سمير داود حنوش
يذهبون إلى مدارسهم بلا مصروف، يصنعون حقائبهم من أكياس الرز الفارغة، ملابسهم التي يرتدونها بالية، وعند دخولهم إلى المدرسة يطلبون منهم أن يُغنّوا أناشيد العَلم.
في مدينتي مدرسة أنهكها الزمن وأتعبتها الأيام، تغير فيها كل شيء إبتداءاً من إسمها الذي كان عنواناً من عناوين النظام السابق إلى إسم من مُسميّات النظام السياسي مابعد عام 2003.
لم تبقْ منها سوى ذِكريات الذين درسوا في صفوفها وهم يمرّون من أمام أبوابها أو الذين تختزن ذاكرتهم تلك الأيام التي أطلقوا لها مساحات خيالهم بالزمن الجميل.
رَحل كُل شيء عن المدرسة سوى تلك الأبنية التي مازالت واقفة رغم خطوط التآكل وحيطان الإهمال ومسيرة التعب التي أرهقتْ غُرفها وساحاتها وهي تستقبل وتودّع الطلاب على مدى أكثر من عقود.
بعد إنتهاء تحية العَلم الصباحية وتِلاوة النشيد الوطني وقفت مُديرة المدرسة وهي تتلو ترانيمها للطلبة وتُخبرهم بأن يستعدّوا ويُخبروا آبائهم وأولياء أمورهم لتجهيز المدرسة بالمقاعد الدراسية أو كما يُسميها أهل بغداد بـ(الرَحلات المدرسية) للجلوس في صفوفهم حيث تفتقر المدرسة إلى تلك المصطبات الخشبية، على أن تنتقل هذه الرَحلات مع الطالب حيثُما يتنقّل من صفٍ إلى آخر ويحملها معه أينما رَحَل أو إرتحل.
لم تشعر مُديرة المدرسة بذلك الخجل والحَرج وهي تُخبر طُلابها بهذا الأمر، فالسبب عَجِزَ عنه التعليق ولم يعد الكلام يفي لِحق الإنكار والإستنكار.
وقفت براءة تلك الطفولة عاجزة عن تفسير هذا الأمر سوى ماخزنته عقولهم من إيصال هذه الرسالة إلى عوائلهم الذين تباينت ردود أفعالهم بين مُستهجِن لهذا الفعل ومُستهزئ غير مُبال، حينها أصبح الرضوخ للأمر من حُصّة أولياء الأمور جميعهم.
لم تُفسّر المُديرة لذلك الحشد الطفولي الذي يقف أمامها سبب عجز وزارة التربية عن توزيع الكُتب والمناهج المدرسية في بداية العام الدراسي، مما جعلهم يضطرون إلى شرائها من أسواق المتنبي (أسواق مُتخصصة لبيع الكُتب الدراسية والمناهج والقرطاسية في بغداد) حين إستوجب على الطالب الغني والفقير إضطرارهم لشرائها من تلك الأسواق ولايمكن تصوّر ذلك العبء الجسيم الذي تتحمله عائلة ذات دخل محدود من تحمّل تكاليف ومصاريف أكثر من طالب لديها في تلك المدارس حين تدّعي السُلطة التي تولّت الحُكم بعد عام 2003 بمجانية التعليم.
لم تجرؤ المُعلّمة أن تُخبر طُلابها إنَّ من واجبات تعليمهم أن يوفروا لأنفسهم المقاعد المدرسية ومناهج الدراسة والقرطاسية إنتهاءاً بقلم الرصاص الذي عجزت وزارة التربية عن توفيره في بلد موازناته الإنفجارية وإيراداته الشهرية مايُعادل موازنة دول مجاورة للعراق.
كان الطُلاب أمام الأمر الواقع والإعتراف بذلك المُستقبل القاتم أمامهم والذي يحكي فصول وسنوات الدراسة التي يتوجّب على الطالب إجتيازها وبهذه المعاناة والمشهد التربوي الغارق في الضحالة لِيُنهي سنواته بعد تخرجه من الجامعة بدرجة عاطل عن العمل أو خريج يبحث عن وظيفة وهو يفترش أرصفة الشوارع على أمل أن يُحظى بِفُرصة عمل.
سَرَديّة عمل المدرسة جُزء من واقع النظام السياسي المُتهالك في العراق والذي تهاوى إلى أن أصبح في قعر الحضيض التربوي، وفي مُقارنة ساخرة تدعو إلى القهقهة التي تنتهي بالبُكاء والنحيب للفرق بين الواقع التربوي للعراقيين الذي كانت تتكفّل الدولة حتى بالتغذية المجانية للطلاب يتخللها ذلك الفحص الطبي بين الحين والآخر وعدم إجبار أولياء أمور الطلبة عن شراء تلك المُتطلبات من السوق لإنتفاء الحاجة لها إلى أن إنتهى حال الطلبة اليوم أن تكون وزارتهم يقودها مُنتفعين لتحقيق أرباح خيالية من طباعة الكُتب والمناهج الدراسية في مطابعهم الخاصة التي تمتلئ بها الأسواق للبيع، فيما تخلو مخازن المدارس منها.
هل وصل الخراب إلى التعليم؟ خاب من يقول لا، وعار عليه من يتجاهل ذلك.
في العراق الذي يتقافز سارقيه بالمليارات وليس الملايين عجزت السلطة عن توفير الكِتاب والقلم للطالب لتُخبره بصورة مُباشرة أو حتى غير مُباشرة أنها غير مسؤولة عن مُستقبله، وإن العلاقة بين السُلطة والشعب مثل العلاقة بين مالك الدار والمُستأجر الذي يتوجب عليه دفع الإيجار الشهري مقابل السماح له بالبقاء في المسكن.
لم تخجل مُديرة المدرسة وهي تُجبر طُلابها على شراء لوازم دراستهم لأنها تعلم جيداً أنهم في نهاية المطاف أرقام تُضاف إلى أسواق العاطلين الذين ينكرهم ولايُريدهم الوطن، فهم عبء ثقيل على سُرّاقه ولصوصه.
يطلبون من الطُلاب أن يتغنّوا صباحاً بالنشيد الوطني وهم يعلمون جيداً أن روح الوطنية والمواطنة مفقودة عند هؤلاء الأطفال وذويهم وهم يرون بلدهم المنهوب مغارة تفتح أبوابها لِـ(علي بابا) ولأكثر من ألف حرامي يسرقون وينهبون مايشاؤون وكيفما يُريدون في بلد يطفو على بِحار النفط والخير فيما حُكّامه لايستطيعون توفير قلم رصاص لطلابه، أليست تلك نكتة مُبكية؟.
عذراً التعليقات مغلقة