د. فارس الخطاب
لم يكن تسنم محمد شياع السوداني مهام عمله كرئيس لمجلس الوزراء في العراق نتيجة فوز انتخابي مستحق، بل كان واجهة لتوافق كتل الإطار التنسيقي الموالية للولي الفقيه في إيران وأدواتها الفاعلة على الأرض وأبرزها الحشد الشعبي الذي يعد القوة الموازية للجيش العراقي، بعد أن عجزت هذه القوى عن إقناع مقتدى الصدر، الفائز في انتخابات 2022م، بتشكيل حكومة “شيعية” تضمهم جميعاً مع من ارتضى أن يخون جماهيره والعراق من بقية الطوائف.
من هنا، وبمخطط إيراني عميق وخطير يفضي إلى سحب روح الانتفاضة والثورة من العراقيين الكافرين بالعملية السياسية والتدخل الإيراني بمقدرات وطنهم وكرامتهم، وبمساعدة ممن ارتضوا التنصل من جمهورهم الذي انتخبهم وترك الساحة والقرار تماماً لقادة الإطار التنسيقي ، بدأ مسلسل جديد وبطقوس مستحدثة وواجهة لم تطئها فضائح الفساد ، فكان عنوان هذا المسلسل هو ، محمد شياع السوداني ، الرجل الذي ارتضى أن يكون الممثل الأكثر إلتزاماً بالنص الذي كتبه بعناية ، نوري المالكي ، وراجعه إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
وبمناسبة مرور أكثر من 100 يوم على تولي السوداني منصبه بالوكالة عن المالكي المرفوض شعبياً وحتى برلمانياً، لم يقدم رئيس وزراء العراق خلالها إلا ما يسّكنْ حراك الشعب العراقي وبخاصة الشباب منه من خلال جملة من الوعود وبعض الإجراءات التي “سكّنت” بعض عوامل الانتفاضات العراقية، ولكنها أتت دون حساب لعوامل الاقتصاد وحقوق الإنسان والحفاظ على سيادة العراق ومستقبل العملية السياسية فيه.
نعم، وكما يعلم الجميع أن رئيس مجلس الوزراء قطع وعداً بتحديث قوانين الانتخابات في العراق منعاً لتكرار تجربة 2022م التي شلت الحالة السياسية والاقتصادية في العراق بسبب الأجندة المسبقة للقوى الموالية لإيران من جهة وتشتت القوى الأخرى وفقاً لمصالحها الشخصية وقبولها أن تكون أعداداً مع هذا الطرف “الشيعي” أو ذاك، وعد السوداني بانتخابات تجرى بعد عام من تشكيل وزارته ، لكن ، ومع تنفيذه لبرنامج نوري المالكي و هادي العامري القاضي بإلهاء الشعب بمكاسب مالية آنية ومحدودة ، تم تعليق هذا الوعد والعمل وفق رؤية لحكم البلاد لأربع سنوات مقبلة.
لم يحرك السوداني عجلة الاقتصاد العراقي المعتمد على مبيعات النفط، في حين تأخر إقرار ميزانية الدولة المالية بما أبقى الأحوال كلها داخل إطار القطاع العام المتضخم دون معالجات حقيقية لمشاكل البطالة لآلاف الخريجين وسواهم من الشباب العراقي العاطل والذي تتضاعف أعداده عاماً بعد آخر ، وبدلا من ذلك ، وبحسب “معهد الشرق الأوسط ” في واشنطن، فإن حكومة السوداني” تخطط لزيادة الانفاق على رواتب القطاع العام بمقدار 20 تريليون دينار عراقي (13.71 مليار دولار) في العام 2023، وتوظيف حوالي 66 الف خريج جديد ووضع 360 الف عامل مؤقت آخرين في كشوف رواتب دائمة”. ، وهو إجراء يعني فيما يعنيه كسب أصوات كل المستفيدين من هذا الإجراء ، فيما إذا تم لصالح الكتلة التي سيعيد ترشيح نفسه من خلالها سواء حدث ذلك في نهاية عام من ولايته أو أربع أعوام من رغبة العامري والمالكي.
إن محاولة تكريس رؤية إيران في طريقة حكم العراق هي مهمة الكتل التي تقف وراء السوداني ، والعراقيون يعلمون أساليب إيران وقدرتها على التلون للمرور عِبر المجتمعات المستهدفة ، ومن هذه الأساليب محاولة خلق “النموذج” الذي يستهدف التجمع حوله ومن ثم الإستعداد للدفاع عنه وعن ذكراه ، ومن أهم الرموز التي تحاول إيران ترسيخها في الوجدان “الشيعي” العراقي نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ، أبو مهدي المهندس، المسمى إيرانياً “جمال إبراهيمي” ، الذي قتل في ضربة جوية أميركية في الثالث من كانون الثاني/يناير 2020م ، مع قائده الإيراني “قاسم سليماني” ، ولتكريس هذه الصورة للنموذج الخارق يأتي ذكر “المهندس” في كل مناسبة ويطلق اسمه وترفع صوره على العديد من المشاريع والمؤتمرات وفي المدارس ، كان آخرها المبادرة التجارية التي أطلقها محمد شياع السوداني المتمثلة بتخصيص 70 مليون دولار من الأموال العامة لإنشاء “شركة المهندس” ، وهي شركة لم يفصح عن أهدافها، لكنها ستكون ضمن هياكل الحشد الشعبي المتعددة.
إن كل ما جرى في العراق خلال الـ 100 يوم الأولى من حكم السوداني هو في حقيقة الأمر خطوات تجميلية لواقع مأساوي في مجالات كثيرة في العراق، حتى أنه لم يجرأ حتى هذه اللحظة، ولن يجرأ حسب تقدير المراقبين، على فتح حقيقي لملفات الفساد التي يعرفها ويعرف أصحابها بشكل جيد، بل حتى الـ 2,5 مليار دولار التي تم سرقتها وتهريبها وفق ما أطلق عليه حينها بـ”سرقة القرن” لم يتم محاسبة المتهمين بها بل حتى الذين تم إلقاء القبض عليهم تم إطلاق سراحهم ولم يسترد من هذا المبلغ الكبير سوى %8 فيما تم إغلاق الملف من الناحية الفعلية لأن من يقف وراء القائمين بالاختلاس يشكلون “هوامير الفساد” منذ الاحتلال وحتى يومنا هذا.
ربما يقول قائل أن السوداني الذي ورِث تركةً ثقيلة من الفساد والتراجع الحضاري في جميع المجالات لا يملك العصا السحرية لتغيير كل ذلك بمئة يوم ، لكن هناك دائماً ما يعبر عن توجهات الحكومات في العالم خلال 100 يوم الأولى ، والسوداني ليس بِدعاً من ذلك ، والأمثال كثيرة ، منها ما ذكر أعلاه ، ومنها ما يتعلق بمجال سيادة العراق التي لا تحتاج سنوات لتُظهر قدرات أي حكومة على الحفاظ عليها ، فإيران وتركيا ما زالتا تمارسان حق قصف الأراضي العراقية تجاوزاً، وتتمادى أحياناً بالدخول إلى مسافات بعيدة في هذه الأراضي ، ولأن المعتدي الإيراني يختلف عن المعتدي التركي ، فإن رئيس الوزراء العراقي وحكومته تدين أي تجاوزات تركية فيما لم يعترض السوداني على الاعتداءات الإيرانية وقصفها أربيل في كردستان العراق عدة مرات بما تسبب بمقتل وجرح عراقيين من أبناء المنطقة، وبدلا من أن يحرك رئيس الوزراء قوات الجيش الاتحادية لتأخذ مواقع دفاعية على حدود كردستان مع إيران بصفتها من واجبات الحكومة الإتحادية وليس الإدارة المحلية، وافق على قرار المحكمة الاتحادية العليا بمنع إرسال أي مبالغ مالية لتمويل المرتبات الشهرية للموظفين والعاملين في القطاع العام في كردستان وكأنهم ليسوا عراقيين .
إن فقدان العدالة في العراق منذ احتلاله عام 2003م يشكل الظاهرة الأبرز في أوضاع هذا البلد ، ومع اختلال ميزان القضاء واستشراء الفساد في كل مرافق الدولة والحياة العامة ، كان لزاماً على رئيس مجلس الوزراء أن يُظهر احترامه للشعب العراقي من خلال بسط العدالة وحقوق العراقيين بالعيش الكريم ، ففي وقت قضاه سلفه مصطفى الكاظمي بتشكيل مجالس تحقيقية للكشف عن قتلة خيرة شباب العراق الأبرياء من كل ذنب سوى المطالبة بحقوقهم ، وغادر منصبه دون أي نتيجة أو عقوبة لأي جاني، فإن السوداني أعطى ظهره لهذا الأمر لأنه يعلم أن هذا الموضوع لا يدخل ضمن صلاحيات رئيس مجلس وزراء العراق وإنما هو من اختصاص فيلق القدس الإيراني وممثليه في الإطار التنسيقي وحشدهم الشعبي.
يبقى على الشعب العراقي أن لا يُخدع بفتافيت لأن أرباب العملية السياسية في أوهن حالاتهم ؛ ذاك أن من يعملون لخدمتها “إيران” في حالة وهن وضعف وضغط شديد وليس لهم من متنفسٍ إلا في العراق.
عذراً التعليقات مغلقة