الدكتور فارس الخطاب
كاتب عراقي مقيم في لندن
انطلق في ثمانينات القرن الماضي من إذاعة بغداد برنامج يومي كان يمثل صوت القوات المسلحة العراقية لحشد الطاقات العسكرية والمدنية خلال الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، أطلق عليه اسم “هنا البصرة”.
ويثير إطلاق هذه التسمية عدة تساؤلات إعلامية وسياسية، مرجعها جميعاً السؤال: لماذا البصرة؟ رغم أن رحى الحرب كانت في كامل الشريط الحدودي مع جمهورية إيران الإسلامية، وربما كانت في قواطع أخرى أشدّ ضراوةً وأخطر مصيرا؟ يبقى الجواب دائماً، إنها البصرة المدينة المعشوقة والمدينة التي لا يقبل أي عراقيٍّ أن تستباح أو يُذلُ أهلها.وصف العراقيون البصرة بثغر العراق الباسم، ومدينة العلماء والأدباء، ومنهم الحسن البصري (ت. سنة 110 هـ)، ومفسّر الأحلام، محمد بن سيرين (ت. سنة 110 هـ)، وصاحب معجم العين وواضع علم العروض، الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت. سنة 160 هـ)، والعلم البارز في الأدب العربي صاحب كتاب الحيوان (ت. سنة 225 هـ). والشاعر بدر شاكر السياب (ت. سنة 1964).
ولم يذكر التاريخ أن مصيبةً أتت على العراق مصدرها البصرة، بل كانت بوابة العراق على مياه الخليج العربي، وكانت مرتعاً وسوقاً لمواطني دول الخليج العربي، ثم مدينة الفرح لكل من وطئ أرضها، بدءاً من طيبة أهلها وعذوبة ترحابهم بالغريب، وإنتهاءً بما حباها الله من نخلٍ ذي تمرٍ لا يشبهه أي تمرٍ في العالم.
عندما جاء الحكم الجديد في العراق عام 1968، لم يجد غير البصرة سبيلا ليفتح أول برامجه للعلاقات العامة مع الدول العربية، وخصوصا الخليجية التي تحسّبت وتوجست للمتغير السياسي الأيديولوجي في العراق. كان هذا الفتح عبر بوابة البصرة، فكان مهرجان المِربد الشعري الأول عام 1971 الذي أحيا أمجاد مهرجان سوق المربد التاريخي، الذي كان من المهرجانات ذائعة الصيت خلال فترة الخلافة الأموية، وشهد حضور شعراء فطاحل، كجرير والفرزدق وبشار بن برد وأبو نواس، وغيرهم، فكان لمبادرة العراق إحياء هذا المهرجان استقطاب لشعراء الأمة الكبار أمثال محمد مهدي الجواهري، نزار قباني، شفيق الكمالي، أدونيس وغيرهم. ثم توالت المهرجانات وزاد عدد الشعراء، فكان علامة فارقة في سماء الأدب العربي الجامع لكل الأهواء والتوجهات الفكرية.من هنا، كان اهتمام الحكومة العراقية ببطولة الخليج العربي في دورتها الخامسة والعشرين، وليس الهدف الأساس رفع الحظر عن لعب المباريات الدولية في العراق. حاول رؤساء حكومات عراقية إعادة العلاقات مع الدول الخليجية بشكل إيجابي، وربما نجح أحدهم في تحريك المياه الراكدة في هذا الملفّ، لكنه تحريك سياسي تُعنى به الدوائر السياسية، وربما الاقتصادية فقط، من دون القدرة على إزالة التحفّظات الجماهيرية لشعب الخليج العربي،
وعلى أساس العمل من أجل هذا الهدف، وبمساعدة من اتحادات كرة القدم الخليجية، نجح العراق في استضافة البطولة، فكان اللقاء العاطفي القومي بين شعوب دول الخليج العربي وشعب العراق ممثلاً ببصرة الخير. حضر إخوة من كل دول الخليج إلى البصرة متحدّين كل الترويج المبرمج لعزل العراق وإخافة زائريه من توتراته الأمنية، ليستقبلهم عراقيون، رجالاً ونساء، وهم يغنّون للخليج وللعراق وللأمة التي لم ولن تنجح محاولاتُ تفتيت إيمانها أنها أمة واحدة، وإنها لن تكون ذيلاً لأي أمةٍ أخرى، مهما طالت فترة الترهيب والترغيب بحقّها، فكانت هنا البصرة والكويت والدوحة والمنامة ومسقط وصنعاء والرياض وأبو ظبي عناوين لنسيج عربي واحد اسمه “الخليج العربي”.
عذراً التعليقات مغلقة