“العلم دليل المعرفة، يدل عليها، فإذا جاءت المعرفة سقطت رؤية العلم، وبقيت حركات العلم بالمعرفة”
بابا طاهر الهمداني
د. توفيق رفيق التونجي
“الکاکائية” من العقائد الدينية العرفانية المسالمة القديمة والموحدة في بلاد الرافدين.يعتبرون أحد مكونات الشعب العراقي التعددي.تعتبر كذلك احد العقائد السائدة في اوساط الشعب الكوردي. كما تسمى هذه الطائفة ب”اليارسانية” في كوردستان وكذلك ب “اهل الحق”, الطائفة قديمة اي جذورها تعود الى عقائد ما قبل الإسلام. قدمت هذه الطائفة العديد من رجال الأدب من كتاب وشعراء وفنانين ويعتبرون احد روافد الإرث الثقافي البديع في المنطقة بأسرها. العقيدة تربي الإنسان على العمل الصالح والبر والخير. من المؤسف لم يتم الاعتراف بهم كديانة قائمة، منذ إنشاء الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 وحتى يومنا هذا.
العقيدة باطنية وإسرارها وطقوسها محفوظة عند القلة من رجال الدين. تعود استخدام الكلمة “الکاکائية” تاريخيا إلى عهد السلطان إسحاق برزنجي الذي عاش في بلدة برزنج السليمانية في جنوب كردستان في أوائل القرن الثامن الهجري ويعتبر السلطان إسحاق مصلحا ومؤلفا وداعيا كمشرع لهذا العقيدة التي ينتشرمريدوه في العديد من دول الشرق كما ان هناك اشارات لوجودها حتى في الهند. اما في ايران فتنتشر في مناطق قزوين وأذربيجان، زنجان ، شيراز، طهران، كرمنشاه، قصر شيرين، سربيل زهاو وهمدان، في حين يطلق عليهم في أفغانستان وباكستان “الزكرية” وفي الهند “سربستية” وفي تركيا “هلاويين” يتواجدون في مدن (درسيم وسيواس).
يعرّف الكاكائيةالأستاذ الصديق فهمي الكاكائي والذي قام مشكورا بتدقيق هذه المادة فيقول:
“هي جماعة او عشيرة كردية كبيرة يقيم معظم أفرادها في كردستان الجنوبية خصوصا في كركوك وخانقين ومندلي وكذلك في كردستان الشرقية في قصر شيرين وصحنة و سربيل زهاو وهي على الأغلب طريقه صوفيه ظهرت بشكلها الحالي في القرن السابع الهجري على يد قطبها سلطان اسحاق (فخر العاشقين). ” ويستمر الكاتب في التعريق بهذه العقيدة ومن كافة الجوانب في دراسة محكمة نشرت باللغة الكوردية حيث يعرج الى امور كثيرة يهم طائفته.كما وللطائفة تواجد في مدن الموصل، ديالى، بعقوبة، كفري، خانقين و مندلي. كما لهم تواجد في ايران وعقيدة مشابه في تركيا.
يذكر المصري محمد شعبان وهو صحافي مصري مهتم بالتراث والتاريخ العربي ما يلي عن ابناء هذه العقيدة:” يحرص الكاكائية على كتمان أسرارهم الشعائرية بكل ما يملكون، فلا يظهرون عقائدهم ولا عاداتهم ومراسمهم علنًا، ولا يطلعون أحدًا عليها، وهذا التكتم يُعدُّ من واجباتهم الدينية، وقد ضُرِبَ بهم المثل في الكتمان فقيل (أكتم من الكاكائية)”
يتبع أبناء هذه الطائفة الدينية مبدأ التقية في العبادة الفردية والسرية. تؤمن كذلك بأزلية الروح وسرمديتها، اي بتناسخ الأرواح الذي نراه في الديانة الهندوسية كذلك. تلك العقيدة التي فيها الروح تتجسد وتنتقل بين أجساد في الشخصيات المختلفة. يقول ابو العلاء المعري في وصف عقيدتهم:
يقولون إن الجسم ينقل روحه إلى غيره حتى يهذبه النقل
يعتبرالأب أنستاس الكرملي، أن عقائد الكاكائية قريبة من المسيحية، وتحديدًا عقيدة الثالوث. اما الاستاذ المرحوم والوزير السابق الاستاذ فلك الدين كاكائي فيذكر بان اتباع هذه الطريقة الصوفية تؤمنبأن الإنسان يمر بأربع مراحل: الشريعة، الطريقة، المعرفة والحقيقة. يستنير في درجة الحق ويقترب من باب الرب يعرف نفسه ويعلم الله. اما الأستاذ فهمي الكاكائي فيؤكد سرية العقيدة و صوفيتها وتناسخ الأرواح يشير الكاتب الى موت الانسان حسب العقيدة ،ذاكرا:
“الکاکائيون يأخذون مسألة الموت بسهولة ، لأنه بموت الشخص لا تتلف الروح ، فالروح تدخل في قالب شخص أخر لتعيد دورة الحياة مرة أخرى، الأمل الوحيد لمن يموت هو أن يولد آخر مرة أخرى في عائلة يارسانيه”. وفي مكان اخر يذكر “عندما يولد الطفل ترحب به الأسرة بفرح وعندما يموت لا ينبغي أن يحزن عليه، لأن ما يموت ما هو إلا قالب أو جسد ذلك الشخص، أما الروح فإنها لا تموت وتعيش مرة أخرى”
أتذكر بنفسي كان أحد معارفنا في مدينة كركوك من رجال الدين الأتقياء ومن شيوخ هذه الطائفة حين حضره الموت، كنت هناك شاهدا وأتذكر رغم صغري آنذاك ورغم مرور اكثر من نصف قرن على الحدث. كانت احدى جيرانهم تنازع مخاض الولادة ومنذ ثلاثة ايام. أرسل الشيخ الجليل خبرا الى تلك السيدة مفاده بان ولادتها ستتأخر لحين وفاته هو لأن روحه ستنتقل للطفل المولود الجديد. وهذا ما حصل مع وفاة ذلك الشيخ الجليل, (كنا نسميه السيد) ولدت السيدة طفلا جميلا.
لا تعتبر العقيدة تبشيرية بل على الأكثر هي طريقة صوفية وفلسفة العقيدة تعتمد على: الطهارة والصدق والاستقامة والحق.
سه ره تا خودایه، کۆتایی خودایه ، باوه ڕمان به ئایینی خو دایه
بالعربية:الله الأول، وهو الأخير، نؤمن بدين الله.
لهذا بقيت العقيدة منحصرة بين عدد محدود من أبناء المنطقة وعلى الاقل في العصر الحديث . تاريخيا اضطهدوا لذا اخفوا الكثير من تفاصيل عقيدتهم، وبقيت سرا لدن القلة من رجال الدين ، وذلك خوفا من الاضطهاد وإقصائهم وبالتالي استهدافهم وتهميشهم رغم أنهم طائفة موحدة, يصومون مرتين في العام ولمدة ثلاثة ايام في يوم محدد من كل سنة، كما انهم يحرمون تعدد الزوجات الا في حالات معينة.
للموسيقى مساحة شاسعة في الثقافة الكاكائية، وبالأخص آلة الطنبور حيـث يتم إلقاء التراتيل الدينية على أنغـام ومقامـات خاصة بهم.
الشاعر والمغني بيرسلطان ابدال اسمه الأصلي “حيدر” وعاش في القرن السادس عشر. وقضى جزءا كبيرا من عمره في قرية “باناز” في مدينة سيواس التركية. وكان أشعاره وأغانيه عن حب الله والرسول محمد ﷺ. والإمام علي عليه الصلاة والسلام.
أما عيدهم فيسمى”قولتاس” كما انهم يحتفلون كشعوب المنطقة بعيد نوروز معتبرين هذا اليوم هو اليوم الاول من السنة في تقويمهم. ويصلون في وقت الفجر وفي المغرب ويتحلون بالنظافة. اما طقوس العبادة فانها تتكون من مجموعة من الأدعية وترانيم في مناجاة الخالق، حيث يجتمعون مرة واحدة في كل شهر. يقدمون القرابين والنذور على شكل طعام وفاكهة أو أي نوع آخر من الطعام ويحرمون الخمر ولحم الخنزير.
إن للمرأة “مكانة دينية واجتماعية مهمة لدى هذه الطائفة ،ولا يوجد تمييز في الحقوق والواجبات بين الجنسين وحتى في الميراث، وتشارك في الاجتماعات والغناء وتلاوة الأشعار والترانيم الدينية.
الشاعر المتصوف هجري دەدە الكاكائي
يمكن تميزهم عن طريق شاربهم الذي لا يقص طوال حياتهم في حين نراهم يحلقون اللحية الا ان رجال الدين يتركونها تنمو. كما انهم يأمون مرقد سلطان إسحاق في قرية “برديور” في منطقة هورمان التي تقع على الحدود العراقية الإيرانية وتعتبر من الأراضي الايرانية’ اليوم.. بالإضافة الى مرقد سلطان إسحاق او(السلطان ساهاك, سهاك) هناك قبور العديد من رجال دين هذه العقيدة في الأراضي كوردستان الإيرانية.هناك مجاميع من رجال الدين يتنبئون بالمستقبل كذلك. واللغة التي يتحدثون بها كوردية مختلفة وتسمى الگورانية.كما إن للشمس والنار كمصدر للضياء والنور وكذلك للأرض مكانة لديهم، ويحترمون ليلة الخميس. اما ملبسهم فهي شبيهة بالملابس الشعبية التقليدية اي تشبة ملابس ابناء منطقة كرميان. كما أن للموسيقى مكانة خاصة في كل الطقوس الدينية وخاصة الدف وآلة الطمبور. لا يملكون كذلك أماكن خاصة بالعبادة والمراسيم الدينية مثل المعابد او المساجد، الكنائس ولكن هناك 18 مزاراً مقدسا لديهم في العراق.
كلمة (باوه) أو (بابا) تطلق على رجال الدين والعديد من أسماء القرى والمزارات الدينية ذو القباب الخضر. وربما جاء حقول النفط في مدينة كركوك من تلك التسمية “بابا كركر”. كما توجد العديد من المزارات والقرى تبدأ بكلمة “بابا” في عموم المنطقة التي يعيش فيها ابناء هذه الطائفة في العراق وفي ايران. فيما تستخدم كلمة “بير” في اسماء الأولياء في تركيا.
ابناء هذه العقيدة يحبون الإمام علي بن ابي طالب عليه الصلاة والسلام حُبا جما.لهذه العقيدة الدينية رجال دين من مراتب مختلة حيث يعتبر “البير”، من اللغة الكوردية وتعني “الشيخ”، الأعلى في المرتبة الدينية وهو من يقوم بإجراء الطقوس الدينية، وبعد “البير” ياتي في سلم رجال الدين “الدليل” وهو بمثابة “المرشد الديني”.
لا توجد وثائق تاريخية او أثار تدل على أصول العقيدة التاريخية وربما ترجع العقيدة الى أيام الحضارات العراقية والعيلامية القديمة. وهناك من يدعي بتشابه العقيدة وطقوسها الباطنية مع الماولية, القزلباشيه, الشبك, العلي اللهيه, البكتاشية , العلوية, النصيرية و الايزيديه. لكنهم عرفوا مع العهد المغولي في العراق وأواخر الدولة السلجوقية في تركيا الحالية كما يذكر المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتابه “الكاكائية في التاريخ. “أن “الكاكائية يستنكرون اللعن، لا يسبون، لا يضمرون الحقد لأحد، ولا يحتقرون دينا، ولا ينددون بعقيدة”.
كلمة “باوه” وتلفظ كذلك “بابا” تطلق على رجال الدين والعديد من أسماء القرى والمزارات الدينية وكما استلفت. كما ان كلمة “كاكا” تعني الأخ وأحيانا الأخ الكبير وكانت تستخدم بمعنى ” الفتوه” المدافع عن المظلوم ويستخدم للاحترام الكبير في السن كذلك. وجاء استعمالها بين أبناء هذه الطائفة تيمنا بالآية الكريمة ” إنما المؤمنين إخوة” و تسمى هذه العقيدة كذلك ب اليارستانية، وتسميات اخرى لعقائد دينية مشابهة في تركيا وايران. وكلمة “يار”تاتي من اللغة الكوردية تعني كذلك الحبيب و إنهم يحترمون جميع الأديان ولا يبادرون بالعداء لأي “يار” أي محبو في كلمة يزدان التي تعني الرب ، الخالق الحق الحبيب.
الجدير بالذكر ان معظم الطقوس والشعائر الدينية لهذه العقيدة تجري باللغة الكوردية على الأقل في العراق من أهم كتبهم المقدسة كتاب “سه رأنجام” الهدف، المكتوب باللغة الكُردية، وباللهجة الگورانية (بلهجة ماجو) والذي يعود إلى القرنين السابع والثامن ، الذي يتكون من عدة أجزاء حيث يهتم كل جزء منه بـ”فضيلة” معينة:
كالصدق ، الطهارة، القناعة،الأمانة وامور اخرى كثيرة.
أبناء الرافدين من مختلف الأثنيات والعقائد يكونون بوتقة بشرية بديعة. يجمعهم الوطن وذاك الحوار الإنساني الحضاري، سلاما أبناء الرافدين.
أشارات مصدرية:
- الاستاذ فهمى كاكه ئى: لقاء مباشر ودراسته البحثية القيمة: ده روازه یه ک بۆ ناسینی ئایینی یارسان، باللغة الكوردية في مجلة شنروي و ابحاث على موقع دنكه كان الالكترونى.
- يمكن قراءة كتاب المؤرخ العراقي عباس العزاوي من الرابط التالي:
- https://books4arabs.com/BORE01-2/_BORE01-413.pdf
- مقالة الاستاذ محمد شعبان:
- https://www.ida2at.com/kakaism-muslims-who-worship-imam-ali/
- هادى بابا شيخ :الكاكائية واهل الحق من بقايا الديانات الكوردية القديمة.
- رشيد الخيون الاديان والمذاهب فى العراق.
- حميد كشكولى : ابحاث عن الكاكائية .
- الكاكائي ، حداويل. 2012) بايامي كاكيي ، إعداد وتحليل ، الطبعة الأولى ، كركوك
- اسماعيل حصاف ، مطبعة ڕۆژهەاڵت/هەولێر.
- الكاكائي ، فلك الدين، الدين اليارستاني. 2011
- مراي دكتور كو لمراد. تاريخ وفلسفة أهل الحق ، 1999،مكتبة بائع الكتبالرخيصة، السويد.
- خجا الدين ، سيد محمد علي. ، 1362( سارسباردجان ، تاريخ وشرح المعتقدات والأخلاق و عرف أهل الحق) يارسان ، منوشهري,
- المعتقدات في كردستان ، ثقافة يارسان. التحصيل والتحقيق والإرث. مطبعةڕۆژهەاڵت/هەولێر.
- هاشم قاكي،. 1988، نجمة السماء تنمو شارزور “سلطان اسحاقي البرزنجي ، الجزء الأول ، مجلة كاروان.
- برهكي ، صديق (صفي زاده.) 1997، دانشنام نام أوران يارسان ، أحوال و الأعمال الشهيرة والتاريخ والكتب والمصطلحات الصوفية. الكتابة والتعليق ، الطبعة الأولى ، المطبوعات هيرمند ، طهران.
Maram al masri منذ سنتين
اشكرك لهذا البحث . انك تفتح نوافذ المعرفة . يا لها من ديانة او طزيقة او فلسفة لايهم مادامت تعطي للمومنين بها سلام الضمير