قهوة على نار هادئة
عصمت شاهين دوسكي
على مدار العصور.. مر العلماء والمفكرون والأدباء في معاناة كبيرة بسبب اللا مبالاة .. وفي مآسٍ كثيرة بسبب الفقر وضنك العيش..وفي وحدة قاسية ونفي اجتماعي بسبب قول كلمة حق.. فهل أصبح العلماء والمفكرون والأدباء عبئا ثقيلا..؟ خاصة في ظل الضعف والفساد وزرع اليأس فيهم والمساهمة في هروبهم ولجوئهم إلى دول أوربية بحثا عن الأمان والاستقرار ولقمة العيش وهم طاقات البلد وعقولها المنتجة رغم إنهم بين مطرقة الحق وسندان الجهل..وتقييد الفكر وتكميم الأفواه .. هل أصبح العراة والقوادون والفاسدون والجاهلون والشاذون ذوي حظوظ استثنائية ..؟ هل لا يقرأون لا يفهمون لا يتعظون ..أم أصابهم العمى وهم ينظرون ..؟ هل أصبحت الضمائر في خبر كان ..؟
العد التصاعدي للعذاب للألم مستمر والعد التصاعدي للإبداع والصدق في العواطف والإحساس مستمر رغم كل شيء مع النزيف للتعبير عن الأوجاع والآلام والضيق وبعفوية لا مثيل لها في الكشف والبيان إنها النافذة النقية البنائية التنموية المعبرة في زمن العولمة الرهيبة …ونسأل هل المفكر العالم الأديب من جنس البشر ليتحمل كل هذا الحريق الداخلي للمشاعر والأحاسيس والآهات والزفرات الجريحة القاسية والرؤى الحقيقية للواقع ..؟هل خلق هؤلاء للعذاب والضيق والمشقة حتى الذي يسمعهم يشاركهم العذاب في عوالم التيه والهذيان في زمن سريع غير آبه بما يدار وبما يدور من الإحراق في لجة الحياة . ويجلّي العلامة عبد الرحمن الكواكبيّ (ت 1320هـ/1902م) في كتابه ” طبائع الاستبداد ” قوله: ” فكما أنه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتامُ رشدَهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعيةُ بالعلم؛ فـلا يخفى على المستبد أنْ لا استعبادَ ولا اعتسافَ إلا ما دامت الرعية حمقاءَ تَخبط في ظلامةِ جهلٍ وتِيهِ عَمَاءٍ” .
هناك من العلماء والمفكرين والأدباء يتسولون على الأرصفة المشروخة، وفقراء يتوسلون لقمة عيش كريمة ويفترشون الأرض الباردة حينا والساخنة حينا آخر ويلتحفون السماء .ومن الأحداث الغريبة العجيبة التي ظهرت قيام بعض العلماء والمفكرين والأدباء طوعا بحرق كتبهم بأي طريقة كانت حرقا غرقا تمزيقا وليس من العجب والاستفهام هو أن يقوم هؤلاء الكتاب بإتلاف ما سطرته يداه من معارف طوال أزمنة وبجهد ومعاناة وعذابات ، ربما للإحساس المرهف والعميق من اللا مبالاة وعدم وجود الدعم وعدم تقدير المجتمع والمؤسسات الثقافية ،
هناك الكثير من كبار الفلاسفة والأدباء والمفكرين في التاريخ جديرة بالتأمل خلال ظروف العصر الراهنة ، لأنهم عانوا من الاستبداد ، وعوملوا معاملة ظالمة نتيجة استقلال رأيهم ورفضهم الانصياع وقولهم الحق ومنهم الفيلسوف سقراط الذي يعتبر الأب الروحي للفلاسفة اليونانيين جميعا. لم يؤلف سقراط أي كتاب، لكن إسهاماته الرائدة في دراسة الأخلاق والتربية انتقلت للأجيال اللاحقة عن طريق تلميذيه أفلاطون وزينوفون، كما خلد ذكره مؤلف المسرح الكوميدي الشهير أرسطوفانيس. يقول الأديب رياض عصمت في مقاله “ميتات الفلاسفة ” يذكر التاريخ محاكمة سقراط الجائرة وتوجيه تهمتين له، إحداهما إفساده عقول الشباب، والثانية الزندقة وعدم إيمانه بالآلهة الوثنية التي كان يعبدها الإغريق في ذلك العصر، فأدين وحكم عليه بالإعدام. اشتهرت محاكمة سقراط في التاريخ، وضرب فيها المثل. كذلك افلاطون فرض عليه الإقامة الجبرية. بالتالي، مات أفلاطون مقهورا في سريره عن عمر تجاوز ” 81 ” سنة بينما كانت صبية تعزف له الناي. هكذا رحل أفلاطون عن الدنيا دون أن يهنأ في آخر سنوات عمره بالحرية التي حلم بها وكافح من أجلها طويلا. والعالم ارسطو العالم واسع الاطلاع، عميق المعرفة، لاقى من الظلم الشيء الكثير، واتهمه بعض رجال الدين بالزندقة والإساءة للدين، فاضطر إلى الفرار من أثينا واللجوء إلى ملاذ آمن في أملاك والدته. قال أرسطو بعد نجاته من الموت في تلميح إلى إعدام سقراط الظالم: ” لن أسمح للأثينيين أن يرتكبوا الخطيئة نفسها مرتين ضد الفلسفة “. هكذا، قضى أواخر سني حياته لاجئا، منفيا، محروما من الاحتكاك بالمجتمع الذي كرس حياته وفكره لخدمته. ننتقل زمنيا من عصر الإغريق إلى عصر الرومان، فنجد قصة مقتل الفيلسوفة هيباتيا، عالمة الفلك وعبقرية الرياضيات، التي أجادت التعليم ونشر أفكارها العلمية في حركة تنوير جادة، لكنها تعرضت إلى الاغتيال في شوارع الإسكندرية من قبل حشد من الرعاع المتعصبين دينيا بدوافع يجمع المؤرخون على كونها نتيجة تحريض خفي ضدها وضد أفكارها التحررية. ويشكل مصرع الحلاج أمثولة رهيبة عن الاستبداد. كان الحسين بن منصور الحلاج أحد كبار الفلاسفة والأدباء الذين اضطهدوا دون ذنب كتب الشاعر المصري صلاح عبد الصبور مسرحية شعرية رائعة عن فيلسوف الصوفية الشهيد أسماها ” مأساة الحلاج “، وهي تعتبر من أروع التراجيديات المسرحية ومصرع الجاحظ، صاحب كتاب ” البخلاء “. ولد الجاحظ في البصرة خلال العهد العباسي، عاش الجاحظ أكثر من 90 عاما، لكن موته جاء عبثيا للغاية، إذ سقط عليه رف من مكتبته العامرة، فدفن تحت كتبه. والأغرب بعد موتهم تقام لهم التماثيل في الحدائق والساحات العامة ..هناك عشرات النماذج الأخرى لدى مختلف الأمم. توجد قصص عن مصرع فلاسفة ومبدعين قضوا ظلما رغم كل عطاءاتهم الإنسانية، ولم يلاقوا في شيخوختهم التقدير المستحق والتكريم اللائق.
لو سألنا لماذا الكفاءات تهاجر إلى بلدان أوربية ؟ وماذا يحتاج هؤلاء اكثر سكن وراتب يبعدهم عن السؤال والذل ،هل هناك منهج لإفراغ البلد من الكفاءات العلمية والفكرية والأدبية ؟ والبلدان الأوربية تستفاد من هذه العقول المبدعة وتسخر إمكانياتهم العلمية في تطوير بلدهم خاصة إنهم لا ينفقون شيئا لتعليمهم فهم جاهزون للعطاء بسبب مؤهلاتهم المتقدمة وخبراتهم الراقية وملاكاتهم الرصينة وهذا يعد مكسبا كبيرا لهم بالمقابل تبقى الدول المتفرغة من الطاقات العلمية والأدبية متخلفة علميا وأدبيا وإنتاجيا واقتصاديا ، متى نفكر في عودة الكفاءات ..؟ عودتها بعد توفير الفرص المتقدمة والتخطيط السليم وبعد الجاهزية والتكاملية السياسية والاقتصادية والثقافية للمشاركة اجتماعيا وتنمويا في كل المجالات ، فخسارة العنصر البشري المؤهل الواعي المتعلم والمثقف والمفكر يترك فراغا كبيرا ولو قارنته بين وجوده في بلده وبعد هجرته إلى الدول الأوربية لوجدته متقدما مبدعا منتجا في كافة المجالات العلمية والطبية والهندسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والفنية والثقافية .. يا ترى لماذا لا تستغل هذه الطاقات في البلد ..؟ بدلا من هروبهم إلى بلدان العالم علمائهم لهم مكانة خاصة في العمل والإنتاج والاختراع وتسهيل كل شيء للمواطن لعيش بيسر ورخاء وسعادة وعلمائنا يهربون إلى أحضان الأجانب ليقدموا مخترعاتهم وإبداعهم مجانا للآخرين لأنهم يعرفون قدر الإنسان العالم والمفكر والأديب والفنان والمخترع وحتى الإنسان العادي البسيط يعيش برخاء وفرح وسعادة .
قهوتي لم تنته ما زالت على نار مستعرة لكنها هادئة، وأرجو أن لا يكون المفكرون والعلماء والأدباء عبئا ثقيلا على البلد لكي لا نخسر وجودهم المتقدم وعطاؤهم الكبير للمساهمة في تنمية وبناء حضارة إنسانية متقدمة راقية.
عذراً التعليقات مغلقة