معتوه.. قصّة قصيرة للكاتب المغربي عزيز القاديلي

معتوه.. قصّة قصيرة للكاتب المغربي عزيز القاديلي

آخر تحديث : الثلاثاء 31 يناير 2023 - 1:52 مساءً

د عزيز القاديلي

 القاديلي - قريش
عزيز القاديلي

كاتب من المغرب

قصة قصيرة

معتوه !”

يقولون عنّي: “أنت مجرد معتوه، مخبول…”  و أنا أمام هذه الأوصاف أنظر إليهم ببلادة، ببلاهة. و ما إن أرى الطريق أمامي حتى أجري هاربا منهم، من حمقهم هم، وأجلس عند أقرب مقهى لأرقب تلك التي تجلس هناك، لا يهم كيف تجلس ؟ و لا متى؟ و لا.. المهم أن أسترق النظر إليها قدر الإمكان، قدر المستطاع.. لا مجال للسؤال الآن.. كل الأسئلة عديمة الجدوى..لأنها ستُفسد عليَّ نشوة اللحظة، لذتها. و أنا من أجل مثل هذه المتع أضحي بكل ما لي و ما ليس لي..
ها أنذا الآن هنا، أنظر بكل تفان، بكل شغف، نحوها..لا أريد أن أصفها حتى لا تتعرفوا عليها، حتى لا تتخيلوها، لا أحد ينظر إليها سواي.. أغار حتى من خيالكم أنتم المولعون بالتلصص على الآخرين، لن أقول لكم من تكون.. هي هنا بكل الوقار الذي يميزها.. تجلس.
إنها صامتة.. و ما دامت كذلك فهي ربما حزينة.. أرى حزنها يتساقط كما شلال عليّ لا  ،و على الكراسي الفارغة المجاورة لي و لها، أريدها بحزنها.. بهذا الحزن الذي يليق بامرأة مثلها. لفستانها الطويل لون الحزن الصاعد منها، للكراسي و الطاولات و الأرض نفس ذاك اللون (هل فعلا للحزن لون أم أنني فعلا كما يقولون).. أحاول أن أتطلع إلى لون عينيها المحجوبتين بنظارات سوداء فلا أفلح. إيقاع تنفسها بطيء كما إيقاع تنفسي. أحاول الإصغاء إلى إيقاع شرايينها فلا أستطيع. نوع من الصمت القلق يلف الأجواء و الأمكنة، وقار كامد. نظراتي كلما سافرتا نحوها إلا و عادتا مضرجتين بالخيبة، بالوجع. ما زلت أمتنع عن وصفها، أخاف أن تختطف مني، كلما تسترت عنها كلما أحسست أنني الوحيد الذي يراها، لن أكشفها، لن أقول عنها أكثر مما سأقول، هي ما بين لون السحاب و المطر، مابين شكل الأشجار و المحار.. ماذا بعد؟ هل تنتظر أحدا؟ هل تفكر في أحد؟ هل رأتني و أنا أراها؟ أريد أن أكلمها، أن أعرف أقل أو أكثر عنها.
لماذا لا تنصرف و تتركني؟ كلما تمادت في جلوسها تماديت أنا في النظر إليها، لماذا لا تريحني و تنصرف؟ و لماذا لا أستطيع أنا إلا الانشغال بها؟ هل هناك سر ما؟ هل هذا السر ينبجس من طريقة جلوسها؟ من تسريحة شعرها؟ من صمتها؟ أريد أن أتسرب نحوها، أو أن تتسرب نحوي.
فجأة جاؤوا، داروا حول الطاولات، حول الكراسي، كانوا في حالة هيجان، امتلأ المكان بهم، ارتموا بكل ما يملكون من ضجيج و صفير و زعيق على الكراسي الصامتة، جلسوا بيني  و بينها، عبثوا بي و بكل ما لي فتبعثرت بينهم، سدّوا عليّ كل شيء، كانوا يتسابقون نحو الكلام، يسألون، و أنا بالبلاهة التي تميزني وقفت، شققت لي الطريق بين الأرجل و الكراسي  و الطاولات، سقطت بلا ألم بين أرجلهم و طاولاتهم و كراسيهم، و حينما أوقفوني على رجلاي نظرت فما وجدتها، ثارت ثائرتي، عربدت، بصقت، شتمت، لعنت، صرخت، ولولت، كانوا ينظرون إلي، يشيرون إلي، أما أنا فكنت أشير إلى المكان الذي كانت تجلس فيه فلم يفهموا. قمت من سقطتي أرمي الطاولات و الأرجل و المقاعد و الكؤوس….

                                                           
                                                                 المغرب. القنيطرة

القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب -لندن

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com