هشام استيتو
خبير حقوقي، ومحلل سياسي، من المغرب
مُناسبة لا تتكر إلاَّ كل ثلاث سنوات يلتئم فيها المحاميات والمحامون من مختلف هيئات المغرب السبع عشرة، إلتأمت بمدينة الدخلة، جنوب المملكة المغربية، في وقت عصيب تمرّ منه مهنة المحاماة التي تعاني من هجمة شرسة ، ترمي إلى إفراغها من صبغتها الإنسانية وطابعا الرسالي عبر مشروع قانون المالية ومسودة قانون مهنة المحاماة.
المؤتمر أبهر المتابعين من محامين وحقوقيين، ونحوهم بما تقدر به مهنة المحاماة في المغرب، في الجلسة الافتتاحية تلويح بإنتهاك حق الإضراب الدستوري والأممي، عبر تذكير الرئيس المنتدب للسلطة القضائية بالتزامات المحامي، دون التعريج على تقيم موضوعي لحق الإضراب، وهو ما قوطع خلاله باحتجاج صاخب، وفي الجلسة الختامية تحريف من رئيس جمعية هيئات المحامين للتوصيات، وعدم ذكر بعضها خصوصا المتعلق بالاستمرار في مقاطعة الإجراءات والجلسات، القائمة منذ نحو شهر، وفراره خارج قاعة المؤتمر وما تلى ذلك من احتجاجات للمؤتمرين ومطالبتهم بإحترام ارادتهم، وتضمين البيان الختامي لتوصياتهم.
وبين هذا وذاك أشغال اللجان على امتداد ثلاثة أيام، مداخلات قوية انصبت في مجملها على تشخيص ما تمر به مهنة المحاماة بالمغرب، وتصورات للحلول نابعة من واقع النضال اليومي الدؤوب الذي يشنه المحامون بالمغرب يوميا ومنذ أسابيع حرصا على مكتسبات مهنية وحقوقية.
المؤتمر الذي سبق أن حضرته في محطتي طنجة حين كنت متمرنا، وبعدها بسنوات في فاس، يحظى بجلال المناسبة التي تهوى إليها أفئدة المحامون بالمغرب من طنجة إلى الكويرة، ولم يتأثر بأشراط الوقت المصاحبة بل كان هو المؤثر، إذ خرج هذه السنة عن مقوماته لا بتدبير من الغير بل بتقصير من أصحاب الدار.
عندما يكون العقل الموجه متخاذلاً فلا تنتظر الكثير، عقل مهادن في سلبياته، تتحكم فيه السياسة ولا يقوم على أساس نقابي، هو عقل لا يمكن أن يترافع عن قضاياه القطاعية، وأقصى ما يمكن أن ينتج هو الفلكور الراقص والنكت السياسية السمجة التي سيخلدها تاريخ المهنة بكثير من مداد الأسف والحسرة، لأن هذا المؤتمر خلف صباح الأحد 27 تشرين الأول /نونبر 2022 خيبة أمل عموم محاميات ومحامو المغرب الذين تابع بعضهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي في ساعات الصباح الأولى فرار النقيب الرئيس من المنصة واحتجاجات الحاضرين.
“والمقاطعة؟ بغينا المقاطعة؟ فين هي المقاطعة.. التوصيات؟ بغينا التوصيات؟ ” قالت زميلة كانت تنقل الأحداث عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي.. كانت قد طلبت نقطة نظام والرئيس لا يلتفت..، يمشي بخيلاء المحترف للهرب، على تؤدة غير مكترث منسحباً ، كما لو أصابه ما أصاب الرؤساء من غير المحامين من مرض السّلطة في شكلها المتخلف السّائد في البلدان القمعية الشمولية، ليتوج المحفل بقطع التيار الكهربائي على قاعة المؤتمر، ويسدل الستار على مناسبة طرحت في تقديري نقطتين أساسيتين:
الأولى، النقاش حول حق الإضراب ومفهوم مساعدة القضاء والطبيعة المتواصلة لخدمات المحامي في سياق حقوقه الإجتماعية والإقتصادية في إطار من الحق الكوني في التعبير والإحتجاج، وسؤال من له الإرادة في حماية هذا الحق، ومن لا يكترث له ومدى الأضرار الوطنية والدولية التي تلحق صورة البلاد في حال تقليص هامش الحرية الدستوري بشقيه الوطني والدولي المعياري، المتمثل في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان المكرسة بالواقع الدستوري الوطني.
هنا يجب على رجل القانون المغربي أن يستلهم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وأن يعض على استقلاله بالنواجد، وأن يربأ بنفسه عن السياسة، وأن يحمي أطراف العلاقة من الغلو والتعسفي والشطط، وإن كان له من دور غير رسمي فلا يجب أن ينتهك مبادئ الحق في الإضراب والعدالة الضريبية، وأن لا يبدي رأيه إلا بما لا يجعله موضع جرح ولا شبهة انحياز لسلطة تنفيذية.
النقطة الثانية، هي ضمانات حيادية جمعية هيئات المحامين بالمغرب، واستقلالها، واحترام قيادتها للمقررات التي تختارها القواعد، بما هي تنظيم نقابي يهدف مما يهدف إليه حمل صوت المنتسبين إلى المسؤلين، وفرض المقاربة التشاركية عليهم، والقطع الكامل مع الميول السياسية والانتماءات الحزبية، وهنا نحن أمام أزمة هيكيلية تتعلق بالجوانب الأخلاقية في جانب والمسارات الشخصية لمن تفرزه صناديق الاقتراع في بلد ديمقراطي وفي قطاع شديد التشبث بقواعد هذه الديموقراطية.
النقطة الأولى، تحتاج الإرادة القضائية الواضحة المستندة إلى التوجيهات السياسية الكبرى للبلاد، ولها من الضمانات ما يكفيها لتحقيق ذاتها المستقلة، وتجسيدها لمفهوم الضمان المطلق للحقوق والحريات، بما فيها حق الإضراب وهي لا يمكن أن تعدم الوسائل التقنية لتفسير فصول القانون، بما لا يعطل الحقوق الإنسانية، وبما يحيد بها عن الخوض في السياسة، سيما وأنها تحفل بتراث فقهي وقضائي بارز، لذلك لا يجب أن تورط في التجاذبات، خصوصا وأنه لم يطلب منها تفسير ولا فصل في نزاع وكان من الحكمة في حديثها الإنصراف إلى المقاربة المعيارية المجردة دون حما النظام العام الدستوري أو على الأقل استحضار التوازن في الخطاب بما يوجه الحكومة إلى التوازن.
أما النقطة الثانية، فتحتاج من المحامين المغاربة التفكير الاستراتيجي في قطع طريق تدبير شأنهم عن الساسة من أصحاب الطموح في المناصب والكراسي، وما ذلك إلا بفرز داخلي حقيقي بين المهني والسياسي، الأخير الذي يقدم توجيهات الحزب عن توصيات المؤتمر، ويراقب ميزان قربه لتوجهات حزبه ليرجحها على إرادة المنتمين إلى مهنته، وهي عملية ميدانية تركن إلى المجاورة اليومية للقطع مع السياسيين لفائدة المهنين.
ولنفكر في الأمر بإيجابية، في الداخلة المغربية، جوهرة الصحراء المغربية، وقلبها النابض، ملتقى طرق الذاهبين إلى الكويرة المغربية، وعمق المغرب الإفريقي كانت مهنة المحاماة مع بداية جديدة، والرهان على شباب مهنة المحاماة بالمغرب لتكون هذه البداية فاتحة أمل للحفاظ على الرصيد الحقوقي المغربي، ناصعا مجيدا، بإشراقة شمس الحق الساطعة إلى الأبد على الصحراء المغربية.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
عذراً التعليقات مغلقة