رجل رث ورجل أنيق .. قصة قصيرة للكاتب المصري عبدالعزيز دياب

رجل رث ورجل أنيق .. قصة قصيرة للكاتب المصري عبدالعزيز دياب

آخر تحديث : الجمعة 12 مايو 2023 - 11:40 مساءً

رجل رث ورجل أنيق

عبدالعزيز دياب

 العزيز دياب 3 - قريش
عبدالعزيز دياب

قاص من مصر

   ربما كانت مصادفةً أن يمشى رجلٌ رث بجوار رجل أنيق… ربما.

   لم يكن الرجل الرّث بكل ما يتمتع به من رثاثة يقصد ذلك، هو فقط حَكّ ذقنه دهشةً، أو رهبةً، أو حبورًا عندما اكتشف خطو رجل أنيق بجواره، أو خَطْوَه بجوار رجل أنيق، هو فقط حَدّثَ نفسه الأمارة باليأس بكلمات باهتة لا تحمل أي معني، كلمات غير مكتملة، مهروسة أو متآكلة الحواف. 

   يا له من رجل أنيق، تساءل الرجل الرّثْ وهو يبدأ أولى خطاه: كيف حدث ذلك التزامن الفطري ما بين خطاي وخطى رجل أنيق؟

   سمع الرجل- الرَث طبعا- همسًا وقهقهات عالية، كان الهمس مجموعة تساؤلات مركبة، متشابكة، تضيع كلها في زحمة الغموض، عدا سؤالا واحدًا هو الذى طفا على بركة تحيرها، كان بازغًا، ناصعًا، مضيئًا: وهل ولِدَ الرجل الأنيق أنيقًا؟؟ 

   أما القهقهات فكانت: قه قه… قهقهقهقه.

   أيا كانت القهقهات وأيا كان الهمس، فقد لاحظ الرجل الرّث وهو يبدأ أولى خطاه بجوار رجل أنيق احتجاج الكلاب الضالة في جوف الشوارع الساكنة بنوبات نباح شرسة، متواصلة، امتزج النباح بالقهقهات: هوهو… قهقه…عوعو… قهقه… 

   “ليس هذا نباح كلاب إنما هو نهيق حمير… وهذا لا يعني أنّ أذني مليئة بالوسخ”، هكذا فكر الرجل الرّث.

   الرجل الأنيق كان في مقتبل العمر، أو هكذا يبدو، فالعالم مليء بالخداع، المهم أنه كان يمضي غير مَعْنِى بشيء، لكنه كان يلتفت متوجسًا إلى الرجل الرّث الذى أصبح يمشي بحذائه، حدث نفسه: من يدري… ربما اتخذته خادمًا”، كان مستسلمًا لِدَوِي غامض للريح التي تهب وتحمل صرخات استغاثة، أو نوبات توسل تأتي من هنا أو من هناك توصيه خيرًا برجلٍ رثٍ.

   رجل أنيق يخيل إلينا أنه في مقتبل العمر يمشى وعن يمينه جنات من نخيل وأعناب، وعن شماله أنهر ثلاثة: نهر لبن، ونهر خمر، ونهر عسل مصفي، تجاوز في مشيه ساعة ظهيرة حامية البنايات العجوز، والنفايات، وأصحاب العاهات، والمتسولين، والمتسولات، رغم الضجيج وكلاكسات السيارات، لم يلتفت للخلف، عنقه مستقيم، يستطيل فقط لأعلى وعيناه مفعمتان بالتحقق، تمتد ذراعه فيمسك بالطير السابحات، يحملها على كفه كقديس يوشوشها، توميء له وتسافر، خطاه محظوظة، لا يمشى كما يمشى الآخرون، خطوة واحدة تنقله من شارع إلى شارع ومن بلد إلى بلد.

   رجل رَث يمشى بحذاء رجل أنيق تعوقه الشيخوخة وخرفشات صدره المثقل بأنفاس التبغ، وعوادم المركبات، عن يمينه المرض وعن يساره الجنون والمجون وخمسة عيال كانوا يمسكون بملابسه، أدرك أنه قد يتأخر عن رجل أنيق فتخفف منهم: رمى اثنان في البحر، وثلاثة تحت عجلات شاحنة رشيقة، كادت الحمير أن تعلن عن زهقها، لكنها ألجمت أفواهها، كفت عن نهيقها، تخفف كذلك من هدومه، خلع الجاكت البني الكالح، شعر أنه بحاجة إلى المزيد، فتخفف من قميصه الطوبي القميء، ومن بنطلونه الأجرب. 

   “قه… قه، عو..عو” 

   انتهي به الأمر أن تخفف حتى من ملابسه الداخلية، ومن مداسه، صار كيوم ولدته أمه، اكتفت الحمير بالصوت المباغت القبيح لهواء يخرج من دبرها وهى ترفس.

الباعة الجائلين، لم ينزعج أي واحد لعريه، بل احتفوا به وصافحوه كرجل أنيق يمشي عن يمينه جنات من نخيل وأعناب، وعن شماله ثلاثة أنهر: نهر لبن، ونهر خمر، ونهر عسل مصفي.

قال لنفسه لابد أنها خِدْعَة، لكنه عندما نظر إلى نفسه كان قد اكتسي ببدلة أنيقة، يمشي كرجل أنيق إلى أن يلحق به رجل آخر رَث، يتخفف من سرب عياله من كل ملابسه حتى يصير عاريًا كيوم ولدته أمه.

خاص لصحيفة قريش -ملحق ثقافات واداب -لندن

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com