د. فارس الخطاب
منذ أن إحتلت الولايات المتحدة والقوى المتحالفة معها العراق عام 2003م والحديث عن تحويل هذا البلد إلى نظام فيدرالي مستمر وسط ردود أفعال شعبية متباينة، فمع قبول كردستان العراق هذا التوجه رفضت بقية محافظات العراق الذهاب إليه إختياراً رغم الظروف العصيبة التي تمر بها منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.
ورغم أن الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال وتحديداً في عام 2005م قد أسس لموضوع الفيدراليات كنظام يُخرج العراق من أزماته القومية والمذهبية، ورغم وجود إقليم كردستان العراق كنموذج ناجح للعمل الفيدرالي ، وأيضاً رغم ما مر به العراق من دفعٍ ممنهج لصراع طائفي وقومي دفعت من خلاله بعض قوى العملية السياسية إلى طرح موضوع الإقليم الشيعي ومركزه محافظة البصرة ، وإقليم السنّة ومركزه محافظة الأنبار مع أصوات أخرى طالبت بإنشاء إقليم الفرات الأوسط وغيرها ، إلا أن أيٍ من هذه الأقاليم لم يرى النور بإستثناء من إمتلك الشروط الموضوعية والتاريخية ليكون إقليماً بما تحمله الكلمة من معانٍ وحقوق كإقليم كردستان ومركزه محافظة أربيل.
ومنذ عام 2005م لم تستقر الأحوال بين حكومة المركز في العراق مع حكومة إقليم كردستان بسبب مواد أقرها دستور العراق الجديد وخاصة المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها حتى بلغت ذروتها خلال فترة رئاسة نوري المالكي الثانية وتحديداً عام 2014م الذي شهد توترات سياسية وعسكرية بين الطرفين، وعلقت فيها الاتصالات بين الطرفين كما قام المالكي بقطع ميزانية إقليم كردستان البالغة 17٪ من الميزانية العامة بسبب تصدير الإقليم لنفطه عِبر ميناء جيهان التركي مما سبب أزمة في موضوع الرواتب لموظفي الإقليم المدنيين والعسكريين وتلكؤ مشاريع البنى التحتية، وزاد من الطين بِلة انخفاض أسعار النفط العالمية إلى دون 30 دولارًا للبرميل ، ففقد الإقليم عوائد المصدر الرئيس لموازنته، كل هذا إضافة إلى إتهام المالكي للإقليم بإيواء مقاتلين من تنظيم داعش الإرهابي دفع ناطق باسم رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بالقول “إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أصيب بالهستيريا وفقد توازنه وعليه أن يتنحى”.
ما يجب أن يقال عن سلوك قيادة إقليم كردستان العراق خلال فترة التحول الجذري لشكا النظام السياسي في العراق بدءاً من عام 2003م إنه كان حكيماً وصبوراً بإستثناء رغبة الإقليم بالإستقلال عن العراق الذي لم يكن مناسباً لا في وقته ولا أرضيته السياسية للطرح، وقد تم تجاوز تداعياته خلال المرحلة اللاحقة عبر الإنفتاح على المركز ومحاولة لعب دور الوسيط الفعّال بمعالجة الأزمات السياسية الخانقة التي لم تتوقف مطلقاً خلال عقدين من الزمن.
في نهاية شهر ديسمبر /كانون الأول 2022م وافق رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني على إعادة تشكيل اللجنة العليا لتفعيل المادة 140 الدستورية المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها بين الحكومتين الاتحادية وإقليم كردستان وأن تباشر اللجنة أعمالها خلال 10 أيام، بعد أن عطلها نوري المالكي 2014م، لكن فيما يبدو أن موافقة السوداني على تشكيل اللجنة جاء ضمن سلسلة التفاهمات التي جرت بين قوى الإطار التنسيقي والإتحاد الوطني الكردستاني المنضوي تحت هذا الإطار، وهو يعلم جيداً أن اللجنة لن تقدم شيء لحلحة مخارج هذه الأزمة الدستورية وإن قدمت فإن المسيطرين على المشهد السياسي هم من يضعون العصي في دواليب الحلول بين الإقليم والمركز وليس المواد الدستورية كما أن مصالح بعض القوميات الموجودة ضمن العمليات السياسية كالتركمان مثلاً يرفضون تطبيق المادة 140 رغم أن قرار المحكمة الاتحادية 71 لسنة 2019م أكد على قانونية بقاء هذه المادة ضمن الدستور العراقي.
إن لم يتمكن العراق من إنتاج حكومة مركزية وطنية قوية ، وحال إستمرار العملية السياسية كما هي عليه فمطلوب أن يكون هناك برنامج تثقيفي تشترك فيه كل الوسائل التعليمية والإعلامية من أجل تعميق مفهوم الحكومة المركزية والحكومات الفيدرالية ومزايا هذا النظام وأهمها أنه لا يمس الهوية الوطنية
إن سبب رئيس من أسباب الأزمات المستمرة بين الإقليم والمركز إضافة إلى العوامل المتحكمة بالعملية السياسية والقائمين عليها هو الجهل الكبير والعميق بمفهوم الفيدرالية ، لذلك نرى حجم التخبط بينن فترة وأخرى لدى مكونات طائفية أو قومية بين المطالبة بالفيدرالية أو رفضها ، فبعد أن إعتبره سنّة العراق فيما مضى من عمر العراق”الجديد” وسيلة من وسائل تقسيم العراق ، عادت قوى متسيدة المشهد السياسي في مناطقهم إلى العمل والتثقيف باتجاه تشكيل إقليم سنّي يضم محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى ، كما عادت نغمة إقليم البصرة كمخرج من قبضة الحكومة المركزية والمليشيات الولائية التي أشبعت سكان الجنوب بكل أدوات القهر والإذلال ، وفي جميع الحالات سواء لدى سنّة أو شيعة العراق ، يبقى جمهور العراقيين رافضاً لفكرة الأقاليم كونها تعني ما سبق ذكره “تقسيم” للعراق الواحد مع تسليمهم بالوضع الخاص لإقليم كردستان.
أسباب أخرى منعت تطبيق رؤية إنشاء الأقاليم في العراق كوسيلة من وسائل الاستقرار السياسي والأمني ولضمان تقديم الخدمات لسكان الأقاليم بموجب حصصها من الميزانية العمومية للعراق، ويقف على رأس هذه الأسباب التدخل القوي لدول الجوار الجغرافي للعراق كافة لمنع تحول العراق إلى النظام الفيدرالي الذي تعتبره في حال تطبيقه يشكل تهديداً خطيراً لإمنها القومي لإسباب كثيرة بعضه قومي يخص الأقليات المتواجدة في هذه الدول والآخر طائفي وعوامل إستراتيجية أخرى. “
تشير الباحثة نغم محمد صالح في بحثها الموسوم “الفيدرالية في الدستور العراقي لعام 2005م الواقع والطموح” إلى أن “الاتحاد الفيدرالي يعد من أقوى أنواع الاتحادات وأكثرها استقراراً بفضل مزاياه العديدة التي تضمن له التوسع والانتشار، فهو يوفر نظاما دستوريا قويا تستند إليه التعددية الديمقراطية ، كما إنها تمكن من الحد من الأعمال التعسفية للدولة والحد من قدرتها على انتهاك الحقوق ما دامت العمليات القانونية لصنع القرار في الأنظمة الفدرالية تحد من سرعة الحكومة على التصرف” ، لكن ما يمكن تأشيره كملاحظة على هذا المنطق أنه يفترض شيوع وتنامي ظاهرة الانقسام الطائفي والقومي في المجتمع العراقي في مرحلة بعينها وأنها هذا الإنقسام يتسع ويتصاعد بشكل سريع وملحوظ . تمك الظاهرة التي أخذت تتسع وتتصاعد بشكل خطير وملحوظ، وهي حالة لم تؤكدها الوقائع على الأرض، إذ سرعان ما أكتشف الشعب العراقي أنه مستهدف في وحدته الوطنية على حساب هوياته القومية والدينية والطائفية ولحساب القائمين على العملية السياسية في العراق.
إن الحكومات المتعاقبة والتي كتبت مرجعياتها السياسية مع المستشارين الأميركيين قانون إدارة الدولة ودستور العراق الجديد الذي وضع في مادته الرابعة نصاً واضاً يقول ” إن نظام الحكم في العراق جمهوري -إتحادي-فيدرالي” وجاء في نفس المادة أن تتقاسم السلطات فيه الحكومة الإتحادية وحكومات الأقاليم، هذه الحكومات لم تبذل أي جهد فعلي لتثقيف الشعب على فهم وإستيعاب هذه المادة؛ بل شوهوا روح النص المذكور من قبل المشرع والذي ينص على أن” النظام الإتحادي يقوم على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الإثنية أو القومية أو المذهب”، وبناءً على هذا الوصف نجد أن سياسي العراق ركزوا على عوامل هي في الحقيقة عكس نص وروح المادة الخاصة بالنظام الفيدرالي فأوجدوا ثقافة العامل الطائفي لتفصيل العراق فيدرالياً وعملوا على لسان وجهود أكبر الشخصيات المؤثرة في العملية السياسية لتأجيج هذا العامل لكن وعي شعب العراق منع تقسيم العر اق على أساس طائفي هو غريب تماماً تاريخياً وإجتماعياً وتربوياً .
إن لم يتمكن العراق من إنتاج حكومة مركزية وطنية قوية ، وحال إستمرار العملية السياسية كما هي عليه فمطلوب أن يكون هناك برنامج تثقيفي تشترك فيه كل الوسائل التعليمية والإعلامية من أجل تعميق مفهوم الحكومة المركزية والحكومات الفيدرالية ومزايا هذا النظام وأهمها أنه لا يمس الهوية الوطنية وأنه سيزيد البلاد قوة وجميع محافظات العراق تطوراً وإزدهاراً وإنها لا ولن تكون على أساس ديني طائفي أو قومي ، وقد تستمر حملة التثقيف هذه أكثر من عقدٍ من الزمن لكنها في النهاية ستوصل العراق والعراقيين إلى حالة متقدمة من الاستقرار والنماء .
عذراً التعليقات مغلقة