متاهة المثقف العراقي بين اليسار واليمين
“يارب ساعدني على ان ارى نواحي الخير كلّها،
ولا تتركني اتهم خصومي بالشر، لأنهم ليسوا من رأيي.”
الفيلسوف البنغالي رابندرانات طاغور
د. توفيق التونجي
حين نؤمن بفكر ما، نحاول الدفاع عنه وهذا طبيعي جدا. إن كان ذلك الفكر سياسيا او عقيدة دينية. تلك الافكار التي تنتج ثقافة وأدبا مستوحاة من اديولوجية والتوجه العقائدي للفكر الانساني.
حين قراءت رواية “مقتل علي بن ظاهر ومتاهته” للاديب علي عبد العال قبل عقود اصبت بالاحباط. التناقض والهون الواسع بين المبادئ النظرية والتطبيق في الواقع وما يعانيه المثقف العراقي في ظروف سواد الفكر القومي السلبي الشوفيني (الحاكم) وسعيه بايجاد فسحة من الحرية وتلك التنازلات التي يدفعه لينجو بروحه احيانا وبكرامته وشرفه وشرف عائلته. لا يمكن وصفه في مجلدات. قبل عقود طويلة حين كنا نروي ما يجري في سجون العراق لم يكن هناك احد يصدقنا في الغرب قائلين :
انكم تهولون وتغالون مبالغين في رواية ما يحدث في سجون النظام العراقي السابق.
وربما بطريقة غير مباشرة و مهذبة كانوا يقولون بانكم كاذبون. تلك اشكالية تاريخية تتجاوز الدهور للمثقف
في الشرق بصورة عامة، وخاصة للمنتمي لفكر مغاير لفكر النظام الحاكم. حتى هؤلاء من المتدينين ومن رجال الدين عانوا الامرين من سجن وقتل وتهجير. الانتماء للفكر جريمة والقابعون في السجون من معتقلي الفكر يزينون جدران السجون بكلماتهم. تلك الكلمات التي لا تزال محفورة على جدران السجون والمعتقلات تروي للتاريخ ما حصل من مآسي انسانية في تلك الزنزانات المظلمة.
النتاج الابداعي للمثقفين كي يرى النور كان ولا يزال مرهونا باختيار المثقف تيارا حزبيا معينا ورفع راية بلون معين. كان كل مطبوع كي يرى النور يمر من لجان وزارة الثقافة ويتم تدقيق محتواه وملائمة النص لافكار الحزب الحاكم والا ياتيه الرفض، و يبقى عليه التوجه الى خارج العراق لطبع كتابه على حسابه الخاص في بيروت وعمان والقاهرة. هذا هو حال المثقف العراقي حتى يومنا هذا.
اتذكر حين انهيت من كتابة كتابي عن ذكرياتي عن مدينتى كركوك واسميتها (كركوك نامه) قبل عقدين اتصلت بالصديق المرحوم ابو وريق الذي كان يدير دارا للنشر باسم ميديا فيشيون. اتصلت به لأساله عن امكانية طبع الكتاب فرحب بالفكرة لكنه نصحني
بارسال الكتاب للتدقيق الاملائي وهذا ما فعلته. اخيرا طبع الكتاب ومن المؤسف ان فيه الكثير من الاخطاء الاملائية لهذا لم أوزع الكتاب الا لبعض الاصدقاء. ولم يصل الى القارئ لحد الان. و لعدم وجود امكانيات النشر الموسع للدار نفسه. وطبعا طبع دون اي مساعدة مالية وعلى نفقتي الخاصة ،ووزعت اعداد منه مجانا على اصدقائي وكما اسلفت. ارسلت نسخا من الكتاب الى كركوك لاعادة الطبع بعد ٢٠٠٣. لكن لا يزال طبع الكتاب في عداد المجهول. حدثني ابن الخال بأنه جلب الكتاب معه في احد زيارته الى العراق لعله يتمكن من طبعه وعرضه مع احد المسؤولين الكبار على احدى دور النشر في السليمانية كان يديرها احد الشعراء. فجاء الجواب بالنفي السبب كان محبطا ( وجود صورة للمرحوم الملا مصطفى البارزاني) حسب الرواية التي وصلتني. بقى السبب الحقيقي كذلك في عداد المجهول.
قارئي العزيز. التطورات الحديثة في عالم الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ازالت جزءً من هذا الانحصار الرسمي والمجحف. لكن يبقى الكتاب المطبوع الميناء الازلي للانتاج الابداعي الادبي. كذلك الدفاع عن ذلك الفكر في الانتاج الابداعي وفي المجالات كافة وكذلك في النص الادبي. حتى في العمل الفني من رسم
تشكيلي ونحت والانتاج السينمائي والمسرحي. وفي نفس السياق يتم منح الجوائز والمكافئات الى الكتاب والفنانين والمثقفين بصورة عامة بتعزيز من جهة او منظمة.
اليست هذه حتمية تاريخية ولا يمكن الا ان تسمى قدر المثقفين اينما وجدوا؟.
العديد من الدول تستخدم في انظمتها الاستخباراتية والامنية الفنانين في عملية التجسس لصالح الانظمة القمعية. العراق نموذج للمتاهة التي وجد المثقف نفسه فيها منذ اعلان الجمهورية في تموز من عام ١٩٥٨. التيار اليساري حصر بعض الادباء تحت رايته، وبالمقابل وجد القوميون ضالتهم بين هؤلاء العاطفيين ممن يتباهون بامجاد امتهم التاريخية في الماضي ويبغون اعادة نهضتها وبث الروح فيها من جديد ممن يحلمون بالامة العربية الواحدة والوحدة العربية الرومانتيكية. الطرفان النقيضان بقيا في صراع دائمي يتهم الطرف القومي الطرف الاخر بالشعوبية والانحراف احيانا، ويلتقيان احيانا اخرى تحت راية (الاشتراكية). من الطبيعي كان هذا الصراع دمويا. ففي سنوات سيطرة الفكر القومي زج بمعظم المثقفين من اليساريين في السجون
ولاسباب واهية ( الصورة اعلاه). كما تم اسقاط الجنسية العراقية عن خيرة المثقفين العراقين امثال محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وسعد البزّاز واخرون. رغم ان الدستور العراقي دائما كان ينص على ان الجنسية العراقية يحصل عليها المواطن العراقي بالولادة ويفقدها فقط في حالة الوفاة.
للتاريخ لم يصل الحزب الشيوعي لسدة الحكم قط في العراق برغم تاريخ نضاله الطويل منذ تاسيسه في العهد الملكي. كان الحزب فقط مقربا الى حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم في فترة من فترات حكمه. كذلك دخل في جبهة وطنية مع البعث. نرى له نشاطا واضحا بعد عام ٢٠٠٣ اي بعد احتلال قوات التحالف للعراق. لست ها هنا
محللا للافكار السياسية بقدر طرح رؤيتي لما آلت له حياة المثقفين العراقين جراء سطوة حكم الافكار القومية السلبية وصراعها مع حمَلة الفكر اليساري من جهة ومن جهة اخرى مع الفكر الديني الاسلامي. حتى الحركة القومية البعثية نفسها انشقت الى يسار ويمين، وبات القوميون من السياسيين والمثقفين يهربون الى دمشق و بيروت جراء اضطهاد القوميين لهم وتم اعدام الكثيرين منهم والعكس صحيح.
الحركة القومية التي جاءت بمساندة من القوى الاستعمارية للمنطقة وعلى راسها الاستعمار البريطاني والفرنسي مساندين مع ما كان يسمى بالثورة العربية الحجازية الكبرى، وانتشرت الافكار القومية كانتشار النار في الهشيم بين شعوب المنطقة وبين جميع شعوبها. من الطبيعي تلك الشعوب كانت تعاني الامرين من سياسة العثمانيين المجحفة بحق القوميات غير التركية خاصة في ايامها الاخيرة . جاءت الحرب العالمية الاولى كمخلّص لتلك الشعوب والتي تحالفت حتى مع الشيطان من اجل التخلص من الحكم العثماني (نرى تحالف القوميين لاحقا مع النازية الالمانية والفاشية الايطالية). ذلك الحكم الذي بدا السوس يدخل في هيكله وبدا يسمى ب ( الرجل المريض ) وكانت من نتائجها ما يسمى بنهضة
القوى القومية التركية ومطالبات التحديث على الطريقة الغربية. تلك الافكار القومية كانت جهة ومن جهة اخرى الافكار المتأثرة بثورة أكتوبر الروسية وتأسيس الاتحاد السوفياتي وصعود الحزب الشيوعي لسدة الحكم باتا في صراع دائمي .
تلك الافكار اليسارية التي بدأت بالانتشار في الشرق بين المثقفين وفي العراق بصورة خاصة في الجنوب وعلى الحدود الشرقية مع ايران وطبعا في كوردستان. اما الجهة الغربية فبقيت تحت تأثير الحركة القومية كما كان عليها في سوريا ولبنان ومن ثم في فلسطين والاردن. عداء القطبين المتضادين وصراعهما كانت نتائجه كارثية على المثقف العراقي وفي كل من تركيا وايران كذلك
سطوة الفكر القومي على السياسة في الشرق ازداد وهجها مع بروز نجم المرحوم جمال عبد الناصر كقائد قومي والتفت النخبة المثقف المصرية والعربية حوله وبدأوا بتمجيده ونشر فكر الاتحاد الاشتراكي العربي. المثقف العراقي في تلك الفترة بقي صادقا لأفكار اليسار وعانى الأمرين من ذلك في المعتقلات والسجون وحتى صدور احكام الاعدام بحقهم ولا نرى الا اليسير من المثقفين الذين اختاروا الانطواء تحت الراية القومية في عهد المرحوم عبد السلام عارف، و أخيه
المرحوم عبد الرحمن عارف. الهيمنة الفكرية القومية على مفاصل الحياة الأدبية بدأت بعد السبعينات. ظهر عدد من الكتّاب يمدحون نضال حزب البعث العربي في سبيل المثال لا الحصر عبد الأمير معلة في روايةالأيام الطويلة و الأشجار واغتيال مرزوق ل عبد الرحمن منيف والشاعر شفيق الكمالي واخرون كثيرون حاولوا جاهدين بناء ادب حزبي نضالي على شاكلة ما فعل الأدباء السوفييات. اشترك العديد من الأدباء اليسارين كذلك مع التيار القومي بعد اعلان الجبهة الوطنية وخاصة بعد عام ١٩٧٤. حيث أصبح البعث الحزب الوحيد في البلاد و وعدد اعضائه يفوق المليونين.
الصراع بين اليسار واليمين جلب المصائب للمثقف العراقي وبات الانطواء تحت راية كلمة (الاشتراكية) شماعة المثقف.
الديمقراطية كمبدأ للحكم لا يحصر الحياة الفكرية في خندق واحد. تعددية الفكر اغناء للفكر الإنساني. اي منع لنشر اي فكر مهما كان انتماؤه غير مقبول ويجب احترام فكر القارئ في قرار اختياره ما يريد ان يقرأ.
اما الانتماء لفكر اوحد لا يقبل منازع فهو خطر على مستقبل الانسانية جمعاء.
دعوا الزهور تنتشر بألوانها في الحدائق وتنعم الفراشات برحيقها، حتى لو نما بعض الاشواك بينها.
الصورة المرفقة:
كوكبة من الادباء من حملة الفكر اليساري في احدى السجون العراقية. الصورة مهداه من قبل الاديب المرحوم د. زهدي الداوودي طيب الله ثراه.
المكان: العراق، سجن نگرة السلمان
التاريخ: ١٩٦٣
الواقفون:
من اليمين الناقد فاضل ثامر الشاعر يوسف الصائغ المترجم سلمان العقيدي القاص جاسم الجري الشاعر مظفر النواب الوسط من اليمين الشاعر هاشم صاحب، الكاتب نعيم بدوي، الشاعر الفريد سمعان.
الجالسون:
من اليمين الشاعر سالم الخباز، الكاتب هاشم الطعان الروائي زهدي الداوودي. لارواحهم جميعا السكينة والسلام أحياء او اموات.
الصورة الاصلية ب الاسود والابيض.
عذراً التعليقات مغلقة