قراءة في تعميم رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي
هيثم المهندس
صدر قبل أيام تعميم من قبل رئيس مجلس القضاء الاعلى في العراق بتاريخ ٢٠٢٣/٢/٨ * والذي ترتب عليه حملات لإلقاء القبض وإصدار أحكام قضائية بالحبس أسرع من البرق بحق عدد من مقدمي ومقدمات الفيديوات القصيرة والذي يصطلح على تسميتهم بالبلوكَر أو التوكتوكر, تتراوح بين ستة اشهر وسنتين تحت مسمى” المحتوى الهابط ” مدعومة بحملة إعلامية قلَّ نظيرها تؤيد هذه الاجراءات. وما خلفه من آراء متباينة لدى العراقيين بين مؤيد ومخالف لهذه الإجراءات . وبناء على ما ورد أعلاه وجدنا من الضروري قراءة هذا التعميم قراءة متأنية , وكذلك طرح ما يترتب على هذا التعميم من خطوات مستقبلية خطيرة على مستقبل حرية التعبير في العراق وخنق الحريات الشخصية وكذلك سنتحدث عن محاولات السلطة الحاكمة في العراق المتكررة لمصادرة الحقوق والحريات المدنية المنصوص عليها في الدستور العراقي الدائم والصادر عام ٢٠٠٥ . ولنبدأ بـ نص التعميم :
” م/ اعمام ** تحية طيبة .
لوحظ من خلال الرصد الاعلامي استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر محتويات تسيء للذوق العام وتشكل ممارسات غير اخلاقية اضافة إلى الإساءة المتعمدة وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمسميات لذا اقتضى اتخاذ الإجراءات القانونية المشددة بحق من يرتكب تلك الجرائم وبما يضمن تحقق الردع العام . مع التقدير .”
هناك عدد من الأسئلة التي علينا طرحها حول هذا التعميم والتي قامت وزارة الداخلية العراقية فور وصولها التعميم بحملتها المذكورة أعلاه وكذلك المحاكم العراقية التي حكمت على الأشخاص الملقى القبض عليهم وفق المادة ( ٤٠٣ ) * من قانون العقوبات العراقي المرقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ . وهي :
- يقول السيد زيدان في التعميم ” لوحظ خلال الرصد الاعلامي ” والسؤال: من الذي لاحظ وقام بالرصد الاعلامي ؟ هل لوزارة العدل او مجلس القضاء الأعلى او اي جهة عدلية او قضائية لجان للرصد الإعلامي متدربة ومتخصصة في هذا العمل الفني ؟
- على اي أساس قانوني أو مادة قانونية يتم تحديد المحتوى المسيء أو غير المسيء والمتعارف عليه اعلاميا بالمحتوى الهابط والمحتوى غير الهابط ؟
- وزارة الداخلية العراقية قامت بحملات على عدد من أصحاب ما يسمى بالمحتوى الهابط . هل لديهم أيضا لجان فنية متدربة ومتخصصة وذات مستوى من الثقافة والتعليم لتقييم المحتويات ؟ ووفق اي أسس ومفاهيم أخلاقية تم هذا التقييم ؟ اي ماهو معيار وزارة الداخلية ؟ وإذا وجد هذا المعيار لماذا لا يعلن للمواطنين في القنوات الإعلامية الخاصة بالوزارة أو اية وسيلة اعلامية اخرى حتى يتسنى للمواطن معرفة القانون ؟ أم ان العمل جاري وفق المتبنيات الفكرية لمدير مركز الشرطة او وزير الداخلية أو قاضي المحكمة ؟ وهذا ما يعني بالضرورة إلحاق الظلم بأشخاص ورميهم في السجون اعتمادا على أمزجة مَن هم في السلطة وخلفياتهم الأيديولوجية اوالحزبية أو بسبب مخالفتهم ( أصحاب المحتويات ) لتصورات القائمين على مَن هم في السلطة .
- قد يقول أحد المنتقدين ان المادة ٤٠٣ من قانون العقوبات العراقي المرقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ هي النص القانوني الخاص بهذه الحالة وبالتالي هناك جريمة وهناك عقوبة . ورد الحجة بسيط للغاية كون هذه المادة ذكرت عبارة ” مخلة بالحياء او الآداب العامة ” . وعبارة مخلة بالحياء واضحة و تعني تصرفات ذات طبيعة جنسية اما ( الأداب العامة ) مثلها مثل ( النظام العام والآداب ) الواردة في المادة ٣٨* من الدستور العراقي الدائم لسنة ٢٠٠٥ فهي مفردات ذات مفهوم مطاطي (تحمل عدة أوجه وتفسيرات ) غير معرَّفة في القانون العراقي ويخضع تفسيرها لا محالة لبيئة المواطن وقناعاته الفكرية وتختلف من مدينة لأخرى ومن جيل لجيل وحتى انها تختلف من عائلة إلى اخرى. ولذلك وجب تحديد معنى هذه العبارة بشكل واضح في القانون العراقي . لكون مطاطية هذه العبارة تعطي اليد الطولى للجهات التنفيذية وتحت مظلة القانون بالتطاول على حريات المواطنين ومصادرتها اما لفرض أجندتها الحزبية او لاسباب اخرى. في الوقت الذي تَخضع فيه السلطات ومؤسساتها في العراق إلى المحاصصة الحزبية . واليد الطولى هي للأحزاب الدينية في هذه المؤسسات والتي تعمل على قدم وساق لأدلجة المجتمع العراقي وفق متبنياتها الفكرية و فرض تصوراتها لمصادرة الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور العراقي الدائم والصادر عام ٢٠٠٥ م .
- يذكر في التعميم أيضا ” الإساءة المتعمدة وبما يخالف القانون للمواطنين ومؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمسميات ” ما التفسير الذي تحتويه هذه العبارة حول مؤسسات الدولة ؟ هل يفرض هذا التفسير ان لا ننتقد فساد مجلس النواب مثلا لأنها اساءة لمؤسسة دولة وبدل استعمال كلمة فساد نقول مثلا ” الاستخدام غير المنصف للثروات ؟ ” أو نسكت عن سرقات الوزارات والتي أزكمت الأنوف حد الاختناق ؟ او نجامل عضو مجلس النواب بغلق افواهنا وهو يتقيأ السم الطائفي في القنوات الفضائية ويثير النعرات الطائفية او القومية ؟ مع العلم ان هناك عشرات المواد القانونية التي تحاسب على السرقات والفساد والقتل ولم تفعَّل بحق هؤلاء .
- النقطة الاخرى لماذا يطالب باتخاذ الإجراءات القانونية المشددة ؟ هل هم من قاموا بتسليم ثلث مساحة العراق إلى عصابات داعش الارهابية عام ٢٠١٤ ؟ أو سرقوا ٢مليار دولار كما في سرقة القرن قبل أسابيع قليلة ؟ أو نهبوا اموال النفط طوال عشرين عاما او حولوا المستشفيات إلى ما يشبه مكبات للنفايات وتفتقر إلى أبسط المستلزمات ولا تليق بالبشر ؟ ام تريدني ان احدثك عن المدارس والطرق والماء والكهرباء ؟ أم عن الإذلال الذي يعانيه المواطن في كل دائرة من دوائر الدولة ومؤسساتها لمجرد اكمال معاملة معينة والتي تريد منعنا من توجيه سياط النقد لها بحجة الإساءة ؟ او او …. والقائمة تطول .
- اذا كان مجلس القضاء الاعلى حريص على المواطنين والمجتمع وعلى مؤسسات الدولة وتطبيق القانون . فلماذا لم يرسل تعميم لملاحقة قتلة أكثر من ٨٠٠ متظاهر في مظاهرات تشرين من عام ٢٠١٩ وجرح اكثر من ٣٠ الف اخرين , منهم اكثر من ٥ الاف بعاهات دائمة ؟
لماذا لم يعمم مجلس القضاء الأعلى بإلزامية التعليم وفق المادة (٣٤ اولا) * من الدستور العراقي الدائم لسنة ٢٠٠٥ وهناك مئات الآلاف من المتسربين من المدارس . والكل يعلم ماذا يعني ولادة جيل أمي لا يعرف القراءة والكتابة وخطورته على ثقافة وبناء الأسرة والمجتمع؟
- لقد ملأت وسائل التواصل الاجتماعي آلاف المحتويات التي تتحدث عن العنف الأسري وتعذيب الأطفال وقتلهم وقمع وضرب النساء وسحق كرامتهن الإنسانية وقتلهن تحت مختلف الذرائع وبدون رحمة ولتأتي المحكمة الاتحادية العليا لتزيد الطين بلَّة برد الطعن في المادة الخاصة بتأديب الزوجة ليتم ترسيخ هذا العنف بمسوغ قانوني . فلماذا لا يلاحظ مجلس القضاء الأعلى ذلك ؟؟
- لم يتم ملاحظة عشرات الالاف من الاطفال المتسولين في الازقة والشوارع والذين يشكلون قنابل موقوتة وأرض خصبة للجريمة والإرهاب في المستقبل القريب . ويعمم كتاب من رئاسة مجلس القضاء الأعلى بتطبيق المادة رقم ( ٣٠ – أولا ) من الدستور بتوفير الحياة الحرة والكريمة للاطفال ؟ والكثير من المواد الدستورية التي تحمي المجتمع العراقي والاسرة العراقية . ولو تحدثنا فنحن بحاجة إلى صفحات .
ان الحكومات المتعاقبة في العراق والمبنية على المحاصصة الطائفية والقومية والحزبية ومنذ عام ٢٠٠٣ حاولت جاهدة وبكل السبل من فرض أجندتها وافكارها القروسطية والرجعية واستخدمت في سبيل ذلك كل السبل لتحقيق أهدافها ونذكر منها ما يتعلق بموضوعنا وهي حاولت عبر البرلمان من تمرير عدة مشاريع منها مشروع قانون الجرائم المعلوماتية . ثم حاولت الكتل الإسلامية من تمرير قانون يحاسب على من ينتقد ” الرموز الدينية والوطنية ” وكذلك مشروع القانون الجعفري وفشلت في كل ذلك بسبب رفض المجتمع العراقي القاطع, للرجوع إلى الوراء .
ان هذا التعميم لهو الاشارة لبدء حملة تكميم الأفواه ومصادرة الحريات الشخصية وخنق المواطن العراقي ومنعه من التعبير . فبدؤا بهذه المحتويات ليجدوا لهم موطئ قدم بين الجماهير ومن ثم تبدأ المصادرات الواحدة تلو الاخرى تحت مسميات مختلفة ومحمية بالقانون حتى يجهزوا على هامش الحرية المتبقي للمواطن العراقي.
وفي الختام أقول : عندما يحكم على طفل بعمر ١٢ سنة بالسجن سنة كاملة لسرقته علب مناديل ورقية وفي نفس الوقت يكافئ مجرم عمره ثلاثين عاما عندما قام باغتصاب طفلة عمرها سبع سنوات, بالزواج منها بدل سجنه كما حدث في مدينة الحلة . كيف لنا ان نسكت ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
- صدر هذا التعميم يوم ٢٠٢٣/٢/٨ وهو يصادف الذكرى الستين للانقلاب البعثي الدموي في ٨ شباط عام ١٩٦٣
- ● ( اعمام ) كلمة خاطئة من الناحية اللغوية ووجب استعمال كلمة تعميم . وانتشار استعمالها لا يعني صحتها مطلقا . المصدر : البينة الجديدة في ٢٠١٨/٥/١٥ أ. د. هادي حسن حمودي/ باحث وأستاذ جامعي عراقي – لندن
- المادة ( ٤٠٣ ) من قانون العقوبات العراقي المرقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ المعدل تنص على ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار او باحدى هاتين العقوبتين كل من صنع او استورد او صدر او حاز او احرز او نقل بقصد الاستغلال او التوزيع كتابا او مطبوعات او كتابات أخرى او رسوما او صورا او افلاما او رموزا او غير ذلك من الاشياء اذا كانت مخلة بالحياء او الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من اعلن عن شيء من ذلك او عرضه على انظار الجمهور او باعه او اجره او عرضه للبيع او الايجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه او سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت. ويعتبر ظرفا مشددا اذا ارتكبت الجريمة بقصد افساد الاخلاق.
- المادة ( ٣٨ ) من دستور العراقي الدائم لسنة ٢٠٠٥ تنص على “تكفل الدولة، بما لا ٌيخل بالنظام العام والآداب: أولا:- حرٌية التعبٌر عن الرأي بكل الوسائل. ثانٌيا:- حرٌية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثا:- حرٌية الاجتماع والتظاهر السلمً، وتنظم بقانون.
- المادة (٣٤ اولا ) من الدستور العراقي الدائم لسنة ٢٠٠٥ تنص على : التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية وتكفل الدولة مكافحة الأمية.
- المادة ( ٣٠- اولا ) وتنص على : تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة- الضمان الاجتماعي والصحي , والمقومات الأساسية, للعيش حياة حرة كريمة, تؤمن لهم الدخل المناسب ,والسكن الملائم
عذراً التعليقات مغلقة