عزيز باكوش
كاتب من المغرب
نشر الكاتب الروسي فيودور دوتسوفسكي قصته (الليالي البيضاء ( في عام 1848 وهي بإجماع النقاد وعشاق الأدب الروسي من أفضل قصصه ، كما تؤرخ لبداية أعماله الأدبية الرفيعة للغاية .والقصة تحكى بلسان راوي لا يحمل إسما ، وقد يكون الكاتب نفسه ،يعيش في مدينة سان بطرسبورغ التي يحبها ليلا ،ويكرهها نهارا ، ويبدو أنه يعاني من عزلة قاتلة . في لياليه البيضاء يقودنا دوتسوفسكي من خلال ما يختلج في قلبين من مشاعر وأحاسيس جارفة إلى فسحة حياة حالمة ،شاسعة الأطراف ، ينسكب فيها العشق زهاقا ، ويزهر الضحك باقات وينتعش فيها الخيال حد الانتشاء . فيرينا الكاتب مشاعره من كل الزوايا،مقترنة بالظروف النفسية والاجتماعية لسكان مدينة بطرسبورغ ،يسعد لسعادتهم ، ويصيبه اليأس الشديد كلما شعروا بالقنوط والإحباط .حتى أن الناظر لسمائها لا يكف عن التساؤل” كيف يمكن لسماء كهذه أن تظلل عديمي الفكاهة والمتقلبون جنبا الى جنب”
يشتمل البناء القصصي في ” الليالي البيضاء ” على أربع ليال . في الليلة الأولى وما بعدها ، تشاء الصدف أن يتعرف الراوي خلال إحدى جولاته بالمدينة على صديقة أول مرة ، لقد شاهدها وهي تستند على سياج، منهمكة في البكاء ،بعدما سمع صراخها وأسرع لإنقاذها من الرجل الذي كان يضايقها. الشابة الجميلة تدعى “نستنكا” . و قصتها تتلخص في كونها فتاة شابة جميلة نشأت مع جدتها الصارمة ، التي عملت على تربيتها تربية قاسية صارمة ومعزولة إلى حد كبير . و كان المبلغ الشهري الذي تتقاضاه جدتها ضئيل للغاية لا يكفي لسد الحاجة ، ما جعلها تؤجر المنزل مقابل دخل شهري إضافي. وعندما يموت المؤجر الأول ، سيتم استبداله بشاب أصغر سنا.سيكون له مع نستنكا شأن آخر. ذلك أنه في الليلة التي يقترب فيها النزيل الشاب من مغادرة إقامته بمنزله المؤجر من جدة نستنكا ببطرسبورغ إلى موسكو ، سوف تطلب منه نستنكا الزواج منها. لكنه سيرفض الزواج الفوري ، متعللا بأنه ليس لديه المال الكافي بتحمل مسؤولية الزواج وإعالة أسرة نستنكا كاملة ، لكنه سيؤكد لها أنه سيعود لها بعد ذلك بعام. تنتظر نستنكا مرور سنة من دون أن تتلقى منه رسالة واحدة.
ومع الفضفضة على السياج وأثناء الجولات في شوارع المدينة ،سيقع الراوي في حبها . لا سيما وهو شخص وحيد لم يعرف امرأة قط في حياته، ورغم أن شعورا جارفا بالخجل سيكتنفه للوهلة الأولى أثناء وجوده معها . إلا أنها وعدته بأمل بلقاءات قادمة في نفس المكان. واشترطت عليه عدم الاعتقاد بقيام علاقة حب بينهما ،كي تحكي له قصة حياتها وهو ما قبله على الفور دون تردد .
لكن الراوي الذي يقطن في شقة صغيرة في سانت بطرسبرغ مع خادمته المسنة الانطوائية “ماتريونا سيرفض الإعلان عن حبه لنتسنكا لأسباب شخصية جدا . لكن ،من مكر الصدف أن نستنكا نفسها كانت على علاقة و تواعد شابا آخر ، تبادله حبا عميقا ،لكن عشيقها الشاب يرفض الرد على رسائلها . في هذه الأثناء ، كلاهما ” الراوي ونستنكا “يهربان من الشعور باليأس إلى علاقة الصداقة الودية التي تجمعهما ، فالراوي يهرب من وحدته في المدينة التي يحبها ولا يعرف فيها أحدا ، وأيضا من شعوره باليأس نحو بناء علاقة الأولى من نوعها مع أنثى ،التي تهرب بدورها من علاقتها الفاترة مع حبيبها الذي يعيش في نفس المدينة نحو الراوي. هذا الأخير الذي سيعلن سروره بمساعدتها في كتابة الرسائل إلى حبيبها الشاب لتطييب خاطرها من جهة ،وتليين موقف عشيقها وحثه على مراسلة حبيبته من جهة ثانية ،يحدث كل هذا رغم أنها ليست على علم بأن الراوي يحبها أيضا حبا شديدا ، و نجح في إخفاء حبه والتظاهر بعدم محبته لها حتى الآن.
ويزداد يأس نستنكا عندما لا يرد حبيبها على رسائلها ، فتقصد صديقها الراوي من أجل المواساة الأمر الذي سيدفعه إلى مصارحتها بحبِه . لكن ما لم يتوقعه هو درجة الارتباك والغموض الذي اعترى نستنكا فهي ليست رافضة ولا تقبل صراحة ، فيقرر التوقف عن ملاقاتها و عدم رؤيتها مجددا، ولكنها تطلب منه التفاؤل والإبقاء على مواعدهما . ومن مكر الصدف أن يخرج الاثنان إلى الشارع في جولاتهما القصيرة كالعادة ، وهناك ستخبره أن علاقة الصداقة القوية التي تجمعهما قد تتحول الى حب في يوم من الأيام . الأمر الذي أدخل البهجة إلى قلبه . فتسربت الطمأنينة إلى نفسه .
وقد سعت نستنكا طوال علاقتها بالراوي إلى كشف المزيد عن تفاصيل حياته عند كل لقاء بينهما . وبعدها استأنف سرد قصته بصيغة الغائب ملقبا نفسه بـ«البطل» وخاطبته نستنكا «أنت تتكلم كما لو كنت تقرأ من كتاب ما» وفي نهاية خطابه المؤثر طمأنته نستنكا بمودة جارفة مؤكدة له أنها سوف تظل صديقة وفية له. ويزداد يأسها وتكبر مأساتها حين علمت أن حبيبها الشاب موجود في بطرسبورغ ،لكنها لم تتصل به. في هذه الأثناء سيواصل الراوي مواساتها ، وهي ممتنة للغاية له ، وفجأة يندفع بكل جموح ويعرب لها عن حبه لها والاعتراف بغرامه المكبوح طوال العلاقة التي جمعتهما .
لكنها ذلك سوف لن تستمر طويلا ، فسرعان ما تعكر صفو المزاج من جديد . إذ أثناء سيرهما في جولاتهما الاعتيادية صادفهما شاب لن يكتفي بالإمعان في الالتفات إلى نستنكا ،بل سيناديها، ليتضح في النهاية أنَّه حبيبها الذي تراسله، فتترك الراوي على الفور لتقفز إلى ذراع الشاب وهي في غاية النشوة والفرح ، وكتعبير عن الصداقة القوية ستطبع قبلة سريعة على خد الراوي. وتذهب لقضاء الليلة رومانسية مع حبيبها العائد تاركة الراوي وحيداً مجروح المشاعر.
قصة الليالي البيضاء وغيرها من الأعمال الأدبية الرفيعة لفيودر دوتسوفسكي تجعل منه أحد أعظم الرواة والقصاصين في العصر الذهبي للأدب الروسي ، وقد برز في كتاباته قدرته الفائقة في رصد وتحليل الحالات النفسية المرضية “الباتولوجية” للعقل البشري تلك الحالات التي تقود إلى التخبط النفسي والقتل والانتحار واكتشاف مشاعر الإذلال وتدمير الذات ” حيث يضع شخصياته في ظروف مثيرة للشفقة ، ثم يستخلص بمهارة فائقة من معاناتهم ومحاولاتهم المستميتة للنجاة آخر قطرة ممكنة من التعاطف والارتباك الإنساني ” حيث تمت ترجمة أعماله لأكثر من 180 لغة .
ونقرأ في تقديم للمترجم الدكتور نداء عادل “يظل فعل المحبة أكثر صعوبة من سواه في الحياة التي تمضي بنا مسرعة نحو المجهول. إلا أن من يعرفه مرة لن يجد في روحه مكانا لسواه، مهما كان الألم الذي يعيشه جراء الوحدة والغربة المجتمعية التي يعيشها كثيرون من أهل المحبة .حينما تتقاطع دروبهم وتعود إلى الافتراق مرة أخرى. سيظل ذلك الألم اللذيذ نافذة للنور الكامن فينا وطريقا لخروج الضياء من قلوبنا، عل يوما يأتي ويحظى المرء بلحظة سعادة كاملة تكفيه عمرا”.
عذراً التعليقات مغلقة