د. فارس الخطاب
من تابع جلسة محاكمة الرئيس السوداني السابق عمر البشير في العشرين من ديسمبر ٢٠٢٢م تقفز إلى ذاكرته فروقات المحاكمات للرؤساء العرب كل بحسب علاقته ومواقفه من الولايات المتحدة، ورغم أن المحاكمات جرت وتجري بطاقم قضاة ومدعون عامون من أقطار هؤلاء الرؤساء، إلا أن بصمة واشنطن ظاهرة فيها كما أن الأحكام الأخيرة لقرارات القضاة كانت وستكون بحسب درجة عداء هذا الرئيس العربي أو ذاك للسياسات الأميركية في بلاده أو في إقليمه.
لسنا بمعرض الدفاع عن أي رئيس عربي أو غير عربي فكل يتحمل في نهاية المطاف عواقب قرارته إضافة إلى ما سيسجله التاريخ عنه سلباً أم إيجاباً، لكن علينا أن نعرف أن طريقة تلوين محاكمة أي رئيس عربي أميركياً تعتمد إلى حد كبير على ما طُلِبَ منه أميركياً بداعي الإلتزام بإطاره أو الخروج عن الحدود المسموح لها به للمناورة في سياقات تنفيذه.لدينا – وخلال السنوات العقدين الماضيين – تجارب حية لمحاكمات وضعت رؤوساء دول عربية كبيرة ومؤثرة خلف قضبان السجون وفي أقفاص الإتهام داخل قاعات محاكمة متعددة المظاهر، منهم الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، الذي حظيت محاكمته بأكبر نسب متابعة، سلبيا كانت أم إيجابيا، والرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، والرئيس المصري الراحل محمد مرسي وأخيراً الرئيس السوداني عمر البشير.
صدام حسين الذي أمر الحاكم الإداري الأميركي المدني السابق للعراق بتشكيل محكمة خاصة لمحاكمته، فيما كان هناك جدل كبير أثارته الصحافة الأميركية والبريطانية حول صواب قرار الإدارة الأميركية كون الرئيس العراقي قد تم القبض عليه خلال الحرب على العراق ومن قِبل الجيش الأميركي، علماً أن وزارة الدفاع الأميركية أعلنت بعد إلقاء القبض عليه أنه سيتمتع بوضعية “أسير حرب” لكنها تراجعت لاحقاً عن ذلك، وأوعز الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش إلى بول بريمر لتشكيل محكمة خاصة به وبمعاونيه؛ ونعتقد أن سبب تراجع إدارة بوش في منح صدام حسين صفة أسير الحرب يرجع إلى كون أسرى الحرب يتمتعون بميزات خاصة وحدود لا يجوز تجاوزها، إذ تقوم اتفاقية جنيف الثالثة على فكرة مفادها أن أسرى الحرب يحتفظون بوضعهم العسكري ويعاملون معاملة إنسانية، يذكر أن حديث القيادات الأميركية عن التعامل مع صدام كأسير حرب قابله موقف مجلس الحكم الانتقالي على لسان المتحدث باسمه حميد كفائي الذي أكد في تصريح إعلامي “أن سلطة الائتلاف وافقت على تسليم صدام ورموز النظام السابق المعتقلين لديها لمحاكمتهم أمام محكمة جرائم الحرب العراقية”.
لسنا بمعرض الدفاع عن أي رئيس عربي أو غير عربي فكل يتحمل في نهاية المطاف عواقب قرارته إضافة إلى ما سيسجله التاريخ عنه سلباً أم إيجاباً، لكن علينا أن نعرف أن طريقة تلوين محاكمة أي رئيس عربي أميركياً تعتمد إلى حد كبير على ما طُلِبَ منه أميركياً بداعي الإلتزام بإطاره أو الخروج عن الحدود المسموح لها به للمناورة في سياقات تنفيذه
كانت لمحاكمة صدام حسين ردود أفعال مختلفة في العراق وخارجه، فصحيفة “الوطن” السعودية وصفت قرار بريمر بالمهزلة لأن “الاتهامات الموجهة لصدام ومعاونيه تتجاهل الإجراءات القانونية”، فيما حذرت منظمات دولية ومنها هيومان رايس من محاكمة غير عادلة وعبّرت عن خشيتها من عجز المحكمة عن القيام بمحاكمة فيها تكافؤ بين الدفاع والاتهام، أضف إلى ذلك فإن الحضور الأميركي جعل من مهزلة هذه المحكمة تبدو وكأنها إسقاط لدور الرئيس العراقي الراحل في الدفاع عن نفسه وإظهار الحقائق؛ فقد خصص الكونغرس الأمريكي مبلغا قدره 128 مليون دولار من أجل تحضير الأدلة والوثائق ضد صدام. وقد أكد فريق الدفاع الدولي عن صدام هذه المخاوف ومنهم محاميه خليل الدليمي الذي قال إنه “لم يتمكن من دراسة ملفات الاتهام لأنه لم يحصل على أية وثيقة رسمية تدين موكله”.
لقد أوجز صدام حسين الدور الأميركي في محاكمته عندما وجه كلامه لقاضي المحكمة قائلاً” لولا أميركا لا أنت ولا أبوك يمكن أن يأتي بي لهذا القفص” لإنه يعلم أن وضعه القانوني يستدعي إما تشكيل محكمة جنائية دولية إسوة بما حصل من النزاعات الدموية في يوغسلافيا السابقة، وجرائم الإبادة الدولية التي حدثت في رواندا في تسعينات القرن الماضي، وهو يعلم أن المادة 84 من الاتفاقية الدولية بشأن محاكمة أسرى الحرب تنص على أن “محاكمة أسير الحرب من اختصاص المحاكم العسكرية وحدها، ما لم تسمح تشريعات الدولة الحاجزة صراحة للمحاكم المدنية بمحاكمة أي من أفراد قوات الدولة الحاجزة عن المخالفة نفسها التي يلاحق أسير الحرب قضائياً بسببها .ولا يحاكم أسير الحرب بأي حال بواسطة محكمة أياً كان نوعها إذا لم تتوفر فيها الضمانات الأساسية المتعارف عليها عموماً من حيث الاستقلال وعدم التحيز.)· والصورة التي كانت عليها محاكمات صدام حسين كانت تفتقد عناصر الاستقلال وعدم التحيز والسعي الحثيث للإنتقام منه بغطاء أميركي بدءاً من طريقة إدخاله إلى المحكمة وحجم السلاسل التي كان يقيد بها إلى تجاوزات القضاة اللفظية والتي بمجملها أساءت كثيراً لسمعة واشنطن كراعية للحريات وحقوق الإنسان والعدالة، كما تدعي.
أما الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، فهو نموذج لمحاكمة لونتها الولايات المتحدة بما تملكه من قوى وأذرع داخل مصر، فالرئيس الراحل، ورغم توجيه تهم الاشتراك في قتل والشروع في قتل مئات المتظاهرين الذين خرجوا للتظاهر احتجاجاً على نظامه في المظاهرات السلمية التي اندلعت في محافظات عديدة، منها القاهرة والإسكندرية والسويس في الفترة ما بين 25 و31 يناير/كانون الثاني 2011، وعلى الرغم من وجود المزيد من الإصابات والوفيات في الاحتجاجات المتواصلة ضد حكم مبارك في الفترة من 31 يناير/كانون الثاني وحتى الإطاحة به في 11 فبراير/شباط 2012 فإن التهم الموجهة لمبارك ارتبطت فقط بالأحداث التي جرت حتى 31 يناير/كانون الثاني2011م.
ورغم أن القانون المصري يدين كل من أصدر الأوامر أو اتفق مع آخرين على ارتكاب جريمة جنائية تفضي إلى القتل، ونصت مواد واضحة من هذا القانون على إيقاع عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد إلا أن مبارك تمت معاملته كرئيس “سابق” وأنه كان يحضر المحكمة من مستشفاه في شرم الشيخ التي نقل إليها قبل يوم واحد من صدور قرار النائب العام بإيداعه هو ونجليه علاء وجمال سجن طرة، بقي مبارك في مستشفى شرم الشيخ حتى بدأت محاكمته في ٣ أغسطس/آب 2011م في أكاديمية الشرطة في القاهرة التي تحولت إلى ساحة قضاء، وظهر مبارك راقدا على سرير متحرك داخل قفص الاتهام ومعه نجليه علاء وجمال، طبعاً الجميع يعلم وربما علِمَ لاحقاً أن هذا الإخراج لعملية نقل مبارك بطائرة هليكوبتر ومشهده داخل قفص الاتهام وهو يرتدي نظاراته الشمسية، وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد يوم السبت 2 يونيو 2012م، لم تكن هذه الإجراءات إلا مسألة وقت حتى يتم التغيير في مصر من جديد بترتيب أمريكي وليكن متغير الأحكام الصادرة بحق مبارك هو التبرئة التامة من كل التهم التي وجهت إليه في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2014م، فيما سبق هذا الإجراء إخلاء سبيل مبارك بعد إنقضاء فترة الحبس الاحتياطي يوم 21 أغسطس/آب 2013م.
عاش الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك بعد تبرئته حياةً طبيعية ووفرت له الدولة الحماية والرعاية الصحية وسواها حتى توفي في يوم 25 فبراير/شباط 2020م عن عمر ناهز 91 عاما، وشُيع في جنازة عسكرية بحضور رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، وإعلان الدولة الحداد الرسمي لثلاثة أيام.
نبقى في جمهورية مصر العربية مع محاكمة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، والتي وصفت بإنها المحاكمة “الأظلم” لرئيس دولة، سواء في القضايا التي أحيل للمحاكمة بسببها أو بطريقة وأسلوب التعامل معه في المعتقل وفي قاعة المحكمة، نعم، فالرئيس الراحل لم يأت بانقلاب أو خلفاً لرئيس سابق بل هو نتاج ثورة مصرية كانت وما زالت مضرباً لأمثال الثورات، ثورة تقدمها وغذاها شباب مصر أفضت إلى إنهاء حقبة حكم هزيل امتدت لأكثر من ثلاثة عقود.
الثورة المصرية التي أجبرت الرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك على التنحي عن الحكم، وفّرت الظروف القانونية والشعبية لإجراء انتخابات شفافة لاختيار رئيس الجمهورية ولممثلي الشعب في مجلس الشعب المصري المقابل. فاز مرسي برئاسة الدولة وكان حكمه حكما شفافاً لم يشهد أية عمليات إنتقامية من الأجهزة التي كانت تمثل يد الحاكم السابق “مبارك” الضاربة في تصفية خصومه، حتى قيل عن فترة حكم مرسي بأنه ” لم يسع إلى تصفية الخصوم أو التنكيل بهم أو زجهم بالسجون وكان نصيرا للإعلاميين والصحفيين، وهو رجل دين بالمقام الأول، لم يغلق قناة فضائية خصوصا تلك القنوات التي تروج لفساد الأخلاق ولا القنوات المحسوبة على معارضيه إيمانا منه بحرية الإعلام. وكان بسيطا بساطة الفلاح المصري وكان يؤكد رئاسته لكل المصريين مسلمين وأقباطا”.
المهم في تحليلنا هذا هو دور واشنطن فيما جرت فيه المقادير بمصر العربية؛ فالولايات المتحدة التي توقعت إشارات إيجابية من رئيس مصر الجديد لتأكيد إستمرار تبعية القرار المصري بالقرار الأمريكي بدأت وبمساعدة حلفاء لها في المنطقة العمل بشتى الوسائل لإزاحته وتبديله، فكانت الخيارات محدودة في ظل التفاؤل بتغييرات إيجابية للإقتصاد المصري وتحسن أحوال الشعب المتعب جراء الأزمات المتكررة في هذا البلد قبيل الثورة، لكن من تم التوافق معه هو وزير دفاع محمد مرسي، عبدالفتاح السيسي الذي وفّرت له دول إقليمية كل مستلزمات الحشود الجماهيرية للتهيأة لإجواء إسقاط حكومة مرسي الذي لم يحرك ساكناً واعتبرها مشهدا من مشاهد الديمقراطية الجديدة في بلاده، فكان لهم ذلك .
ففي العام 2014 وبعد أن تحرك الجيش إثر احتجاجات شعبية حاشدة شارك فيها رجال الأزهر والكنيسة والمعارضة والقوى السياسية لعزل محمد مرسي – أول رئيس منتخب ديمقراطيا- تمكن من الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، فيما إلتزمت أمريكا والإتحاد الأوروبي بموقف ضبابي من الإنقلاب العسكري المدني الديني، فأمريكا والإتحاد الأوروبي لا يقران الإنقلابات العسكرية ولا يباركاها لأنها لا تتماشى ولا تتوافق مع ثوابتهم الراسخة! ومن حيث الواقع فإن زمن الإنقلابات العسكرية قد ولّى.
لم يشاهد أبناء الشعب المصري رئيسهم المخلوع بعد الإنقلاب إلا من خلال ظهوره للمرة الأولى أمام محكمة الجنايات في معهد أمناء الشرطة بطرة، في 4/11/ 2013، وتعددت التهم الموجهة إلى محمد مرسي، منها الهروب من السجن بعد اعتقاله غير الشرعي في يناير/كانون الثاني 2011، والتخابر مع حركة حماس، والتخابر مع دولة قطر، والتخطيط لأحداث الاتحادية الدامية، وإهانة القضاء المصري وسب وقذف أحد القضاة، فضلاً عن تهمة ثابتة في كل القضايا تتمثل في قيادة جماعة إرهابية، هي جماعة الإخوان المسلمين، لقد قال مرسي، في أول ظهور له: “أنا الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية. ما حدث هو انقلاب عسكري، وهذه المحكمة يجب أن تُخصص لمحاكمة قادة الانقلاب وليس محاكمتي”.
لقد تعمدت قوى الإنقلاب في مصر على محاولة إذلال محمد مرسي كرئيس سابق، وعلى إفتراض إنه يملك من المعلومات والتفاصيل ما يدفع لجعل محكمته “خاصة” وليس محكمة جنايات حاله حال أي مجرم، غير إن إجراءات محاكمة الرئيس المصري السابق محمد مرسي كانت خالية من العدالة، فهي لم تؤكد إدانته بأي من التهم المسندة إليه؛ بل على العكس فقد تعرض لإخفاء قسري تام منذ عزله من الحكم وحتى ظهوره في المحكمة في خريف العام 2013. وخلال تلك الفترة، التي ناهزت 4 أشهر، كان يتنقل بين معتقلات عسكرية مختلفة، وتم التحقيق معه بصورة غير قانونية ودون حضور محاميه عدة مرات، وتمسك بالصمت وضرورة محاكمته أمام محكمة خاصة بمحاكمة رؤساء الجمهورية.
لقد توفي محمد مرسي في المحكمة بعد جولة من المعاناة والصبر والصمود في ظل تجاهل رسمي وقانوني لمواد الدستور المصري 159 ثم المادة 152 من الدستور المصري المقر عام 2012م، .وفاة قالت عنها منظمة العفو الدولية في بيان “إن نبأ وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي في المحكمة اليوم يثير صدمة عميقة ويثير تساؤلات جدية حول معاملته في الحجز، السلطات المصرية تتحمل مسؤولية ضمان تلقيه الرعاية الطبية المناسبة كمحتجز”.
آخر المحاكمات كانت وما زالت مع الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في 30 يونيو 2022م، نقلتها قنوات التلفزيون السوداني ومن خلالها انتقلت لجميع شاشات العالم، جلسة لم يلتفت المعلقون عليها سوى لموضوع إعلان البشير عن تحمله” كامل المسؤولية عما تم في 30 يونيو 1989م”. إضافة إلى قوله إن “تدخل القوات المسلحة كان بسبب عجز السياسيين في إدارة الشأن العام.
كل ما ذكره الرئيس السوداني المخلوع والمعتقل هو لمصلحة المؤسسة العسكرية في السودان، وهي محاولة لتجديد ثقة الشارع السوداني بالقيادة العسكرية التي انقلبت عليه وبرضا بعض القيادات المدنية التي حضرت جلسة المحاكمة، لكن ما يلفت المدقق والمحلل للمادة الصورية التي رافقت هذه الجلسة هو حجم الراحة والأمان بل والاسترخاء الذي ظهر فيه البشير بما أفضى إلى أن يتحدث عن تجربة انقلاب 1989م بكل تفاصيل أسماء ومواقع الذين شاركوا معه فيها، ودور كل شخص منهم، كما أن قيافته المدنية كانت تنم عن اهتمام ورعاية بنفسه أولاً ثم من خلال الذين يحتجزونه، ملاحظة أخرى هي أن معه مرافقون عدة كطبيب ومقدم خدمات وآخرين، حتى إنه توقف خلال سرده لمسؤوليته عن انقلاب 1989م ليقوم طبيبه بقياس ضغطه ونسبة السكر في الدم.
صحيفة “هيل” الأمريكية أكدت إرسال واشنطن مبعوثا أمريكيا خاصا للسودان من أجل دفع الاتفاق الذي وقع بين القوى المدنية والعسكريين كونه الأساس للتحول المدني. مذكرةً بمشاركة الولايات المتحدة النشطة في السودان، ولافتة إلى أن من مصلحة أمريكا نجاح الانتقال في السودان وقالت: “إن السودان الأكثر استقراراً وديمقراطية سيرسل رسائل قوية عن الدور الأمريكي عبر القرن الأفريقي ما يؤثر على النزاعات في كل من ليبيا واليمن”، وبحسب القراءات الأميركية فإن إعدام الرئيس المخلوع عمر البشير ستزيد المشهد السوداني توترا وانفلاتا لن يكون في مصلحة التغيير المنشود في السودان خصوصاً بعد تطبيعها لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل.
عذراً التعليقات مغلقة