د. عماد الدين الجبوري
بعدما فاز بنيامين نتنياهو بالانتخابات الإسرائيلية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، تعهد بالسعي إلى إقامة علاقات رسمية مع السعودية، وذلك ضمن النهج الناجم عن “اتفاقيات إبراهيم” عام 2020، التي بموجبها أبرمت التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب، ثم السودان في مطلع عام 2021. وترمي إسرائيل من ذلك إلى تشكيل دفعة جديدة قوية إلى عملية السلام في الشرق الأوسط.
ومن هذا المنطلق، بحث نتنياهو مع مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان يوم الخميس المصادف 19 من الشهر الجاري، بإمكانية تحقيق فرصة تفضي إلى تقارب دبلوماسي مع الجانب السعودي. وفي اليوم التالي، أكد وزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان، أن بلاده لن تقوم بالتطبيع مع إسرائيل من دون إقامة دولة فلسطينية، ونشرت الخارجية السعودية تصريحه عبر حسابها على تويتر أن “التطبيع والاستقرار الحقيقي لن يأتي إلا بإعطاء الفلسطينيين الأمل من خلال منحهم الكرامة، وهذا يتطلب منحهم دولة”.
لماذا تصر إسرائيل على التطبيع مع السعودية؟
وفق المخططات والأهداف الإسرائيلية القريبة أو البعيدة المدى، أن تضعف ثم تزيح قوة الدول العربية الرئيسة، التي تجابهها بالحدود مباشرة أو غير المباشرة. وهكذا تم تنفيذ مخطط بن غورين (1886-1973) تجاه ثلاث دول عربية تشكل خطرًا حقيقيًا على وجود إسرائيل ومستقبلها، فتم إخراج مصر أولًا من الصراع العربي-الإسرائيلي، عبر اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978، فاختل الميزان العربي قليلًا لصالح العدو الصهيوني. بعدها تم استهداف العراق بعدوان ثلاثيني ضم جيوش 28 دولة تقودها الولايات المتحدة عام 1991، ثم أجهزوا عليه عام 2003 بذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وأخرجوه من ميزان المعادلة في المنطقة نهائيًا. وجاء الدور على سوريا، لكن بطريقة مغايرة، وذلك بإشعال حرب داخلية بلا حسم مهدت لقدوم قوات إيرانية وروسية وأميركية، ليسدل الستار عن مواجهة الكيان الإسرائيلي تمامًا.
ومع قدوم الخميني من فرنسا ونظامه المدعوم من الغرب، الذي أخذ يفتك بالمشرق العربي عبر مشروعه الطائفي والعنصري في تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني في كل دولة عربية، حتى قتل وشرد ودمر في العراق وسوريا ولبنان واليمن عشرات الأضعاف من سلسلة الحروب العربية الإسرائيلية. وجراء غياب مشروع عربي يجابه المشروع الإيراني، تحركت إسرائيل بضربات عسكرية استعراضية للتمدد الإيراني في الدول-العربية، لتبدو بأنها معنية أيضًا بالتصدي لهذا الخطر المشترك مع العرب. وهكذا حققت إسرائيل اختراقات دبلوماسية سهلة ومجانية في دول عربية عدة، خاصة الخليجية، التي ليست لها القدرة العسكرية بمحاربة إيران، أفضت إلى التطبيع عبر “اتفاقية إبراهيم” التي هي أكثر خطورة على العرب والإسلام من “اتفاقية كامب ديفيد” نفسها، لأنها تمس تغيير العقيدة الدينية والرسالة السماوية التي هبط بها الوحي على نبينا الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تمتد من الداخل إلى الخارج، خاصة في الجانب الاقتصادي. وبذلك، تضع المملكة في إستراتيجيتها أبعادًا عربية وإسلامية توافق رؤيتها ولا تتعارض معها.
وفي غضون السنتين الماضيتين، كررت إسرائيل محاولاتها بالإصرار على فتح فجوة دبلوماسية رسمية مع السعودية. ومن الواضح، أن إسرائيل ترى في هذه المرحلة الوقت المناسب لجر السعودية نحو عملية السلام، وبهذا الفعل تستطيع أن تندمج بالمنطقة العربية بشكل يجعل مستقبلها الوجودي أكثر ضمانًا وأمتن استقرارًا.
وبحسب تصوري، أن السعودية لن تستجيب إلى الإصرار الإسرائيلي بتلك السهولة، ولأسباب رئيسة عدة، أهمها ما يلي:
أولًا: في المرحلة الراهنة تشكل السعودية أهم ثقل مركزي للأمة العربية، فهي القوة الإستراتيجية الوحيد في المشرق العربي.
ثانيًا: تُعدّ المملكة مركز العالم الإسلامي، إذ تحتضن “الكعبة” قِبلة نحو مليارين مسلم.
ثالثًا: التزام السعودية الثابت بمقررات القمة العربية في بيروت عام 2002. فالسعودية هي التي طرحت “مبادرة السلام العربية”، وحصلت على إجماع عربي، فأصبحت المسؤولة الأولى في تحقيق أهداف تلك المبادرة بإقامة دولة فلسطين.
رابعًا: رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تمتد من الداخل إلى الخارج، خاصة في الجانب الاقتصادي. وبذلك، تضع المملكة في إستراتيجيتها أبعادًا عربية وإسلامية توافق رؤيتها ولا تتعارض معها.
خامسًا، سياسة السعودية المتزنة في المحافل الإقليمية والدولية، وكذلك قوتها الاقتصادية وبنيتها الآخذة بالتطور العالي، لا تضعها في حاجة ضرورية إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بل الطرف الآخر هو الذي يحتاجها.
سادسًا: فلسفة الدبلوماسية الهادئة التي تنتهجها المملكة منذ قرن تقريبًا، تواجه فيها المستجدات والمتغيرات التي تطرأ في المنطقة وفي العالم. وعليه، لن تندفع السعودية نحو إسرائيل إلا بما يوافق نهجها السياسي التي أعلنت عنه.
ومن مجمل النقاط المذكورة أعلاه، فإن إصرار إسرائيل بجر السعودية نحو عملية السلام، فإن الأخيرة ليست مضطرة بالمرة للانجرار إلى هذا الإصرار الأحادي الجانب. خاصة أن عموم الاتفاقيات جاءت نتائجها لصالح إسرائيل فقط، وكبلت الأنظمة السياسية العربية المتطبعة بقيود أضعفتها أكثر من ذي قبل.
كما أن القيادة السعودية على دراية كلية من خطورة التطبيع مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطين، القابلة للعيش باستقلالية وأمان. إذ أن إيران ما زالت تعمل سرًا وعلانية في خطة “الطريق إلى مكة”. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تركيا، إذ ستعيد إحياء مشروع تدويل مكة. ناهيك بالكلام عن “الإخوان المسلمين” المتربصين بالنيل من المملكة وقيادتها الشابة.
صفوة القول، أن موقف السعودية واضح ولا يخرج عن الاجماع العربي في مقررات قمة بيروت، وأن دعوات أقصى اليمين المتشدد في إسرائيل، الذي يتزعمه نتنياهو بفتح فجوة دبلوماسية مع السعودية لن تتحقق بتلك السرعة المطلوبة، فالمصلحة السعودية مرتبطة بمركزية ثقلها في العالمين العربي والإسلامي، وليس بمصلحة إسرائيل اللقيطة.
سركول الجاف منذ سنتين
احسنت وسلمت يداك دكتور وان شاء الله السعودية تبقى ثابتة على موقفها