د. عماد الدين الجبوري
كاتب وباحث مقيم في لندن
منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أوزارها لم تشهد القارة الأوروبية حربًا بين دولها، حتى شنت روسيا حربها على أوكرانيا في 28 شباط/فبراير 2022 وما زالت مستعرة للآن، وبوتيرة متصاعد مخيفة جراء الدعم الغربي المفتوح، لا سيما “إن تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية سيؤدي إلى كارثة عالمية”، وفق قول رئيس مجلس الدوما الروسي فيلاتشيسلاف فولودين، وأضاف، أن هذا التوجه سيقود إلى إجراءات انتقامية بأسلحة أقوى.
وقبل أن ننظر إلى السبب ونشجب الجانب الروسي الذي بدأ الحرب، علينا أن نتطرق أولًا إلى المسبب الذي دفع نحو هذا الاتجاه الحربي، وما زال يواصل تأجيجها، فلا رماد بلا نار، ولكل فعل رد فعل.
وإذا كان انبثاق “منظمة حلف شمال الأطلسي” (النيتو) عام 1949، الذي يضم بعض دول غرب أوروبا بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، هدفه الدفاع العسكري عن أعضاء الحلف، إلا أن سياسته التوسعية دفعت إلى وجود “حلف وارشو” عام 1955، الذي يضم دول شرق أوروبا بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق كطرف مجابه للغرب. ونتيجة لذلك، شهد العالم حربًا باردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، انتهت بتفكك دول الاتحاد السوفيتي عام 1991، وإعلان حل حلف وارشو رسميًا في تموز/يوليو من ذلك العام.
وكان من الأجدر، وقتذاك، أن يعلن النيتو عن حل نفسه أيضًا، من أجل عالم جديد بلا احلاف عسكرية مكلفة اقتصاديًا ومقلقة سياسيًا، لكن نشوة النصر الغربي، خاصة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة قطبًا واحدًا في العالم، فهذا الوضع أغرى بالإدارات الأميركية المتعاقبة أن تتمادى باستخدام القوة العسكرية وشن حروب هدفها فرض الحل السياسي الغربي، في كوريا الجنوبية وفيتنام ثم أفغانستان والعراق، إضافة إلى ضربات وهجمات في دول عدة منها الصومال والسودان واليمن وغيرها.
وبما أن سياسة النيتو التوسعية استمرت وامتدت نحو دول شرق أوروبا، وضمت بالتدريج دولًا كانت في “حلف وارشو” أصلًا، حتى اقتربت من الحدود المباشرة إلى روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، وسط تحذيرات متواصلة من موسكو إلى عواصم الغرب، بأن الأمن القومي الروسي خط أحمر. بيد أن حلف النيتو خاصة، والسياسة الغربية عامة، لم تكترث لهذه التحذيرات، ولم تعطِ أي ضمان أمني إلى روسيا قط. وبذريعة لعبة الديموقراطية التي يتعكز عليها الغرب بالتدخل في شؤون الأنظمة السياسية غير الخاضعة له، استغل ميول الشباب الأوكرانيين نحو الاتحاد الأوروبي وحلف النيتو، وتم وصول الراقص والممثل الفكاهي فولودمير زيلنيسكي إلى منصب رئيس أوكرانيا عام 2019. وبذلك، اقصيت المناطق الجنوبية والشرقية الداعمة للمرشحين الموالين لروسيا.
بمعنى آخر، أن الأقاليم الجغرافية في أوكرانيا تتوزع بحسب سكانها، التي تتنوع عن بعضها البعض وفق لغاتها وثقافاتها وتواريخها، فالمناطق الجنوبية والشرقية المتاخمة إلى روسيا، أصولهم روسية فمن الطبيعي يؤيدون المرشحين الموالين لروسيا، مما يساعد على طمأنة موسكو من الوضع السياسي الداخلي لأوكرانيا، ولكن عندما يتجه الغرب بلعبته الديموقراطية لإبعاد الفئة السياسية الموالية للطرف الروسي، والاتيان بمن هو موالي للغرب، ما يعني تمهيدًا لدخول أوكرانيا إلى حلف النيتو، لتشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي، فهذا ما لا تسمح به روسيا أبدًا، حتى لو أُجبرت على خوض حرب لا تريدها.
إلا أن الغرب يريد الحرب، وما حققه من انتصار سياسي في تفكك دول الاتحاد السوفيتي وحلف وارشو، يرى أن مشوار النصر الحقيقي لن يكتمل إلا بخضوع روسيا نفسها إلى السياسة الغربية. وكاد الغرب أن يفعل ذلك في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسن (1991-1999) لو لا وصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا الاتحادية، والشروع باستعادة أمجاد الماضي في العهدين القيصري والسوفيتي. لذلك، تجد أن الغرب لم يأبه البتة إلى تحذيرات موسكو المتكررة، بل أن الحرب في أوكرانيا، بحسب المفهوم الغربي، هي مفتاح ذلك الخضوع بكسر الجيش الروسي ثم هزيمته ميدانيًا. وبذلك، فإن استمرار الحرب بتقديم الدعم المالي والتسليحي، ثم تصعيدها بتزويد الجيش الأوكراني من أسلحة دفاعية إلى هجومية هي من الضرورات الواجبة تجاه سحق الدب الروسي.
ليس هذا فحسب، بل أن عودة روسيا لسابق عهدها دولة قطبية من ناحية، ومتضامنة معها الصين التي ستتجاوز بقوتها الاقتصادية الولايات المتحدة من ناحية أخرى، فإن هذه العوامل تعني أن القطبين الروسي والصيني سينافسان القطب الأميركي عالميًا، وهذا ما لا تسمح به واشنطن، وصرح بذلك علنًا وزير الخارجية أنتوني بلينكن بقوله، لا أرى العالم بلا زعامة أميركا. ناهيك أن معظم دول القارات آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية لا تريد محور القطب الواحد، الذي تفرض فيه الولايات المتحدة سياساتها على العالم، ونتائجها السلبية في استخدام القوة العسكرية وشن الحروب والكيل بمكيالين وفرض سياسة الأمر الواقع …إلخ، بما يجعل العالم مضطرب غير مستقر.
وعليه، فإن سبب حرب روسيا على أوكرانيا يكون مسببه هو سياسة النيتو التوسعية وعنجهية الغرب في آن، إذ لو أرادت واشنطن أن توقف هذه الحرب، لفعلت من أيامها الأولى، بدلًا من صب الزيت على النار، والأثمان التي بدأت شعوب الغرب تدفعها في فواتير الطاقة وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتوديع أولي إلى حياة الرفاهية، التي اعتادوا عليها لأكثر من نصف قرن. فالغرب يخلق أوضاعًا يظنها تبقيه مسيطرًا على الميزان الدولي، لكنها قد تأتي على نهاية زعامته للعالم.
وإذا توقع بعض السياسيين والعسكريين الغربيين إن الغزو الأميركي على العراق ما بين (2003-2011)، وانسحابه رسميًا تفاديًا لهزيمة ميدانية وشيكة، هي آخر الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة مباشرةً، فربما دعمها وحلفائها إلى أوكرانيا ستكون آخر الحروب الغربية غير المباشرة.
عذراً التعليقات مغلقة