هشام استيتو
شاعر وكاتب من المغرب
مكالمة صباحية مشرقة بأنفاس الأمل في الغد الجميل، تلقيتها على حين من التيه بين دهاليز الإدارة المغربية الموحلة في شكل ميؤوس منه من التخلف والتشوهات الاجتماعية، عندما لمحت على شاشة هاتفي اسم المبدع الصديق عبد الحق بن رحمون.
ليلة أمس، تلقيت منه اتصالا للمواساة والتعزية في فقد ابني جاد ذي الأربعين يوما، وكانت تختزل هذه الأربعين فصولا من الزمن بين الفرح بسعد طالعه والقرح على مرضه، كانت أيام الربيع المسبوقة بخريف أخذ نصفها وانتهى الأمر بما ينتهي فيه كل خريف.
عبد الحق طرح قادحة الكتابة والإبداع في مكالمته الجميلة وهو ما قادني داخليا إلى سؤال الكتابة؟ وهل هي تعبير محدد الشروط نفسيا ومكانيا وزمانيا؟ أم أنها فعل يلزم من وجود الإنسان ولا يفترض فيه قيد زمني أو شرط نفسي؟
ذكرني اتصال الصديق المبدع عبد الحق بن رحمون بمقال لعلي قرأته أواسط التسعينات عندما كنا نتلهف على الصفحات الثقافية في جريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي وغيرها، ونواظب على مطالعة مجلة أخبار الأدب المصرية، ولا أتذكر بالضبط أين قرأت مقال حول هذه الأسئلة ولا صاحبه، كل ما علق في ذهني منه هو عملية الاستقراء التي خصها صاحبه لطقوس الكتابة لدى كتاب مرموقين من الشرق والغرب.
هذه الطقوس تعطي انطباعا أوليا عن الجواب المتوقع عن سؤال الكتابة وظروفها، وهو ما جعلني آنذاك ببراءة ذلك العمر أبدع طقوسا خاصة جمعت بين حالة درويش في خلواته وبحثه عبر التراث الجمالي والابداعي البشري، وهمنجواي في كتابته عبر كراسته الزرقاء، وسميح القاسم الذي يفضل الكتابة في المطبخ وهو مرتاحا في ملابس نومه.
كنا نحاول تقليد هذه الطقوس وجمعها في طقس فريد وخاص، إلى أن عرفنا أن لكل طقس فريد في الكتابة.
الطقس ما هو إلا شكل لكن الجوهر عصي عن التشكيل ضمن طقس خاص، وما هذا الجوهر إلا الحياة بتفاصيلها المتعددة، بليلها وما يغري، ونهارها وما يلهي، بفصولها التي تتعمد لعبة الإختفاء والظهور، كثعلب محمد الزفاف، بشهورها المتعاقبة التي تستحيل ذكريات متعاقبة تشكل الحياة بمضمونها الوجودي.
الأمر أعمق من ذلك المستحيل في تعقبنا الحثيث للسعادة وانتظار الحياة وربطنا لمفهومها القاصر على الدعة والترف إلى الممكن الذي جبلنا على ملائمته للآمال والطلعات، إنه درجة فريدة بين الحاجة الطبيعية للبوح والحاجة الاجتماعية للتبادل.
الأمر يحيل إلى أثر الكراسة الزرقاء وقلم الرصاص على جودة العجوز والبحر مثلا؟ وهو ما يمكننا الجزم معه بتحديد الترف فقط في نسج الكاتب لطقوس الكتابة.
كان السلف البعيد للبشرية وقبل الكتابة المسمارية يخلق طقوسا عقدية في رسومات الكهوف والمعابد وهو الأمر الذي بقيت مقيدة به رغم تحولها إلى الدور الوظيفي، ومع تطور أوعية الكتابة وسهولتها أصبح للكاتب طقس منفلت عن الإطار الديني.
الإطار الذي توقفت عنده الكتابة في هذه الحقبة الممتدة إلى ما بعد اختراع المطبعة هو إطار مزدوج بين الجانب الوظيفي المتشعب، والإبداعي المقلب ضمن أصناف كانت في الأصل شفوية.
إذن هل كان التعبير الشفوي على ذات الإنسان يخضع أيضا للعنصر الطقسي أم أنه كان عفويا وتلقائيا تحكمت فيه الحالات والنوازل؟
الجواب على هذا السؤال هو مفتاح للجواب على السؤال المركزي المطروح، مما يدفعنا إلى تبني نظرة مختلفة لفعل الكتابة، وكان الجواب من خلال التأمل في لحظات ما بعد التواصل مع الشاعر عبد الحق بن رحمون.
كان الحديث داخليا بلغة مختلفة عن لغة التخاطب مع أساطين البرقراطية الإدارية من موظفين يكادون لا يتحركون من أماكنهم، يعرقلون جمعي للوثائق اللازمة للتصريح بوفاة بطلي الصغير جاد، كنت أحدثهم ببلاغة أخلاقية، وأنتقدهم في قرارة نفسي ببلاغة معيارية الشكل والموضوع.
الأمر كان يصلح ساعتها لكتابة انطباعات تصلح مقالا، أو نظم قصيدة هجاء للتخلف الذي تغرق فيه أوطاننا، لكن الحال لم يكن يسمح بذلك.
الكتابة إذن حاجة لمن وصل إلى لذتها، وفي هذا الخضم العرم، اختار شاعر أن يخفف عني وطأة الحال بسؤاله المستفز للقريحة، وكان الجواب سطورا لم يكتب لها أن تدون، وهو ما أضاع تراثا إبداعيا هائلا، من بنات أفكار المبدعين عبر العصور.
لذة الكتابة تبقى هي الطقس الشعوري الأوحد الموازي لطقس التفكير ولو لم يكن منهجيا، طقس جامع للفكر البشري، ومؤثر في جودة الذخيرة العالمية للنتاج الإنساني المبدع.
عندما عرجت إلى المؤل الجسدي للعصفور جاد في طريقي إلى البيت كانت الصور تسابق الأفكار، والأفكار تتوارى أمام المشاعر، لأتحدث داخليا بالغة التي أكتب بها، كان سؤال الصديق الشاعر عبد الحق بن رحمون بغاية محددة، فهل نجحت غايته؟ أم أنه كان مجتهدا في الاهتمام بي ومواساتي؟ الأهم أن سؤاله كانا دافعا للكتابة.
مقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة