الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
الإمام علي ( كرم الله وجهه)
الكراهية في السلوك البشري
د. توفيق التونچي
ما الذي يدفع الانسان ان يكره أخاه في الانسانية؟
مَن منّا، قارئي الكريم ،وخاصة من الجيل القديم، جيل الستينات، لم يشاهد الممثل الامريكي سدني بواتيه في فلم ( الى استاذي مع اطيب التحيات ) والذي كان من انتاج عام ١٩٦٧. ذلك الفلم الذي قدّم فكرة الصراع العنصري بين ابناء الشعب من البيض والسود في المجتمع الامريكي. عالج الفلم الموضوع باجمل شكل من خلال استاذ اسمر ذي اصول افريقية يعمل مدرسا في مدرسة معظم طلابها من البيض. يبقى اجمل مقطع في الفلم باعتقادي الشخصي ،حين يكتشف التلاميذ ان الدم الذي يجري من جرح في يد استاذهم احمر قاني مثل دمائهم. وقد مثل سدني بواتيه في ادوار مشابهة اخرى وحول نفس الموضوع. شاهدت الفلم مع اقراني من طلبة الاعدادية الشرقية في الكرادة الشرقية في العاصمة بغداد ( اعدادية الملك غازي سابقا) .
اذا لم تخني ذاكرتي كان في سينما سمير اميس الذي كان يقع في احد الفروع الرابطة بين شارع السعدون وشارع ابو نواس . العديد منّا فكّر في حينه ونحن نتناقش حول موضوع الفلم في استاذ اللغة الانكليزية الاستاذ عدنان الاسود الذي كان يشبه ممثل الفلم كثيرا.
له الرحمة حيا وميتا وكل الاحترام والتقدير.
الكراهية، الحقد والضغينة، العلني والدفين افات تنتشر حصريا بين بني البشر من دون الكائنات الحية ، وتأتي عن وعي ومعرفة. هذه الافة معدية وتنتقل كالمرض منتشرة بين الناس كانتشار النار في الهشيم.
الكراهية تأخذ بألباب البشر ويشل فكرهم و ارادتهم وتطفئ نور وعيهم. يالكراهية تجعل الفرد ان يقوم باتخاذ قرارات خاطئة و بافعال شريرة. ان احد اسباب الحروب والمنازعات تاريخيا يعود الى الكراهية ( راجع مادتنا حول موضوع العدو و العدوانية في السلوك البشري). وذلك على اصعدة الدول والاشخاص. الشخص العادي حين يلاقي احدهم ربما يكرهه مباشرة دون وجود اي سبب معين. هذا ما يسمى بالكيمياء الشخصي بين بني البشر والعكس صحيح.
كنت قد اشرت في مادة سابقة الى تاثير العدوانية على سلوك البشر والشعوب. لا يولد الانسان حاملا معه بذور الكراهية بل هي مكتسبة مع مرور الوقت. قد يكون الخوف احد اسباب الكراهية كذلك. اذ يكره البشر من يخاف منهم من الكائنات الحية والحيوان او حتى المجهول. نرى بان الطلاب عادة يكرهون المدرسين
اللذين يخافون منهم. الكراهية قد تتحول الى سلوك عادي يعتاد عليه البشر.
الصغار لا يعرفون الكراهية. كانت ومع الاسف، الافلام السينمائية بصورة عامة السبب الاساسي لنشر الصورة النمطية حول الافارقة في جميع انحاء العالم. مثلا نرى البواب والخادم في البيت في معظم الافلام الامريكية و المصرية والمسرحيات من الافارقة السود. سألني بواب عمارتي الافريقي، من اي بلد انت؟ فقلت له دون تردد كلنا من افريقيا، ثم اضاف قائلا:
– انت من دون ساكني العمارة تقف معي وتسأل عن حالي و احوالي فأنا من كينيا وقدم نفسه ؛
براون ( اي اللون القهوائي )
وأضاف مازحا علك تعرف المطرب الامريكي الزنجي جيمي بروان.
اما في دور الحضانة فهناك يلعب الصغار معا دون اي تفرقة قومية او عرقية او حتى عقائدية. عملت فترة قبل اكثر من ثلاث عقود مع اطفال مهاجرين قدموا الى السويد لطلب اللجوء اثر الحرب الاهلية في لبنان وحرب البلقان مع انهيار جمهوريات يوغسلافيا السابقة. كانوا يلعبون ويلهون معا دون اي تفرقة عنصرية.
اما الكبار منهم والعياذ بالله فكانوا في خصام دائم مع الافارقة وذلك لسواد الفكر العنصري والكراهية للعنصر الافريقي بصورة عامة.
الكراهية سمة من سمات وعلامات الجهل. الشعوب المنغلقة على نفسها والجاهلة تكون اكثر تعرضا لهذه الافة اي لسلوك الكراهية في حين نرى ان المدن الساحلية بحكم اتصالها مع الشعوب الاخرى لكونها ميناء رسا فيها السفن وعبر تاريخها. هؤلاء ابناء المدن الساحلية كابناء البصرة الابلة هم الاكثر انفتاحا على الغريب. المناطق النائبة والتي تكون عادة منعزلة تكون عرضة لداء الكراهية. حيث نرى انتشار العداء بين القبائل والعشائر لاتفه الاسباب. فتراهم يتقاتلون من اجل الرعي والخصومات العائلية وامور اخرى.
القاء نظرة سريعة على تاريخ اوربا المعاصر تبين مدى التطور الشاسع في سلوك الاوربيين. بعد حربين عالميتين وخسائر بشرية بالملايين وخراب مدن لم تؤثر الكراهية فيهم. اي ان تلك الشعوب المتحاربة اليوم هم اصدقاء لا بل رفعوا القيود عن السفر وتبادل السلع و البضائح متوحدين في دولة الاتحاد الاوربي. لا ريب ان التقدم التقني والفكري كان من الامور المساعدة في زوال الفوارق. سياسة الاتحاد الاوربي بين دولها تساعد على
التقارب وتفهم وجود اختلافات ثقافية حتى ضمن الولة الواحدة. فالكراهية لعنصر معين او لقوم معين يتم مناقشتها علنا. حتى الاحزاب العنصرية التي تستفيد من السلوك الخاطئ للمهاجرين في نشر الكراهية فشلت واليوم تحاول الناي من سياساتها العنصرية وتقدم البديل الوطني على حد تعبيرهم.
اذن قارئي الكريم، حتى الحروب فشلت في نشر الكراهية والبغضاء بين الشعوب. نرى مثالا واضحا في العراق وجارتها ايران فرغم حرب ضروس دام ثماني سنوات لم يتمكن الفكر القومي السلبي من نشر الكراهية والبغضاء بين الشعبين المسلمين. هناك استثناء دائما اذ هناك اشخاص يحملون الحقد والضغينة للاخر لمجرد الاختلاف في الرأي او الانتماء القومي او العقائدي. اما داخليا فنرى ان الحروب المتكررة التي خاضها الحكومات العراقية المتتالية في كوردستان لم تاتي بثمارها وبقى الشعب العربي شقيقا وليس ندا للشعب الكوردي. عاش الكورد في مدن الديلم بعد تهجيرهم القسري وابعادهم واليوم يعيش الالالف من العرب في كوردستان. كما ان المنفين من الكورد وجدوا في العشائر العربية هناك الخليل والصديق وجرى بينهم
حوار حضاري من تزاوج و تصاهر. كما نرى ان انعكاسات الماسي التي ابتلي بها الشعب التوركماني فيما يسمى بمجزرة كركوك عام ١٩٥٩ لم يؤد الا جزئيا الى نمو الكراهية مع الشعب الكردي. الا انه من الطبيعي لمَن فقدَ اهله وبتلك الصورة البشعة ترك اثرا في النفوس ولم يتمكن القوى السياسية من تجاوز تلك الماساة وبقت حية في ضمائر الناس.
هناك كراهية مبطنة وهي نوع من السلوك الانساني المسماة ب التعامل بمكيالين مع الاخرين ويسمى كذلك نفاقا. هناك طائفة من البشر يتقنون ذلك بصورة محكمة ولا تظهر عليهم اي علامة فارقة تدل على الكراهية. بل يظحكون في وجوه الاخرين وفي نفسهم مرض. يؤسفني القول ان تجربتي التي تزيد على الخمسين عاما في اوربا حيث سكنت في ظهراني شعوب عددة، اقول يؤسفني ان اقول بان في الشعب السويدي مثلا وجدت فيهم اناسا الاكثر نفاقا في صداقاتهم. قد تلتقي باحدهم بوجه بشوش وسنحة صديقة لكنه يكرهك في الداخل. وهذا ما يؤكده وجود الاحزاب المتطرفة ومن جذور نازية والمعادية للمهاجرين وخاصة الشرقيين منهم. المؤسف انهم توغلوا في جميع مرافق الدولة
ويعتبرون اليوم القوة السياسية الثانية في البلاد. وبعد ان كانوا يضمرون الكراهية خفية للاجانب من المهاجرين اليوم يقولونه جهرا هذا ما سوف يقسم المجتمع السويدي مستقبلا الى طبقتين ، (نحن) من اصول سويدية، و ( هم) هؤلاء ممن احد اجدادهم من الاجئين. الطرفان المكونان للمجتمع سوف يتقاتلون ويتخاصمون حتى في الشوارع. هذه الصورة تشمل معظم الدول الاوربية فهي قائمة اليوم في ايطاليا و فرنسا وحتى دول مثل المجر. الكراهية مرض معدي كما اسلفت، فحذاري منه. الاستثناء يؤكد العموميات وبطبيعتي لا احبذ قط التعميم.
هناك كراهة تاريخية ويعتمد على الفكر الديني غالبا. هذا النوع من الكراهية تعتبر ازلية وتدخل ضمن السلوك والاعراف عند الشعوب. اما ان تكره الناس لاسباب اقتصادية اي الثروة فهي منتشرة في كافة انحاء الدنيا (حسادة نعمة). وكما اشرت سابقا ان الاتحاد الاوربي يعمل جاهدا في سياسته على خفض الفروقات الاقتصادية بين دولها كي لا تبقى دولة من دولها فقيرة. الجار الغني افضل من ذلك الفقير الذي ربما سيطمع في جاره ويغزوه يوما. المعونات التي قدمت الى ايرلندا غيرت اليوم الحالة الاقتصادية جذيا فيها وكما هي حال
دول البلطيق ودول ما كانت تسمى بالاشتركية رومانيا، بلغاريا، المجر، بولونيا، جمهورية الجيك و سلوفينيا. الرعب مصاحب للكراهية فالذي يكره يعيش في الرعب من الجهة المقابلة الذي يعتبره عدوه اي يعبش في حااة من الاستنزاف. طبعا هذا يكون حال الجهة المقابلة كذلك. الاجهاد الفكري والعقلي يصاحب سلوك الكراهية عند البشر. الكثير من المشاكل النفسية والعقلية ملازمة كذلك لحالات الكراهية العمياء. تلك ما يحصل لحملة الفكر القومي السبي منه فهم يحبون شعوبهم بعاطفية وينسبون كل فعل جميل لهم وفي نفس الوقت يكرهون الاقوام الاخرى لا بل يحاربونهم محاولين افنائهم.
ان معظم الحروب والنزاعات تتم تحت مظلة الكراهية والحقد على الآخر وفي جميع بلدان العالم واين تواجد بني البشر. تبقى الكراهية مقيته وتؤذي كلا الجانبين حتى من الناحية النفسية. اما العفو عند المقدرة والنسيان فيؤديان الى راحة البال.
“عفى الله عما سلف”.
وعفى الله عنا جميعا.
عذراً التعليقات مغلقة