(لماذا الركض والسعي وراء السعادة.. مادامت الأرض مستديرة وتدور سأنتظرها هنا…).
أنطون بافلوفيتش تشيخوف
د توفيق رفيق التونجي
كان ولا يزال ابناء الرافدين توّاقين دوما للسفر الى خارج الوطن للسياحة و الاستجمام. وفي السنوات التي مُنع عنهم السفر، كانوا يصابون باحباط، قنوط و كآبة. كان المنع عادة قرارا سياسيا من قبل الحكومات المتتالية نتيجة للحروب، النزاعات، الصراعات الشخصية والمشاكل الداخلية والخارجية من ناحية ، ومن ناحية اخرى كنتيجة لغياب الديمقراطية في الحكم و سطوة الاحزاب السياسية الدكتاتورية على السلطة في العهد الجمهوري بعد هام 1958. لم يمنع العراقيون من السفر قط في العهد الملكي الا على مستوى الافراد. الاحزاب القومية غير الناضجة ادخلت البلاد الى متاهات وصراعات و حروب داخلية ومع جيرانها منذ عام 1963. وزاد سوء حياة المواطن العادي وخاصة غير المنتمي لحزب السلطة ابان الحكم البعثي. وعند اول متنفس حاولوا الخروج والهروب من العراق في ايام الحرب مع ايران ومن ثم الحصار
الدولي الذي فرض على العراق وسلطة الحزب الواحد. هؤلاء ممن وجدوا في المنفى وطنا جديدا. وافت المنية و الموت ( باستخدام المصطلح الديني اي استشهد لمن وافاه الاجل خارج وطنه) العديدون في رحلة الهروب في حقول الالغام على الحدود وفي الشاحنات وغرقا في البحار والمحيطات وفي مخيمات اللجوء في طريقهم للوصول الى الجنة الموعودة، الغرب. لكن كتب القليل عنهم ونسى الناس قصص مآسيهم ومن فقدوا من قريب وحبيب خلال تلك السنوات الصعاب.
قارئي الكريم، لن يكون قط، المنفى بديلا عن الوطن. وهي، اي دول المنفى ليست قطعا بالجنة الموعودة. ولم تجلب السعادة ابدا لقلوب اللاجئ. السعادة لا تاتي ابدا بتغير المكان او البيئة والوطن فقط. ولست هنا من مؤيدي الفيلسوف المتشائم شوبنهاور الذي يرفض تماما وجود سعادة على الارض.
يعتمد الدعاية للبضائع في انحاء الدنيا كافة على بيع سعادة وهمية للناس. لايقاظ حب التملك في نفوس البشر (الاية الكريمة: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ).
الطموح الى حياة افضل هدف البشرية جمعاء. لكن الوهم كالسراب يؤدي الى الاحباط. لقد شارك الفن السابع اي السينما بنشر الوهم وتسويقه في جميع انحاء
الدنيا. زرت لبنان عام ١٩٧٢ وكانت في اوج ازدهارها، باريس الشرق وحين هبطت طائرة الخطوط الجوية اللبنانية ( الشرق الاوسط) في مطار بيروت كنت متلهفا لرؤية شارع الحمراء والروشة وكل ما شاهدته في احد الافلام اللبنانية ،وعلى ما اتذكر كان اسم الفلم (لبنان في الليل) وغنى فيه مطرب العراق الجميل ناظم الغزالي اغنيته ( فوق النخل، فوق ) تلك الاغنية العراقية التي انطبعت في ذاكرة اللبنانيين لحد يومنا هذا.
وباتوا يحبون كل شيئ قادم من ارض الرافدين. اقول حين زرت بيروت وكنت ادرس في الجامعة انذاك لم
اجد تلك الصورة التي بثها وغرسها في نفسي ذلك الفلم ولم ارَ فيها اختلافاً عن بغداد عاصمة عشقي الاول.
الحياة برتابتها والشوارع والساحات المزدحمة بالبشر والعاملين والباعة المتجولين. فقط كان البحر هناك ورغم وجود ساحل طويل في بيروت ، كنت اشتاق الى شارعنا ابو نواس ( رغم تغير اسم هذا الشارع الذي يحاذي دجلة الخالدة لكنها بقت في ذاكرة العراقيين، شارع ابو النواس، الشاعر الجميل) في بغداد. ما اريد قوله قارئي الكريم، تكررا هو انّ السعادة ليست جزء من الصورة المرئية التي نشاهدها. هذا يدفعني كي اوضح ان الدعاية الجميلة التي تقوم بها الممثلات والممثلون الفاتنات والفاتنون للعطور والسيكاير والملابس والسيارات الغالية مثلا لا يجلب السعادة لنفوس البشر حين يشترون تلك البضائع الغالية الثمن. اي انها، اي البضاعة لا تضمن لهم السعادة. حتى اذا اشترينا تلك البضائع واستخدمناها يوميا نبقى نحن على حالنا الطبيعي. اتذكر وانا ادرس في الجامعة انقرة قبل اكثر من خمسين عاما كنت ادافع مع زميلي و صديقي (حسن تورك) في الجامعة عن اطروحة التخرج حول العلاقات البشرية في المستشقيات. كنا قد اقترحنا و دافعنا عن استخدام صوت المطربة الجميلة
وذات الصوت البديع المطربة (امل صاين) التي زارت العراق في الستينيات وغنت في تلفزيون بغداد اغنيتها الشهيرة چلە بلبلم، اي العذب ايها البلبل، في النداء داخل المستشفى خاصة تلك التعليمات التي تكرر عددا من المرات يوميا.
اليوم تستخدم شركة سامسونك في تلفوناتها الخلوية صوتا لسيدة رقيقة كمنبه للساعة كي يستيقظ الناس بسماع ذلك الصوت الجميل. كما ان الاصوات الجميلة تستخدم في قاطرات المترو والطائرات واماكن اخرى كثيرة. لا ريب ان للنغمة تاثير كبير على المزاج البشري.
لما يعطيه ذلك الصوت الجميل من راحة نفسية خاصة للمرضي والمراجعين وجميع العاملين في المستشفى.
طبعا ضحك جميع الاساتذة في لجنة المناقشة حول اقتراحنا تلك. هؤلاء الاساتذه اللذين كانوا يستمعون الى دفاعنا عن رأينا، كي يمنحونا درجة النجاح والتخرج في العام الدراسي الاخير من الجامعة.
تسويق وبيع الوهم كدعاية تلفزيونية او عن طريق الافلام السينمائية والانترنت كان وسيبقى سببا اخرا الى هجرة الملايين من البشر. هذا الوهم ساعد الاحزاب السياسية الغير ناضجة و الحاكمة في الشرق من نشرها وذلك عن طريق سياساتها التي كانت من نتائجها ان يكره المواطن وطنه وان يقدم النفيس والغالي كي يهجره غير ماسوف ويتركه الى ابد الابدين. بدا بالمثقف الذي هرب من العراق نتيجة الارهاب المنظم من قبل الحزب الحاكم الى سوريا ولبنان والاردن ومن ثم وجد في الغرب وطنا بديلا يحفظ كرامته الانسانية وينقذه من ماسي الفقر والعوز والحاجة. ناهيك عن ذلك يكفيه شر و ظلم السلطات وجلاوزتهم. وذلك فقط لمجرد الوقوف في خندق غير خندق الحزب الحاكم.
هذا المنفى لم يجلب السعادة للاجئين وحتى لابناؤهم و احفادهم. هؤلاء ممن ولدوا في ديار الغربة تراهم تواقون لوطن ابويهم واجدادهم. لكنهم يصابون دوما بخيبة امل حين يشاهدون كل تلك الاخبار السيئة
والمحبطه وما يحصل في وطنهم الحبيب.
هناك تناقض كبير في رموز الحياة السياسية في الغرب عنها في الشرق. فالجيل الجديد تعود على مساحة كبيرة من الحرية وهو يرى في السياسي مجرد مواطنا يريد خدمة الشعب بما يقدمه من برنامج او يقدمه حزبه من وعود في برنامجه الانتخابي لنيل ثقته والعمل نيابة عنه في تحسين شروط الحياة من ناحية وتقديم الخدمات للمواطنين. اما اذا فشل ذلك السياسيي في الايفاء بوعوده الانتخابية فلن يصوت له ولحزبه في الانتخابات القادمة. تلك المساحة الكبيرة للحرية لا يجدها حين يعود ويزور موطن اجداده بل يرى صورة قاتمة. احيانا يعود بالزمن الى مئات السنين فينكر ما يراه ليعود خائبا الى المنفى وربما لا يعاود المرة مرة اخرى قط في حياته. ليس فقط في الدولة و مؤسساتها لا بل حتى في افكار الناس ومعتقداتهم واسلوب حياتهم. ها هنا في الغرب يتمكن ان يذهب الى البرلمان ويقابل الوزراء ونواب الشعب وحتى يقابل ملك البلاد، ان رغب في ذلك. او ربما يريد كتابة اقتراح للجهات العليا. هناك بند في جدول اعمال مجالس المحافظات يسمى ب ( اقتراحات المواطنيين) يمكن للمواطنين عن طريقه ان يقدم اي اقتراح وحتى نقد
لظاهرة سلبية معينة في المجتمع. وحتى الصحف والجرائد والتلفزيون والانترنت ساحة واسعة لابداء الرأي. الحياة الديمقراطية في الغرب تؤدي الى تغير عند البعض من ابناء اللاجئين من الجيل الثاني والثالث. هؤلاء يبدأون باتباع سلوك معين اكثر عقلانية. اي انهم ينطلقون من واقع مجتمعات والنظام السياسي لدول اللجوء والاعراف والقوانين السائدة في دولها. لهذا يجدون صعوبة في فهم مجتمعات اوطان ذويهم و حين يسافرون لزيارة اقاربهم. هذا سيكون مختلفا تماما في المستقبل عند الاجيال القادمة خاصة حين تزول لغة التواصل اي سوف لا يفهمون العربية او الكوردية والتركية او حتى الفارسية. لقد التقيت بالعديد من الشباب من اصول تركية من الجيل الثالث ولم يعرفوا لغات جدهم في هذه الحالة التركية. رغم ان المجتمع التركي في المانيا مغلوق على نفسه اي يجتمعون معا ويسكنون احيائا خاصة بهم ولهم محلاتهم التي تبيع بضائع يستوردونها من تركيا ومطاهم خاصة بهم وحتى نواديهم وتكون عادة سياسية اكثر منها اجتماعية او ثقافية. هذا النوع من التقوقع يؤدي الى انشاء مجتمعات جانبية محاذية للمجتمعات الاصلية( گيتو). لكن الجيل الجديد يتهرب من تلك المجتمعات ويحاول
جاهدا ايجاد طرق جديدة واساليب جديدة للحياة اكثر تقربا من المجتمعات الغربية. الى درجة تصل انهم يكرهون تعريفهم والاشارة اليهم كابناء لاجئين. حتى ان العديدين قد غيروا اسماءهم الى تلك الاجنبية والقريبة من لغة ابناء دول المهجر. هذا يساعدهم على الانصهار والتكامل الكلي في تلك المجتمعات ويسهل حصولهم على عمل ، لاحقا. اما هؤلاء من الرافضين لاي تغير فسيعانون كثيرا في تلك المجتمعات. عليهم قبول اعمال ربما يرفضها ابناء البلد. او يتجهون الى عالم الجريمة. محاولة منهم للحصول على الثروة بجميع الطرق الممكنة حتى لو كانت الجريمة بكافة اشكالها. هذا يجعلهم يحسون باحترام المجتمع وقبوله لهم.
تبقى دوما، تلك الصورة الجميلة التي قدمت لنا على انها ستمنحنا السعادة، تبقى وهما و سرابا.
يبقى ان نعلم ان السعادة ليست دائما جزءً من الصورة، حتى في المنفى.
عذراً التعليقات مغلقة