فلسفة الثورة في القرن 21

آخر تحديث : الأربعاء 4 يناير 2023 - 10:28 مساءً
فلسفة الثورة في القرن 21

د. عماد الدين الجبوري

 الدين الجبوري - قريش

إذا شهد العالم في القرن المنصرم سلسلة من الثورات في دول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وكانت غالبيتها ضد الاستعمار الغربي المباشر ثم غير المباشر، إضافة إلى أوضاع بعض الدول داخليًا، الثورة في روسيا عام 1917 مثالًا، التي كانت شيوعية وعلى الطرف المضاد إلى الرأسمالية الغربية. وفي العالم العربي، ثورة مصر 1919 وثورة العراق 1920 وامتدت تلك الثورات في دول عربية عدّة، وتعاظمت أكثر في أرجاء المعمورة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1941)، ومن أخطرها ثورة الصين (1946-1949)، وثورة الجزائر (1954-1962).   

إلا أن نفوذ وتأثير العالم الغربي، لا سيما بعد زعامة الولايات المتحدة الأميركية له، أخذ منحى أكثر خشونة تجاه أية دولة لا تتوافق مع النهج السياسي الغربي. وهكذا شنت الولايات المتحدة حروبها في كوريا (1950-1953) أولًا، وبعدها في فيتنام (1959-1975)، وفي أفغانستان (2001)، ثم العراق (2003-2011). ناهيك عن خوضها المعارك والهجمات العسكرية هنا وهناك، على سبيل الذكر لا الحصر، الصومال عام 1993، والسودان عام 1998.

القرن 21 الذي أراده الغرب أن يكون قرنًا أميركيًا بامتياز، يدور فيه العالم حول قطب واحد من دون منافس له، أخذ يتآكل سريعًا قبيل انتهاء الربع الأول من زمنية القرن، جراء استمرار الولايات المتحدة باستخدام القوة بفرض سياساتها

وبجانب هذه الحروب والهجمات الأميركية، كانت السياسة الغربية ترى في بسط نفوذها على العالم بأسره، تجري ضمن فلسفتها السياسية الخارجية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991وبروز النظام العالمي الجديد، الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على الجميع، بجعل السياسة والاقتصاد والثقافة الغربية معيارًا يحتذى به في سائر دول العالم. 

بيد أن القرن 21 الذي أراده الغرب أن يكون قرنًا أميركيًا بامتياز، يدور فيه العالم حول قطب واحد من دون منافس له، أخذ يتآكل سريعًا قبيل انتهاء الربع الأول من زمنية القرن، جراء استمرار الولايات المتحدة باستخدام القوة بفرض سياساتها. كما ساعد على هذا التآكل سببان جوهريان: الأول، نجاعة سياسة الصين، التي حورت مبادئها الشيوعية بما يلاءم معطيات العصر وفق اشتراكية تتقبل الرأسمالية، ومع تصاعد قوتها الاقتصادية عالميًا التزمت نهجًا سياسيًا ثابتًا، وذلك بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة توافق على التعامل الاقتصادي والتطوري مع الصين. 

والسبب الجوهري الثاني، عودة روسيا بممارسة دورها العالمي على نحو يحي عظمتها في الماضي القريب، لا سيما بعد وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الذي يمتلك رؤية تقوم على محورين: الأول، أهمية المحيط والمجال الحيوي من العهد القيصري إلى السوفياتي وما يضم من جغرافية مترامية الأطراف من غرب آسيا إلى شرق أوروبا. والثاني، الجانب الديني وفق منظور الكنيسة الأرثوذكسية تجاه العالم والعلاقات الدولية. وعلى هذين المحورين الرئيسين يبني بوتن إستراتيجية روسيا الاتحادية.

لعل لموقف السعودية، في العالمين العربي والإسلامي، ميّزة خاصة في مخاض التشكيل الجديد الآخذ بالتبلور التدريجي، إذ حافظت المملكة على علاقتها الإستراتيجية مع الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة. وفي الوقت ذاته، واكبت المعطيات والمتغيرات الحاصلة في المحافل الدولية، بحسب مراعاة مصالحها الحالية والمستقبلية

وبدأت تحديات بوتين إلى السياسة الغربية المجحفة للعالم، في خطابه الشهير في مؤتمر ميونخ للأمن بتاريخ 10 فبراير (شباط) 2007، إذ وجه فيه انتقادات شديدة اللهجة إلى الغرب، وأكد أن نموذجًا أحادي القطب لم يعد ممكنًا في العالم المعاصر، وحمّل في خطابه الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة المسؤولية عن محاولة فرض معايير خاصة بها على دول أخرى، مشددًا على ضرورة أن يكون ميثاق الأمم المتحدة الآلية الوحيدة لتبني قرارات بشأن تفويض استخدام القوة العسكرية، وحينها شهدت العلاقات تدهورًا ملحوظًا بين روسيا والغرب، حتى كادت أن تصل إلى شفا حرب باردة جديدة. 

ولعل موقف السعودية، عن العالمين العربي والإسلامي، له ميّزة خاصة في مخاض التشكيل الجديد الآخذ بالتبلور التدريجي، إذ حافظت المملكة على علاقتها الإستراتيجية مع الغرب عامة، والولايات المتحدة الأميركية خاصة. وفي الوقت ذاته، واكبت المعطيات والمتغيرات الحاصلة في المحافل الدولية، ومراعاة مصالحها الحالية والمستقبلية بالدرجة الأساس. وفي هذا الصدد، لعبت رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان دورًا فعّالًا في رفع المملكة نحو العالمية. ولذلك، جاء انفتاح السعودية على الصين وروسيا بشكل واسع يتضمن جوانب اقتصادية وتجارية وعسكرية وعلمية …إلخ وفق أفق رحب. ومن ثمراتها، مشاركة الرئيس الصيني شي جينبينغ في القمم الثلاث: السعودية والخليجية والعربية، التي انعقدت في الرياض ما بين 7-9 أيلول/سبتمبر 2022.

خلاصة القول، أن الفلسفة الثورية في القرن 20 بطابعها التصادمي المسلح، ونهجها اليساري المتشدد تجاه الغرب أو الأنظمة السياسية المرتبطة بها، كانت وفق معطيات تلك المرحلة التي أوجبت ظهور وتنامي مثل هذه الاوضاع في دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. أما فلسفة الثورة في القرن 21، فيبدو لها طابعها المغاير بحسب المستجدات والأحداث، التي تكونت وصارت فيها الصورة السياسية واضحة بين الغرب المتعجرف، الذي وصل به الوضع أن يفرض أفكاره وآراءه على سائر العالمين وإن كانت مضادة لثقافات وعادات شعوب لها تاريخها وحضاراتها، ومنها فرض قبول سلوكية الشذوذ والانحراف الجنسي والتردي الأخلاقي، التي هي أصلًا مخالفة إلى الدين والطبيعة البشرية. وبين الشرق عمومًا، الذي ما زال يحافظ على نواميسه وتقاليده الاجتماعية والأخلاقية، ويهتم في وحدة الأسرة وتماسكها، كما يرفض تقديم المصالح الغربية على مصالحه الوطنية. 

وهذا يعني، أن الموقف بين الشرق والغرب يعكس تحديًا تاريخيًا جديدًا، كما أن طبيعة هذا التحدي لا تكون ثوريته وفق نهج يساري متطرف، كما كانت عليه الأوضاع في الماضي، وإنما من خلال توافق وتلاءم سياسي ومجتمعي يخدم مصالح الدولة والشعب في آن. وبذلك، فإنّ طابع الفلسفة الثورية التي نعاصرها في هذه المرحلة يتضح ملامحها في وحدة هدف مشترك ما بين الدولة والشعب تجاه غطرسة الغرب، الذي تجاوز حدوده بمحو هويات وثقافات الآخرين غير الغربيين، وما مواجهة روسيا للغرب في أوكرانيا، إلا منعطف تاريخي ثوري للشرق تجاه الغرب.

رابط مختصر

التعليقات تعليقان

  • سامي الزرقي -بغداد

    يمكن القول ان الامير محمد بن سلمان لديه مشروع تحديث المملكة بقوة واقدام، لكنه يضع كل شيء في طريق هدم ما بناه اجداده في العقيدة الوهابية، اذن هو مشروع سياسي ضد مشروع عقائدي، ياترى هل يمكن ان ينجح في ظل وجود دولة عدوة له تمتلك مشروعا عقائديا لابد من مواجهته بنفس نوع سلاحه العقائدي. مجرد فكرة ننتظر الايضاح من الكاتب الكبير الدكتور عماد الجبوري .

  • علي رضا بابان- هولندا

    رؤية عميقة ومتجلية على افاق بعيدة من كاتب راقي ومنهجي ، نتابعه بحب وتقدير ، في صحيفة جريئة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com