الحدث وسلطة الذاكرة؛ قراءة نفسية ايكولوجية في مجموعة “ذكريات عطر” للقاصة عائشة عسيري
أحمد الحاج
/ كاتب من العراق
يعد المنهج الإيكلوجي منهجاً نقدياً حديثاً، والذي تبلور مؤخراً على أيدي مجموعة من العلماء وأخذ مكانه الطبيعي بين المناهج النقدية بعد تأسيس جمعية دراسة الأدب والبيئة في الولايات المتحدة الأمريكية (ASLE)، كما تم تخصيص كرسي استاذ الدراسات الأدبية ـ البيئية في معظم جامعات العالم من تسعينات القرن الماضي. والعودة للنقد البيئي جاءت بردة فعل كتواصل مع المذهب الرومانسي والواقعي في الأدب بعد أن اعتقاد قسم من النقاد على أن الواقعية قد ولت مثلما ولت الرومانسية، وهو اعتقاد نشأ على خلفية الدراسات البنائية وموت المؤلف والكتابة بدرجة الصفر التي أرسى قواعدها كل من دي سوسير وكلود ليفي شتراوس ورولان بارت، ولكن مع ظهور المنهج البيئي في النقد نجد أن الواقعية قد عادت وبحلة أجمل من ذي قبل بعد أن أعادة حياة الكاتب وتأثير البيئة الطبيعية والنفسية والاجتماعية في كتاباته.
ولكن لماذا المنهج البيئي بالذات؟ لعل نظرة متفحصة لقصص المبدعة عائشة عسيري تحيلنا إلى أن شخصياتها مستمدة من الواقع الاجتماعي والنفسي المحيط بها وما تعانيه من منغصات في حياتها نتيجة قيود هذا الواقع، فكانت بحق هي المعبر عن انثيالات هذه الشخصيات وتسليط الضوء على معاناتها النفسية والاجتماعية والتحدث بلسانها والخوض في تجاربها الشخصية ووصف حالاتها بدقة بأسلوب هادئ ورصين، ولا غرو فالكاتبة عسيري تحمل بكالوريوس لغة وأدب عربي فهي خريجة كلية تربوية ومن منسوبات التعليم الملامسات للبيئة التعليمية عن قرب، بحكم عملها مساعدة ادارية في مدرسة ابتدائية، كما أنها صحفية لامعة لها حضور قلمي في العديد من المنتديات الأدبية ومحررة في صحيفة فرقد الإبداعية ونشرت الكثير من القصص والمقالات والحوارات والقصائد النثرية والخواطر.
وقد اخترت موضوع الحدث والذاكرة في دراستي الموسعة للمجموعة القصصية كون الحدث يلعب دوراً مهماً في صياغة الحبكة القصصية من حيث أنه يشكل محور الانتقالات السردية من بداية القصة حتى خاتمتها، وباتصاله مع كل من الشخصيات والزمان والمكان يشكل الوحدة الموضوعية في بناء النص القصصي، وبيان تجلياته السردية، كما يساعد على صياغة الثيمة وتسهيل فك شفرتها للمتلقي بشكل أفضل. يضاف إلى ذلك فإن عملية بناء أنساق الحدث تبين لنا قدرة الكاتب ومستوى حرفته في صياغة النص من حيث التلاعب في الزمن، وتوظيفه السردي بما يخدم آلية اشتغاله الإبداعية.
الحدث كوحدة زمكانية:
لقد ارتبط الحدث بالزمان ارتباطاً وثيقاً من حيث هو جزء لا يتجزأ منه، كما ارتبط بالمكان أيضاً وباتحادهما معاً يشكلان المفهوم الأشمل والأعم. وعلى اعتبار أن كل حدث لابد أن يجري في مكان معين، لذلك فقد درس الحدث من ضمن الفضاء السردي (Setting) والتي تعني المكان الذي يقع فيه الحدث، والذي يشمل على الزمان والمكان كوحدة موضوعية لا يمكن الفصل بينهما([1]).
وقراءة في المصطلح النقدي نجد أن هناك العديد من المفردات التي تترادف مع مصطلح الحدث، لذلك ارتأينا تحديد مفهوم كل واحد منها تجنباً لحدوث لبس بينها.
- الوقت (Time): وهو الذي يتم جدولته باللحظة والثانية والدقيقة والساعة،… الخ.
- الحادثة (Incidence): وهي حادثة صغيرة تقع ضمن حدث أكبر وأشمل، وتجمع بمفردة “حادثات”.
- الحدث (Episode): وهو حدث كبير يتم فيه تراكم مجموعة من الحادثات تبنى على مجموعة من المشاهد الدرامية في مسلسل يعد لعرضه على الشاشة أو على خشبة المسرح ومعظمها تأتي بشكل تعاقبي وتدعى كل واحدة منها حلقة.
- الحدث الطارئ (Accident): وهي حادثة مفاجئة تحصل لشخصية أو مجموعة أشخاص ذات طبيعة مأساوية قد تسبب بإعاقة جسدية أو نفسية أو موت، مثل حادث سيارة، حادث طعن، حادث خطف، ويترادف مع هذا المصطلح مفردات مثل: طوارئ (Emergency)، وعوارض (Casualty).
والحدث كمفهوم فلسفي يقسم من حيث الدراسة المنهجية الى قسمين:
أـ الحدث الزمني (Aspect):
وهو الحدث الذي يمثل الزمن وتجلياته من حيث زمن وقوعه ونتيجة تأثيره في النص. وتعتمد دراسة هذا الحدث في علم اللغة على زمن الفعل وصيغته الصرفية بصرف النظر عن ارتباطه بالفاعل، فهو يعرض طريقة الفعل أو الحدث فيما إذا كان طويلاً، قصيراً، مستمراً، غير مكتملاً،…الخ. فهو يبين الكيفية التي يعرض فيها المتحدث الفعل أو الحدث([2]). لذلك فقد قسم علماء النحو الحدث الى ثلاثة أقسام رئيسية:
- الماضي: وهو حدث تم في الزمن الماضي سواء البعيد أو القريب ولكنه بقي معلقاً في الذاكرة ويشار إليه في اللغة العربية بصيغة الفعل الماضي المجرد، وأحياً يسبق بأداة توكيد. ويرد في النص الأدبي ـ في أغلب الأحيان ـ عن طريق عملية الاسترجاع (Feedback) أو الفلاش باك. وقد يكون الحدث قد انتهى في الماضي البعيد او القريب، وقد يكون تأثيره مازال باقياً للزمن الحاضر.
- المضارع: وهو حدث في الزمن الحاضر ويشير في أغلب الأحيان إلى تكرار حدوثه، أو إلى عادة متكررة أو حقيقة علمية. ويعبر عنه بصيغة الفعل المزيد بإضافة أحد حروف (أنيت) على الفعل المجرد.
- المستقبل: وهو حدث يتوقع أو يتنبأ بحدوثه في المستقبل القريب أو البعيد، ويعبر عنه بصيغة الفعل الذي يسبقه أداة (سوف، س)، ويرد في النص بواسطة عملية الاستباق (Foreshadowing).
ب ـ الحدث الأدبي (Event):
الحدث (Event)، فكرة أصبحت ذات أهمية فريدة للفكر الفلسفي في حقل الفيزياء النسبية. ومن المفاهيم الأكثر شهرة ما ورد عن الفيلسوف برتراند راسل (Bertrand Russell)، الذي استبدل الحدث بالمفهوم الغامض للجسد، بينما يعده ألفريد نورث وايتهيد (Alfred North Whitehead) على أنه مفهوم تتشكل الأحداث فيه من خلال سلسلة من المناسبات الفعلية. وبشكل عام، في كلا العرضين، يكون الحدث هو الذي يصاغ في وقت ومكان معينين. ([3])
وقد اتفق معظم المنظرين والنقاد على أن بنية الحدث الأدبي يقع ضمن أربعة أنساق هي نسق التتابع والتي يرد فيها الحدث بصورة متتابعة، ونسق التضمين/ المتداخل، والقائم على تضمين الاحداث في بينها، ونسق التناوب([4]) ، ثم أضيف له نسق البناء الدائري. ويرتبط الحث بالزمن بصورة كاملة، وقد قسم العلماء الزمن إلى قسمين رئيسين هما: الزمن الخارجي وهو الذي نعده بالسنين والأشهر والساعات بشكل تعاقبي ديناميكي، وزمن نفسي داخلي ولا يمكن الفكاك منه ولا يمكن عده أو احصاءه. يقول الدكتور مصطفى محمود عن الزمن: “والزمان الخارجي الذي نتداوله زمان مشترَك، نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا، نحن فيه مجرد حادثة من ملايين الحوادث، ومرجعنا فيه تقويم خارجي، أما الزمن الداخلي فهو زمن خاص، لا يقبل القياس، لأنه لا مرجع له سوى صاحبه، وصاحبه يختلف في تقديره، فهو يشعر به شعورًا غير متجانس، لا توجد فيه لحظة تساوي اللحظة الأخرى ..” ([5])
وعملية سرد الأحداث ترتبط بشكل جذري بالذاكرة الفردية التي تقع منهجياً ضمن اشتغال علم النفس الادراكي Cognitive Psychology)) وتقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسية هي الذاكرة اليومية Sensory Memory))، والذاكرة القريبة Short-Term Memory)) والذاكرة البعيدة Long-Term Memory))، والعلاقة ما بين الثلاثة هي علاقة تشفير وخزن واستدعاء.
وقد اتخذت القاصة المتألقة عائشة محمد عسيري الحدث والذاكرة آلية للاشتغال السردي في مجموعتها البكر “ذكريات عطر” الصادرة بدعم من نادي أبها الأدبي عام 2019([6])، والتي شملت على خمسة عشر قصة قصيرة ، ومن الملاحظ أن القاصة عسيري قد اتخذت لمجموعتها عنوان يدعم آلية اشتغالها الإبداعية وكأنها وسيلة لتهيئة ذهن المتلقي لما يرد في نصوص المجموعة السردية، ومما لا يخفى على أحد من أن العنوان الرئيسي يشكل العتبة الأولى التي يجتازها المتلقي، كما أنه يشكل الخيمة الرئيسية لمحتويات الكتاب بكل تفاصيله، فهو المدخل لثيمة النص وهذا ما أكده ألان روب غريبيه عندما قال “أن عنوان أي كتاب يمثل الكلمات الأولى للنص”، وعنوان “ذكريات عطر” بالإضافة إلى كونه عنوان ايحائي ذو انزياح دلالي من حيث انه يؤنسن لمفردة ذات مدلول مادي ترد بمصاحبة لغوية مع مفردة ذات مدلول معنوي([7])، إلى أنه أيضاً يشير بمجمله كدال نصي إلى مجموعة احداث ماضية تنسرب في ذاكرة الشخصية، وقد أجرت عليها عملية استبدال افقي لتضع مكانها مفردة “عطر” في إشارة لإرتباط رائحة العطر بحادثة قد تكون مفرحة أو محزنة للشخصية. وعملية مسح لكل عنوانات المجموعة القصصية نجد انها تحمل نفس الثيمة بصورة ظاهرية أو ضمنية: “نهاية أمل، الغائب المنتظر، خيبة أنثى، الحلم، حلم فراشة، أحلام متلاشية، اغتصاب،… إلخ”
وبالعودة للحدث والذاكرة فمن الملاحظ أن معظم شخصيات المجموعة القصصية تعاني من سطوة الماضي المحفور في الذاكرة البعيدة، فهو وإن كان حدث قد انتهى في الزمن الماضي، إلّا أن تأثيره مازال قائماً. لذلك نلاحظ معظم الشخصيات الرئيسة في القصص عبارة عن شخصيات نفسية متعلقة بأهداب الماضي كتعويض لظلم الحاضر وبؤسه وشقاءه.
“انتفض الرجل، ثم جثا على الأرض وانسكبت دموعه مجدداً، لتسقط مكان الوردة التي أُقتلعت البارحة”. {المجموعة: 12}
إذن هناك فعل اجرامي بحق البشرية جرى في الزمن الماضي، عملية اقتلاع الوردة/ الحلم، من الحديقة/ الحياة، وهو غير معروف طبعاً من قام بهذا الفعل الشنيع (إقتلاع الأحلام) ولذلك تمت الإشارة إلى الفاعل بصيغة المبني للمجهول. وفي قصة “نهاية أمل” والتي تبين من العنوان على وجود حدث في الزمن الماضي قد حطم حدثاً في الحاضر:
“الليلة سيأتي خالد لمشاهدتي، الليلة سيأتي خالد لخطبتي”. {المجموعة: 14}
وهذه الحادثة قد أثرت في الشخصية إلى حد كبير، بل سيطرت عليها حتى أصابتها بالجنون لتنتهي القصة ليست بنهاية الأمل، وإنما بنهاية الشخصية نفسها.
“لقد وجدوا أمل ميتة في المكان نفسه الذي جلست فيه ليلة قدوم خالد ليشاهدها في ليلة خطبتها.” {المجموعة: 15} وكأن الموت كان هو الخلاص من جحيم الماضي الأليم ومن قساوته وجبروته.
“آه منكِ أيتها الدنيا المُرّة كم جَرّعتني المرارة! وآه منكِ أيتها الحياة القاسية، كم حرمتِنِي من كل شيء أحببته!” {المجموعة: 32}
ويتكرر المشهد نفسه في قصة “الغائب المنتظر” من حيث حدث الإنتظار الغير مجدي:
- “انتظريني، سأزورك في الموعد نفسه من الشهر المقبل.
حدقت إليه والدمع يسيل من عينيها، قالت:
- اعدك سأنتظرك كما انتظرتك من قبل،…” {المجموعة: 19}
وأحياناً نجد أن الحدث يرد في الزمن الحاضر المتأثر بالزمن الماضي المحفور في الذاكرة البعيدة كحلم بالخلاص من الواقع المعاش ويظهر بسلوك الشخصية التي تحاول اثبات هذا الحلم/ الماضي كحقيقة/ أمل منشود في الزمن الحاضر، وهذا ما نجده في قصة “الحلم” عندما اعتادت الشخصية الرئيسية على دوام الحضور إلى رصيف الميناء بإنتظار “حسين”/ المخلص الذي رأته في حلم وحفظت ملامحه، ولكن المخلص لم قد خذلها في اللحظة الأخيرة/ لحظة الإلتقاء:
- “سيدتي هلا عرّفتِ لي بنفسك لأني حقاً لم أعرفك، وأنا لا أعرف أحداً في هذه المدينة.
- ابتسمت المرأة في هدوء وأغمضت عينيها لثوان، وكأنها تستذكر الحلم الذي رأته قبل خمسة عشر عاماً.” {المجموعة: 29}
ولكن حتى هذا الحلم أحياناً يكون حلماً مشروطاً، فلا توجد حتى حرية في الأحلام، بل هي أحلام مقيدة، مكبلة بمجموعة من العادات والتقاليد التي تقيد هذه الأحلام وفي حالة الجهل بهذه القيود أو محاولة الخروج من بوتقتها فعقوبتها الموت احتراقاً، حتى ولو كان هذا الحلم هو مجرد الإقتراب من النور ومحاولة تسليط الضوء على كل ما هو مظلم، وقد عبرت عسيري عن هذه النزعة المجتمعية أصدق تعبير وبرمزية عالية عندما صورت لنا مشهد العشق الروحي للنور عبر قصتها “حلم فراشة” التي سعت للاقتراب من تحقيق جزء من هذا الحلم، ولكن هذه العملية محفوفة بالمخاطر وربما نهايتها الموت بالإحتراق بهذا النور الساطع في إشارة إلى ما تواجهه الشخصية من قيود مجتمعية والتي رمزت اليها بالفراشة:
“ذلك النور العالي للمصباح، يبدو كالمغناطيس، يجذبها إليه، كلما حاولت الابتعاد عنه. طارت كالمجنونة مندفعة بقوة صوب نور المصباح البهي، حطت بقدميها عليه، شعرت بداية بالكثير من الدفء، وابتهجت لكل النور الذي غمرها… شعرت بحرارة فظيعة تلفها، حاولت الطيران مبتعدة عن المصباح، لكنها لم تستطع، نظرت إلى جناحيها، فرأتهما يحترقان…” {المجموعة: 46}
وفي قصة “احلام متلاشية” وظفت القاصة عسيري الرمزية الأدبية([8]) في عملية استدعاء الذاكرة البعيدة، والقصة تعد من قصص السيرة الذاتية (Autobiography) فهي تعكس فترة زمنية لحياة القاصة منذ نعومة اظفارها، فقد بدأتها بعمر الثانية عشر عندما كانت تحلم بالفوز بالمركز الأول في المدرسة، ثم استدعت ما فقدته بعمر الثانية والعشرين وهو تاريخ تخرج القاصة من الكلية المتوسطة وحلمها في الحصول على وظيفة معلمة، ثم مرت على مراحل من عمرها كانت تحلم بتحقيق أحلام وردية راودتها قسم منها تحقق بعد مدة قصيرة مثل حصولها على الوظيفة، ثم اكمال دراستها في الكلية وحصولها على بكالوريوس لغة عربية، وعلى الرغم من أن بعض من هذه الأحلام لم يتحقق، لكن من الملاحظ أن القاصة عسيري رغم الحزن الذي يتلفعها قد نفضت عنها غبار الماضي وراحت تتطلع للمستقبل المشرق الذي تسعى في تحقيقه بعد أن وضعت قدميها في بداية طريق الابداع والتألق الأدبي والمعرفي، فهو قاصة مبدعة، وصحفية قديرة، وكاتبة متألقة:
“فجأة، انتقضت قائمة من سريرها، تأملت غرفتها، وجدت نفسها وحيدة فيها، والاضاءة تملأها بالنور….” {المجموعة: 49}
وفي قصة “الضحية” نجد أن ذاكرة الزمن الحاضر عبارة عن حاضر مأساوي للشخصية البطلة في معظم الأحيان، حتى لو حاولت الفكاك منه، فهي سوف تصطدم بالواقع المرير الذي يحتم عليها التنازل عن أبسط حقوقها لتكون هي الضحية: “أبلغها أن زوجته طلبت الطلاق عندما علمت برغبته في الزواج من زوجة ثانيةٍ، وأن بيته سيتعرض للخراب. قائلاً باستعطاف:
_ هلِ يرضيك ذلك ؟ لكنها ردت على الفور وبحزمٍ، قائلةً:
_ أبداً لا يرضيني حصول ذلك مطلقاً، وأتمنى لكما حياةً مليئةً بالسعادة معاً، ثم مضت باكيةً لا تلوي على شيء.” {المجموعة: 57}
وهنا نجد القاصة عسيري قد تناولت موضوع تعدد الزوجات بطريقة جمالية تلامس وجدان المتلقي برفق وعفوية، وهذا ما يشي بتفوقها في معالجة الموضوع برؤية شمولية عميقة ذات بعد نوع اجتماعي ينتصر للمرأة ولدورها في بناء المجتمع.
وحتى لو حاولت الالتجاء إلى السلطة والقانون للدفاع عن أحلامها مغتصبة، فستكون الإجابة: “الأحلام المغتصبة لا محكمة لها في الأرض، عليك بالاتجاه لمحكمة السماء.” {المجموعة: 67} وهذا ما انعكس على نفسية الشخصيات وسلوكها في الحبكة السردية، فالماضي أليم وقاسٍ ولافكاك منه، كما أن الأحلام مصادرة ولا ناصر ولا معين لها على سطح الأرض، فكانت النتيجة إصابة العديد من الشخصيات بمتلازمة الشد ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder Syndrome) وهذه الصدمة التي تعرضت لها معظم الشخصيات في الماضي البعيد أو القريب ولكن تأثيرها مازال قائماً أو فلنقل مضاعفاتها قائمة، والدليل على ذلك ما تسببه هذه الصدمة من معاناة للشخصيات قد تنتهي بنهاية مأسوية مثل ما حدث لشخصية أمل والفراشة، وقد ينسرب بآلية الإقتران الشرطي التي وضعها العالم الروسي ايفان بافلوف([9]) هي نظرية تقوم أساساً على عملية الارتباط الشرطي التي مؤداها انه يمكن لأي مثير بيئي محايد أن يكتسب القدرة على التأثير في وظائف الجسم الطبيعية والنفسية إذا ما صوحب بمثير آخر من شأنه أن يثير فعلاً استجابة منعكسة طبيعية أو اشراطية أخرى. وهذا ما حصل لبطلة قصة “ذكريات عطر” التي حملت عنوان المجموعة عندما أحدثت لها عملية رش العطر في الزمن الحاضر منعكساً شرطياً لتذكر حدثاً حصل لها قبل عام عندما رشت نفس العطر على ملابسها فوردتها رسالة من حبيبها ماجد يطلب يدها للزواج وهو حلم يراود كل فتاة في بداية حياتها.
“أوه يا رباه، في ذلك اليوم، قبل عامٍ، وضعتُ من نفس العطر على ملابسي، وأنا في عملي، عندما أرسل لي ماجد رسالةً هزت جذع قلبي، فتساقط له رطباً جنيا. قال لي: إنه يحبني ويريد الزواج مني.
تأوهت مجدداً متسائلةً:
_ كيف لعطرٍ أن يفعل بي كل هذا ؟! كيف لرشاتٍ منه أن توقظ ذكرياتٍ جميلةً ومؤلمةً في آن ؟! كيف لرائحةٍ ما، جعل قلوبنا تتقافز فرحاً أو تعتصر ألماً ؟!
هزت رأسها وكأنها لبثت دهراً غارقةً في ذكرياتها التي انسكبت بهدوءٍ مع رشات عطرها. {المجموعة: 35-36}
وأحياناً تظهر المتلازمة بشكل خوف ورعب من المستقبل فهو وإن كان غير مبرراً إلا أنه يسيطر على تفكير الشخصية وينعكس على سلوكها، فنجدها تعتزل الناس وتتزاحم في مخيلتها مجموعة من الأفكار الغير مجدية، “فتحت النافذة، فراعها المنظر الذي رأته، أخذت تبكي وتقول: النهاية قريبةٌ بلا شك. قالتها، ويدها على قلبها، متخوفةً من الآتي.” {المجموعة:61}
وقد تأتي أعراض الصدمة بشكل هلوسات سمعية: “لقد سمعت هاتفاً قبل سنواتٍ يقول: “بعد الشروق غروبٌ، ولن تري بعدها شروق الشمس مجدداً” وتبقى عالقة في الذهن حتى تسبب النهاية المأساوية للشخصية: ” وفي صباح اليوم التالي وجدتها ابنة أخيها تحتضر، وتتمتم بكلماتٍ بالكاد تفهمها قائلةً: لقد جاء، إني أراه، الحمد لله لقد جاء لأخذي، بعد شروق الشمس..” {المجموعة:78-80}
وفي قصة “منازعة” يتكرر نفس المشهد عندما تتسبب المتلازمة بوفاة الزوج قبل النطق بالحكم بعد أن سعت التقاليد البالية إلى التفريق بينه وبين زوجته وطفلته: “وقبل أن يباشر القاضي النطق بالحكم، سقط ميتاً على الأرض، مصاباً بأزمةٍ قلبيةٍ حادةٍ. ركضت شريكة حياته نحوه، تبكي عليه، وتضمه للمرة الأخيرة قائلةً: لن أغفر لمن حرمني وابنتي منك ظلماً وقهراً.” وهنا نلاحظ تبادل الأدوار في المعاناة من ظلم الأعراف والتقاليد، فبالرغم من كون المرأة هي الأكثر معاناتاً، إلّا أنه أحياناً يكون الرجل هو الضحية، ونفس المعاناة نجدها في قصة “صراخ في آخر الممر” التي تعالج ثيمة مجتمعية يفقد بها الرجل زوجته السابقة بسبب عدم الانجاب.
خاتمة
تعد المجموعة القصصية “ذكريات عطر” للقاصة عائشة عسيري من المجاميع القصصية التي تستحق الدراسة كونها قصص ذات بيئة نفسية، فقد تمكنت الكاتبة من تسليط الضوء على واقع معاش وعادات وتقاليد وأفعال ضمن فترة زمنية محددة، كما أنها دخلت في أعماق الشخصيات وعبرت عن إنثيالاتها النفسية بأسلوب سلس ورصين. وفي دراستي هذه سعيت إلى بيان القيمة الأدبية لنصوص القصص من خلال المنهج النقدي الايكلوجي وتجليات الحدث والذاكرة في المجموعة القصصية.
([1] ) احمد الحاج، السرد ما هو؟، محاضرة القيت في ملتقى الكتاب في محافظة نينوى، بتاريخ 15/6/ 2017.
([2]) Yowell Y. Aziz, A Contrastive Grammar of English and Arabic, Mosul University, Mosul, 1989, P 55.
([3]) Encyclopedia Britannica, Event, 2012.
([4] ) تزفتان تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء سلامة، دار توبقال، المغرب، 1987، ص70.
([5] ) الدكتور مصطفى محمود، انشتين والنسبية، دار المعارف، ط7، القاهرة، ص 45-47
([6] ) عائشة محمد عسيري (ألمعية)، ذكريات عطر، قصص قصيرة، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، بيروت، 2019.
([7] ) الأنسنة (Personification)، أو التجسيد، عبارة عن استعارة بلاغية يتم فيها إضفاء فكرة أو سمات أو مشاعر بشرية للأشياء الجامدة أو الحيوانات، وأحياناً يتم التحدث عنها كما لو كانت بشرية، وقد يضفي الكاتب سلوكيات وأفكار وعواطف إنسانية يمكن التعرف عليها. أنظر: https://literarydevices.net
([8] ) الرمزية الأدبية هي أداة توظيف الرموز، سواء كانت كلمات أو أشخاصًا أو علامات أو مواقع أو أفكارًا مجردة لتمثيل شيء يتجاوز المعنى الحرفي، ولا يقتصر مفهوم الرمزية على الأعمال الأدبية، فالرموز تسكن كل ركن من أركان حياتنا اليومية. على سبيل المثال ، ترمز الألوان الأحمر والأبيض والأزرق عادةً إلى الوطنية (لذلك نجدها في معظم أعلام الدول ذات الحكم الجمهوري) ، وهذا هو السبب في أنها الألوان المفضلة لإشارات الساحة السياسية، هذا وتُعد لافتات الطرق والشعارات والرموز التعبيرية أمثلة أخرى للرموز – وأحياناً تتوافق المرئيات مع الأفكار أو المصاحبات أو الحالة المزاجية، وهناك ثلاث أنواع رئيسية للرمزية الأدبية: الرمزية الدينية، والرمزية الرومانسية، والرمزية العاطفية، انظر: https://www.masterclass.com
([9] ) ايفان بتروفتش بافلوف (Ivan Petrovich Pavlove)، عالم نفساني روسي (1849-1936)، درس الطب ووظائف الأعضاء؛ واهتم بدراسة عملية التعلم في محاولة منه لفهم آليات الجهاز العصبي والهضمي، بدأ أعماله بعد تصميمه لجهاز يقيس كمية سيلان اللعاب عندما يوضع الطعام، واستخدمه لقياس كمية اللعاب المنسابة لمثيرات محايدة التي تصبح شرطية نتيجة اقترانها بمثير طبيعي (طعام) في محاولة منه لتفسير عمليات التعلم. وبهذا كان قد اكتشف ما يعرف بـردَّات الفعل الانعكاسية Reflexive responses وصياغة مبادئ وقوانين التعلم الاشراطي، أو ما يعرف بقوانين الاشراط الكلاسيكي؛ وقد فرق بين نوعين من الانعكاسات الأولية:1-انعكاسات بسيطة: مثل الحكة عندما يدخل جسم غريب كالأتربة في رئة الإنسان 2-انعكاسات معقدة: مثل الانعكاسات المعدية والانعكاسات الحسية والدفاعية. للاستزادة ينظر:
عماد الزغلول: نظريات التعلم، دار الشروق، عمان/ الأردن، ط1، 2003، ص42؛ شعبان علي حسين السيسي، علم النفس: أسس السلوك الإنساني بين النظرية والتطبيق، دار الهناء، القاهرة، 2009 ص 256.
عذراً التعليقات مغلقة