يمكنها لوحدها أن تتحمل كل أعباء التنمية دون أن تجني فوائدها.
لكن هل لا زالت هناك ضرورة ملحة لبقاء حزب الاستقلال في حكومة أخنوش رغم ضعف التواصل لدى رئيسها وأغلب وزرائها؟ هل هناك ضرورة وطنية تستلزم استمرار حزب كبير من حجم حزب الاستقلال في دعم حكومة لا لسان لها ولا تصارح المواطنين بالحقيقة ووجود بطء كبير في إنجاز ما وعدت به حكومة أخنوش؟
إن المعارضة عادة موقع سهل ومريح، خاصة وأنها اليوم غير مكلفة على خلاف مغرب الأمس، لكن هل من الحنكة السياسية أن يطمع الحزب فقط أن يجني المكاسب حتى ولو خسر الوطن؟ أعتبر من وجهة نظري أن الحاجة إلى استمرار حزب الاستقلال في حكومة اخنوش لا زالت قائمة وتمليها التحديات المطروحة على المغرب، ولا يهرب من السفينة حتى في لحظة غرقها سوى الفئران، وتطلعات المغاربة والحاجة إلى الحفاظ على مصداقية المؤسسات تقتضي استمرار حزب وطني من حجم حزب الاستقلال في الحكومة حتى ولو تحول فقط إلى منبه يقظ لانحرافاتها ومنتقد بناء للجوانب السلبية فيها.. فذلك أضعف الإيمان للدفاع ولو باللسان.
عذراً التعليقات مغلقة