الدكتور نزار محمود
منذ منتصف القرن العشرين، وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي ضوء تداعياتها ومنها انحسار الدور الأوروبي في منطقتنا العربية، اتيحت الفرصة للولايات المتحدة الأمريكية للعب دور نشيط في اطار خدمة مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية. وكان يجب ان تلعب عوامل مثل مصادر الطاقة وقيام دولة إسرائيل، الغاية والوسيلة، وكبح جماح المد الشيوعي دورها في تحديد ملامح السياسة الأمريكية واستراتيجياتها في المنطقة.
وحيث أن للسياسة ثوابت ومتغيرات فقد عملت الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها انطلاقاً من تلك الثوابت وتعاملت من أجل ذلك مع المتغيرات من ظروف وأحداث. وفي هذا الإطار ساهمت وعملت الولايات المتحدة الأمريكية على توفير الشروط السياسية، ووفقاً للقوانين وعمل المنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، على ضمان شرعية تحركاتها وتواجدها في منطقتنا العربية من خلال كثير من انظمة الدول العربية التي ساهمت في قيامها وحمايتها وعملت على توجيهها بما يخدم مصالحها ومواقفها. وكان فيما جاء في كتاب “لعبة الأمم” لعميل المخابرات الأمريكية، مايلز كوبلاند، بالرغم من المبالغات الامريكية، ما يؤيد ذلك.
بعض أنظمة الدول العربية كانت قد فهمت وتعايشت مع أهداف سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ودفعت ماعليها من ثمن حمايتها أو تجنب أذيتها، في حين تمرد البعض الآخر وسعى الى تحقيق أهداف سيادة وطنية وربما ذهب باتجاه الوحدة العربية
ومنذ ان سيطرت امريكا على كثير من مفاتيح السياسة والعلاقات الدولية قامت فوضعت استراتيجيات سياستها للمنطقة العربية والشرق الأوسط، فوزعت قواعدها العسكرية وساهمت في تشكيل الانظمة السياسية وزرعت رجال امنها واستخباراتها وفعلت دبلوماسية وزارة خارجيتها وسفاراتها، كما قامت واستمرت في مسح خرائط القوى السياسية، بما فيها المعارضة، في الدول العربية ومد جسور تواصل معها.
وبالمختصر يمكننا تحديد أهداف وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية، والتي تحددت بموجبها مواقفها، بالمحاور السبعة التالية:
١- محور منع قيام وحدة عربية واجهاض اية محاولة لتحقيقها ومناصبة العداء لمن يدعو لها.
٢- حماية أمن “اسرائيل” وضمان تفوقها العسكري والاستراتيجي.
٣- تأمين هيمنتها على مصادر الطاقة من نفط وغاز والتأثير في سياسات انتاجها وتسويقها
٤- محاولة عرقلة توسع العلاقات السياسية بين روسيا ( وسابقاً الاتحاد السوفيتي) والصين، مع الدول العربية.
٥- الحرص على بقاء الدولار، عملة الاحتياطي الأولى، ووسيلة التحاسب والتبادل التجاري الأكثر قبولاً وما يعنيه ذاك من ايجابية بالنسبة للاقتصاد والسياسة الامريكية
٦- محاولة السيطرة على الإسلام الثوري والانقلابي وترويضه لخدمة توجهاتها وسياساتها.
٧- محاولة تحجيم سيادة القرار في كل دولة عربية.
من هنا فإن بعض أنظمة الدول العربية كانت قد فهمت وتعايشت مع أهداف سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ودفعت ماعليها من ثمن حمايتها أو تجنب أذيتها، في حين تمرد البعض الآخر وسعى الى تحقيق أهداف سيادة وطنية وربما ذهب باتجاه الوحدة العربية، وهو ما لا تسمح به الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها وفي مقدمتهم “ اسرائيل”، المعسكر المتقدم للهيمنة الغربية وسياسات الاستغلال والاستنزاف للمنطقة العربية.
ان استعراضاً لمواقف وسياسات ودعوات مصر جمال عبدالناصر، وعراق صدام حسين، ويمن علي عبدالله صالح ومن سبقه في اليمن الجنوبي، وسورية الأسد، وليبيا القذافي، وحتى مصر مبارك ومرسي وسودان البشير، وفلسطين ياسر عرفات وأمثالهم، ممن لم يرض ويوافق تماماً على السياسة الامريكية كان قد تعرض لشتى الضغوطات لا بل والحروب والتصفية، بسبب خلافات العرب وتفرقهم وتآمرهم على بعضهم البعض للأسف.
ان السياسة الامريكية ما كان يحدها في زمن الحرب الباردة سوى مواقف الكتلة الشرقية الى هذا القدر أو ذاك. كما ان دول الخليج العربي والاردن والمغرب كانت هي الدول الاكثر تجاوباً مع تلك السياسة الأمريكية، التي كانت تلقى دعماً مباشراً وغير مباشر من اكثر دول اوروبا الغربية وبالطبع من اسرائيل. وسيحكم التاريخ يوماً على ما اذا كانت تلك الدول مضطرة عليه لحماية شعوبها وتجنيبهم الحروب والدمار، وبين ما غير ذلك من أسباب، دون التسرع الأعمى الى اتهام هذا أو ذاك بالخيانة والعمالة.
ان ما يمر به العالم اليوم من أحداث كبيرة، وما يقرأ في تطورات موازين قواه، قد وضع بعض حلفاء الأمس من العرب للسياسة الأمريكية في موقف حرج، بين التمرد على تلك السياسة وبين الاستمرار في الإنضواء تحت جناحيها ودعمها.
برلين، 06.04.2023
عذراً التعليقات مغلقة