بقلم المراقب السياسي
بيروت
لولا وصول مصطفى الكاظمي الى منصبه في رئاسة الحكومة العراقية السابقة، في فترة عصيبة من انهيار وشيك جداً لـ” منظومة الحكم الشيعي” في العراق إبان انتفاضة تشرين ذات الدماء المقدسة، لكان العراق قد غرق في فوضى عارمة لا ترسو فيها الغلبة على طرف دون سواه، حيث التشرينيون ثوار منطلقون بشعارات تخص الوطن الحر الذي يريدونه، ولكن لا قيادة واضحة لهم ولا قواعد ساندة لوجستية تعضدهم فضلا عن سلوكهم طريق السلمية، مقابل ما هو كائن من قوات مليشياوية كبيرة ومدعومة من جسم الدولة ومؤيدة من مرجعيات سياسية ودينية، استخدمت السلاح الفعلي ضد المدنيين بدم بارد وقتلت ما يزيد على ستمائة عراقي معظمهم من بغداد والجنوب، وكشفت عن الحقيقة الأولى في البلد هي ان الأمن ومستقبل الحكم بيد تلك القوات الولائية ولا صلة لذلك كله بمؤسسات الدولة العادية. إزاء هذه الحالة المرعبة من عدم التوازن بين مدنيين عُزل في الشوارع شهوراً، ومليشيات مسلحة مستعدة لفناء البلد اذا فقدت سلطاتها المفوضة، برز مصطفى الكاظمي بين عدد من المرشحين ، كان هو الأكثر قبولاً بينهم كونه في الأساس مُطلعاً بالتفصيل على حجم المواجهة المفتوحة في العراق من خلال منصبه حينها رئيساً للمخابرات العراقية. وبحسب مصادر في العمق، فإنَّ الكاظمي وقف “وقفة وطنية” لا يمكن لأحد نكرانها في تقديم اقصى درجات الحماية الممكنة عبر صلاحيات جهازه للتشرينيين من خلال المساعدة في اطلاق سراح المختطفين منهم وتنبيه آخرين الى خطر استهدافهم وتعرضهم للخطف والقتل، فضلاً عن وصول جهاز المخابرات في تلك الأيام العصيبة الى تتبع اتصالات المليشيات المُكلفة بالقتل وفض الاعتصامات والتظاهرات بالقوة، وكان جزء كبير من الاتصالات المسجلة باللغة الفارسية ومع عناصر لفيلق القدس الإيراني يتحركون بين مقار الولائيين في الجنوب والعاصمة. وقد جرت ترجمة التسجيلات الفارسية ووصلت الى اعلى قيادات الدولة التي قيل، ربما انه من خلالها اطلعت ايران على دور كبير للكاظمي في المشهد لذلك كانت تنتظر شخصية منقذة لأذرعها في بغداد، يحقق لها أهدافها الاستراتيجية وتحقق هي له سلامة الوصول الى منصبه الذي يطمح له رئيسا للحكومة العراقية، وخاصة انّ الملف الإيراني السعودي كان في بداية فتحه، والكاظمي طرف أساسي فيه. وفي تلك الأسابيع الصعبة استشعر الكاظمي بخطر اختراقات مضادة من ايران وسواها لمراسلات عمل تنفيذي سريعة تتوافر على أوامر ومعلومات كانت تمرر عبر تطبيقات الواتساب والفايبر والماسنجر، وهي سهلة الاختراق، فلجأ مع فريق جهاز المخابرات المتصل به ،في ليلة وضحاها، الى اعتماد تطبيق جديد صعب الاختراق نعرّفه هنا بحرف “أس”، أربك الجهات التي كانت قد حققت بعض التنصت والاختراق.
الولائيون والإطار التنسيقي يعرفون الحقيقة بكل ابعادها، ويتفننون في توظيف الثغرات ضد الطرف الذي قرروا غسل ثوبهم المُدنس والممزق بماء غفلته ووهنه وربّما جهله بأدوات الحكم وبخصومه.
الكاظمي هو الذي وفّر الغطاء اللازم لديمومة عمل المليشيات الموالية لإيران ، في مسعى لتطمينها ونزع تهمة الولاء لواشنطن عنه، ووافق على جميع صرفيات الحشد الشعبي ، وهو يعرف قبل غيره ، لأي جهة تدين بالولاء أغلبية فصائله حين تحين ساعة الحقيقة، حتى انه حين اضطر تحت الضغوط والاحراجات واعتقل ليومين القيادي في المليشيات قاسم مصلح بعد اعترافات تدينه بقصف المنطقة الخضراء، انّما كان يمارس عملية امتصاص الغضب الأمريكي والدولي ومنع اية عملية أمريكية كبيرة انتقامية ضد زعماء المليشيات، في وقت كانت أذرع ايران مشتبكة مع الأمريكيين فعلاً من خلال القصف الممنهج لمحيط السفارة الامريكية والمعسكرات، وهو ما سبّب حرجاً له كونه القائد العام للقوات المسلحة.
لكن الكاظمي لم يكن يقف على أرضية حقيقية ضامنة وساندة له، وخالطت مسيرته الأوهام التي ربّما تسربت اليه من بعض مستشاريه، فقد كان عاجزاً عن المضي في مشروع سياسي حتى النهاية، اذ وجده العراقيون يؤسس حزباً أو تنظيماً حمل اسم – تيار المرحلة – وله مكاتب وفروع، لكن التجربة انتكست فجأة من دون ان يضعها في سياق لا يمكن محوه اذا خرج من المنصب او كان فيه، والسبب بسيط هو انه كان خاضعا لشرط الولائيين في انه يقضي فترة انتقالية في المنصب لحين الانتخابات والتقاط أنفاسهم التي تعني عودتهم للحكم، وربّما واجهوه بما اتفقوا عليه ففشل مشروعه السياسي.
كما إنّه لم يحسن عملية التحالف مع زعيم التيار الصدري بما يضمن توفير الدعم لصعود الصدريين الى الحكم، مثلما كانوا داعمين له أمام الولائيين فعلاً أو تلميحاً. الى جانب انه لم يستطع بناء الجسور مع زعماء الإطار التنسيقي قبل الانتخابات أو بعدها، ليس من أجل تجديد الولاية له، وانّما من أجل ضمان عدم استهدافه، وعدم غسل أدران حقبهم المتتابعة في الحكم من خلال اظهار فترة الكاظمي على انها الأوسخ لكيلا يلتفت العراقيون الى مراحل وسخة سابقة كانت هي السبب المباشر في اندلاع ثورة تشرين، وليست فترة الكاظمي.
كما انّ دفاع الكاظمي ومَن معه عن ملف ” سرقة القرن” كان ضعيفاً ورجّح كفة خصومه الذين يمتلكون تجارب عميقة في الدهاء والخبث والغدر، ما كان الكاظمي يمتلكها في كل الأحوال، ربّما لطبيعة تربيته الاجتماعية وخصال شخصيته ذات التهذيب العالي. فما معنى أن يعلن الكاظمي في دفاعه انه كان يعلم بسرقات الضرائب وانّه كان يحقق فيها، اذن لماذا تركت الباب مشرعاً من بعدك لتكون تلك السرقات أداة تصفية بيد الخصوم المستميتين على السلطة، ضدك؟ لماذا لم تقم أنتَ بفضح تلك السرقات وكشف الجهات المرتبطة بها، وهي لا تخرج من محيط نفس خصومك الذين لم تتغدَ بهم وانتظروك هم على العشاء وتعشوا بك أو يكادون. هذه هي الأسئلة تعترض اية عملية تحليل للمرحلة التي كان فيها الكاظمي الرجل الأول في الدولة، بما له وما عليه.
وفي كل الأحوال، لن يستطيع أي طرف اصدار مذكرة القاء قبض فاعلة على الكاظمي ومحاكمته بتُهم الفساد، مهما علا صوتهم، لأسباب عديدة منها، ما هو خارجي، ومنها ما يتصل بكون الأمر سيكون سابقة قد تجر الويلات على مَن سبقوه في المنصب، وهم لا يريدون فتح باب جهنم عليهم.
لكن ما يسمى قضية” قادة النصر” ستبقى ورقة بيدهم ضده.
عذراً التعليقات مغلقة