“إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”
سورة البقرة، الآية 62
المندائيون في بلاد الرافدين
د. توفيق رفيق آلتونجي
“المندائيون” * الصابئه الإبراهيمية من شعوب حضارات العراق القديمة وهم في عمق جذور الثقافة والعقائد السماوية في ارض إبراهيم الخليل أبو الأنبياء(1) اي مدينة اور. نحن شعوب بلاد الرافدين، أبناء وطن واحد بتنوع عرقي و مذهبي وتعددي المعتقدات، متحف الشعوب والعقائد و الحضارات.
ان كل معارفي في ايام الجامعة عن الصابئة (2) كنت ادين بها لصديقي خالد المندائي الذي كان يدرس علم المكتبات في انقرة. شاءت الصدف ان نلتقي مرة اخرى في مكتبة المستشفى الرشيد العسكري الذي كانت بأدارة النائب الضابط المثقف و الواعي رضا ابو محمد له كل الاحترام والمحبة حيا كان او عند البارئ عز وجل والى جميع الطيبين ممن رافقوني خلال سنوات ادائي للخدمة العسكرية قبل اكثر من اربع عقود خلت (٤٦ سنة) خاصة رفاقي البصراويين خالد و خليل و اخرين.
رغم ان تلك المعلومات الاولية عن هذه الطائفة كانت ولا تزال محدودة جدا ما يخص أصول وتعاليم احد أقدم تكوين اثني وعقائدي عراقي أصيل. هذا ما دفعني لمعرفة المزيد حول اعلام هذه الطائفة الذين رفدوا العلم ، الفن والادب اسماء نكن لهم جميعا كل الاحترام و التقدير. هؤلاء الطيبون ممن وصلوا وتواصلوا عبر الزمن رغم كل الشدائد وحملات الغزو والجيوش ودمارهم للديار.. أقول حافظوا على تواجدهم الإنساني رغم
اعود الى سفرتي للعودة الى الوطن عام 1976 وعن الطريق البري، مرورا بمدينة “اورفا” في جنوب شرق تركيا حيث لي علاقة وجدانية بالمدينة وأهلها وبلهجتهم البديعة التي تشبه لهجة توركمان العراق.
وعند مقام نبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في احد أقدم مدن الشرق المسكونة لحد الان “الرها” تتوحد أرواح من زاروا المدينة مع تلك الأسماك الفرحة التي تتسابق فرحة في الماء المحيط بالمقام. هناك علاقة فكرية وعقائدية بين صابئة حران (3) وميسان
وفلسطين وإيران وارتباطهم الوثيق ب الماء الجاري.
لا ريب ان الصابئة تاريخيا وجدوا على طول شواطئ الانهار ومنها دجلة الخير و من منابعها و روافدها في جبال كوردستان الى مصبها عند قرنة الابله واتحادها مع توأمه الخالد نهر الفرات في القرنة، أقول وجدوا في تلك الشواطئ وطنا يسهل بالدرجة الأولى أداء طقوسهم الدينية حيث “العماد” أي الغطس في الماء الجاري نهارا، الماء مصدر الحياة، احد أهم مرتكزات الانتماء الى هذه الطائفة. ان مجرد الحديث عن العماد يأخذنا الى فلسطين حيث الروايات الواردة عن نبينا يوحنا المعمدان (4) وعماده لنبينا عيسى عليه الصلاة والسلام (5) ويعتقد الصابئة بكون المسيح احد مريدي يحيى المعمدان الذي اكتشف الروح النبوية المقدسة في شخص سيدنا المسيح. الحقيقة التاريخية المتوارثة في حياة الأنبياء والرسل والصالحين.وليس بعيدا اهتماماتهم الفكرية عن معتقداتهم ودور علوم الفلك والظواهر الطبيعية والرياضيات في تفسير تلك الظواهر ومحاولة إيجاد القوانين الفيزيائية التي تتحكم بتلك الظواهر وسعيا الى التوفيقية بين المعرفة العلمية والإيمان وربما ها هنا يلتقون مع العديد من الجماعات الفكرية التي رأت في نظرية المعرفة العلمية والمنطق
وعلوم الرياضيات والفلسفة والأيمان بالغيبيات في تكوين توفيقي لتلك العناصر ك جماعة “إخوان الصفا وخلان ألوفا”(6). ولا ريب ان حتى الفلسفة اليونانية المعروفة اليوم تجد أصولها وأسسها الأولية عند شعوب العراق القديمة التي أسست وعلى طول نهري دجلة والفرات. لا ريب ان علوم الفلك وتأمل السماء وحركة النجوم والكواكب كانت أول الطريق في مسار البحث عن القدرة الإلهية وكل ما يخص بحوادث التي تحصل على الثرى.
يبقى أن نعلم إن النص المقدس (كنزاربا) العلني والسري منه يكتب باليد وحصرا بيد رجال الدين وباللغة الآرامية (7) القديمة والتي يجيدها القلة من الناس وربما لا يفك طلاسمها حتى رجال الدين أنفسهم بل يتلونها تلاوة دون معرفة معانيها أحيانا بينما يردد العامة ما يتلى عليهم كنص مقدس(8).
نص مقدس:
بسم الحي العظيم
” من أخطأ منكم فقوموّه وأسندوه. فإن أخطأ ثانيةً
فقوموّه وأعينوه. فإن أخطأ ثالثة فأرشدوه ، والصلاة والتسبيح لله فأسمعوه .
فإن عصى واستكبر ، وأبى إلاّ المنكر ، فاجتثوا هذه الكرمة من الجذور ، وازرعوا مكانها كرمةً تعرف طريق النور ، فقد قالوا له إسمع فلم يسمع . وأروه نور الله فلم يخشع ، فسقط في العذاب…
و عـلـّـموا النشـماثا أن لا ترتـاب قلوبها ، وأسمعوها لغة السلام : التسبيح الذي آتيتكم .. فتشهد قلـوبهـا وتطمـئـن .”
إن التقاء العقائد المختلفة في حوض الشرق مسألة طبيعية جدا ليس فقط لوجود المكان النموذجي للقاء الثقافات المتباينة على ارض الرافدين وإنشاء حضارات تعددية ثقافيا وأثنيا بل ان ثروات المنطقة من وجود الماء والأراضي الخصبة والحياة الفكرية والدينية العقائدية الغنية كونتا بؤرة تجذب أطماع الشعوب من
الشرق والغرب وللتحول ومدى العصور الى ارض تسيل فيها الدماء وتجري.
ان سواد الفكر الشمولي لم يترك لشعب العراق وفي العديد من المراحل التاريخية الخيار بل اجبروا على
الرضوخ لمشيئة الغزاة. كل ذلك التنوع أدى الى تكوين مجموعات عقائدية باطنية اتخذت من اللغة الدينية المقدسة لغات لها وربما هجرت لغاتها القومية الأصلية كما في الزردشتية(9). يعتقد الصابئة المندائيين بخلود الروح العظيم عند الحي العظيم ” ارشاما وابراخا “. وكتابهم المقدس الءي انزل على ادم يسمى ربا «الكنز العظيم»، يسمى أيضاً سدرا ربا.
هناك عقائد كثيرة أخرى باطنية تسير في هذا المنحى وربما ذو اصول هندوسية. كما ان الكالكائيين وهم
طائفة دينية تنتشر في منطقة گرميان بين الاكراد تؤمن كذلك بتناسخ الأرواح. وهناك تشابه كذلك بين معتقدات وطقوس والشعائر الدينية الأيزيديين والمندائيين وخاصة العماد وبعض الطقوس والشعائر الدينية المشتركة مع اليهود ز المسيحيين وانحصار المعرفة وحتى قراءة النص المقدس بيد رجال الدين وشعائر دينية أخرى.
لا يزال المندائيون طائفة غامضة منغلقة على نفسها ليس فقط لعدم وجود دراسات وبحوث كافية حولهم بل لكون العديد من اسرار العقيظة غانضة رغم ان العديد من المثقفين منهم قدموا ظراسات حول طائفتهم لازالة ذلك الغموض.
..
*الموضوع جزء مختصر من دراسة مطولة.
هوامش:
المصدر الاساسي:من كتاب أصول الصابئة ( المندائيين)، عزيز سباهي، دار المدى، 1996. كما يتطرق أستاذنا الكبير المرحوم علي الشوك في تناوله للأسطورة الدينية الموضوع من جوانب متعددة نتيجة لثقافة استاذنا الموسوعي والتعددي. انظر: الأساطير بين المعتقدات القديمة والتوراة، 1987، لندن، دار الام.
1- يذكر الاستاذ محمد عبد الحميد الحمد ان “ابراهيم الخليل عليه السلام عندما توجه من حران الى “فدان آرام”، سمي بالارامي نسبة الى تل فدان آرام تقع غرب حران بحولي 10 كم، وسمي حفيده يعقوب بن اسحق بالارامي التائه، عنما هاجر من ارض كنعان الى فدان آرام.
يعتقد اليهود كذلك باليهودي التائه الذي لا يزال يدور في الارض الى يوم الدين.
2- الصبا من الارامية وتعني الاغتسال او العماد وتاتي عملية المسح عند اليهود و المسيحيين في عملية التعميد الذي اشتق منه اسم “المسيح”. كما كانت اللهة آنا من كبار الاله عند السومرين والاكديين وهي رب المياه والحكمة يرجى مراجعة أسطورة تموز الراعي وهيام عشتار له ورحلته الى العالم السفلي وسواد الظلام والدجى ارض السواد.
3- يقول الترميذا علاء النشمي في مقالة له تحت عنوان ” صابئة حران والمندائيون اليوم”: وفي الحقيقة توجد اكثر من مدينة سميت حران، فحران في تركيا وحران في سوريا وحوران في العراق. ويردف مستوضحا موضوع الصابئة في فلسطين قائلا: كان الصابئة يقطنون تلك المدينة المسماة بحران، وعندما هاجر الصابئة المندائيون الفلسطينيون في القرن الأول الميلادي بعد دمار أورشليم حوالي سنة 70 للميلاد على يد القائد الروماني تيطوس،صعدوا الى هذه المدينة، لان لهم اخوة في الدين. فبقي منهم في حران، والبقية الباقية اثرت النزول الى وادي الرافدين عن طريق النهرين، وخاصة عن طريق نهر الفرات حسب اعتقادي، ومروا ايضا ب(بصرى – حوران) عاصمة الأنباط، للالتقاء والاستقرار أخيرا مع أخوتهم أيضا الصابئة الموجودين في البطائح.. وكانت هذه الهجرة تحت رعاية الملك اردوان (يعتقد بأنه الملك البارثي ارطبانوس)،هذا ما ذكره الكتاب المندائي التاريخي (حران كويثا)
4- شخصية يوحنا المعمدان ورد في القران والإنجيل وفي الإسلام يعرف باسم يحيى ومولده في القصة القرآنية أسطوري ومعجزة سماوية حين يقوم النبي زكريا بالدعاء الى ربه كي يعطيه ذرية من زوجته العجوز وكانا كلاهما طاعنين في الكبر حيث يرزقه الله سبحانه وتعالى ويبشره بغلام صالح اسمه يحيي وقد وردت قصة النبي يحيى بأشكال مختلفة ولكن بنفس المضمون في الإنجيل وفي كتاب “دراشه أديه يا” احد كتب الصابئة ترتبط عملية الحمل الولادة مع شرب الماء المقدسة.
5- راجع: مخطوطات البحر الميت، محمود العابدي، عمان، جمعية عمال المطابع التعاونية، 1968. وكذلك: محمود العابدي، قدسنا، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. معهد البحوث والدراسات العربية – قسم البحوث والدراسات الفلسطينية 1972. وقد اكتشف بدويان وهما محمد الذويب ومحمد حماد تلك المخطوطات في إحدى الكهوف المطلة على البحر الميت في أواخر الأربعينيات. أودعت بعد ذلك تلك المخطوطات والعديد من مكتشفات الاثريه في المنطقة في المتحف الفلسطيني وبعد حرب حزيران عام 1967 انتهت الى السيطرة الإسرائيلية ونقلت بعد ذلك الى متحف الكاتب الإسرائيلي بالقدس الغربية. وقد دار جدل طويل حول نصوص تلك المخطوطات وتدخل الفاتيكان بإرسال لجان للتقصي والترجمة تلك النصوص علها لا تعارض نصوص الأناجيل المعمول بها حاليا ومن المعتقد ان تلك النصوص لم تؤشر الى حادثة ظهور سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام.
6- عن حركة اخوان الصفا يقول:..هذا يظهر جليا عند قراءتنا لبعض الرسائل التابعة لهذه الحركة والتي تسمى (رسائل اخوان الصفا) فوجدت فيها فصلا كاملا عن علاقة حسابية فلكية رقمية، نفسها موجود في كتاب مندائي يسمى (أسفر ملواشا – سفر الأبراج) اعتقد بانه ترجمة حرفية عربية لما موجود في هذا الكتاب المندائي !!! إضافة للتشابه الغريب والعجيب للأفكار الغنوصية الموجودة في هذه الرسائل، مع أجزاء من ديوان مخطوط باللغة المندائية يدعى (ألف ترسر شيالة – ألف واثنى عشر سؤال). للمزيد يرجى مراجعة الموقع التالي: http://www.mandaeanunion.org/
انظر كذلك الى : سيد محمد ثقفي، آراء و نظريات اخوان الصفا، بالفارسية يرجى مراجعة العنوان التالي
http://www.nezam.org/persian/magazine/004/09.htm#t
7- لقد قام الأب انستاس الكرملي بنسخ احد اهم الكتب عن المندائية” سيدرا اد نشماثه” عام 1896.
8. يقوم الأستاذ المرحوم عزيز سباهي بتقسيم تلك النصوص الى ست مجاميع. راجع كتاب”أصول الصابئة”. ويتسائل قائلا:
اما اللغة التي دونت بها كتبهم الدينية، والتي كانت يوما ما لغتهم في التخاطب أيضا،فهي لهجة خاصة من اللهجات الآرامية الشرقية. ونتيجة لطغيان الثقافة العربية الإسلامية والحكم العربي الإسلامي الطويل، والتضييق والاضطهاد الذي يحاصرهم عبر الأجيال، انمحت لغتهم الأم تدريجيا في التخاطب وانزوت في الدوائر اللاهوتية او حتى في الكتب الدينية فقط. فهل كان أصلهم من الآراميين ثم غلب عليهم الانتماء العربي؟
راجع مقال الاستاذ سباهي: الى أي قوم ينتمي الصابئة المندائيون؟
9.الزردشتية هي الديانة الموحدة التي وضعت في ايران من حوالى القرن السادس قبل الميلاد ، يعود عموما إلى زرادشت (ذو الناقة الصفراء) ، الذي ولد في ايران عام 598 ق . م . م، وتوفي في 522 ق .م.
http://www.mandaeanunion.org/History/AR_History_033.htm
للمزيد راجع الرابط التالي:
2683/
عذراً التعليقات مغلقة