د نزار محمود
مدينة الموصل وأسرار في التعايش الإنساني
: الدكتور نزار محمود
إن ما سأرويه حول وضع تعايش إجتماعي الذي شهدته في عقد الستينات في مدينة الموصل سيثير لا محالة الغرابة والتعجب وأسئلة كثيرة أخرى. إنه قطعاً حالة تقرب من الندرة في المجتمعات الإنسانية.
موضوع التعايش هنا تدور مشاهداته وأحداثه في مساحة لا يزيد قطرها عن كم مربع واحد، وتقع في مركز مدينة الموصل.
هذه المنطقة، لمن يعرف مدينة الموصل، تنحصر بين جسر الحرية (الذي اعتدنا نحن الموصليين على تسميته بالجسر الجديد) الواقع على نهر دجلة الذي يخترق هذه المدينة من شمالها الى جنوبها، وبين جسر نينوى ( الذي يسمى بالجسر القديم أو العتيق).
فعلى كتف جسر الحرية في جانب المدينة الأيمن يقوم نادي الضباط، بكل فعاليات نادي ترفيهي لا يخلو من مشروبات كحولية لكنها تخضع في أمر تناولها الى بعض الضوابط. وفي قرب النادي يقع جامع الخضر (ع) الذي يحظى بقدسية ومهابة كبيرة بين المسلمين وغيرهم.
وفي الجهة الأخرى لكتف الجسر توجد دائرة التجنيد الاجباري التي تتولى أعمال سوق البالغين للخدمة العسكرية، التي يقابلها متحف نينوى الآثاري، والى جنبها تقع مكتبة المدينة المركزية.
أمام نادي الضباط وجامع الخضر تقع مدرسة الاعدادية الشرقية، وهي من كبريات المدارس الثانوية وأهمها تعليمياً وتربوياً، وليس ببعيد عن جامع الخضر يقدم ملهى الحمراء، الذي كانت تديره الفنانة الشعبية الشهيرة بحسنة ملص، برامجه الترفيهية وحفلات الرقص وتقديم الخمور في أجواء ماجنة وعبثية أحياناً، يجاوره من الناحية الأخرى جامع الصابونجي، وخلف ملهى الحمراء كانت هناك سلسلة من البيوت الشعبية التي كانت تسكنها عائلات مشهورة بسلوكها الاجتماعي العنيف أحياناً كثيرة وبألسنتها السليطة، تسمى بالجوبة.
أمام ملهى الحمراء تدور الأفلام في صالتي العرض السينمائي، كامل والحمراء. أما خلف صالتي العرض فهناك مجموعة من بيوتات البغاء مشكلة ما كان يسمى شعبياً بمحلة “الكلجية أو الكلجيي، حسب اللهجة الموصلية، والتي يقف على حراستها عدد من افراد الشرطة!
تنتهي هذه المحلة في احدى جانبيها بشارع حلب المكتظ بالمطاعم والمقاهي ومحلات الخياطة وتقريم الملابس، لا سيما العسكرية، وكذلك على سينما السعدون، ولاحقاً النجوم، الشهيرة بأفلام العنف والمغامرات وكذلك الاغراء والاثارة الجنسية.
روى لي صديق، والذي كان قد أعد كراساً في اجتماعيات هذه المنطقة، الحادثة الطريفة التالية:
كان إمام وخطيب جامع الخضر يوماً ممتعضاً جداً من عدم تمكنه من شراء مكبرات صوت جديدة، بسبب عطل القديمة، وذلك لضعف تبرع المصلين وعدم تمكنه من جمع مبلغ خمسة دنانير، وكان ذلك المبلغ في ذلك الوقت، كبيراً نسبياً. وبينما هو في طريقه وعلامات الحزن واليأس تغطي وجهه، اذ صادفته جارته “حسنة ملص”. وعندما سألته عن سبب حزنه واستمعت الى قصة مكبرات صوت الجامع وعرفت سبب ذلك الحزن، أسرعت بإستخراج مبلغ خمسة دنانير من صدرها، وأعطتهم لملا الجامع ذي المشكلة الكبيرة، والذي أسرع الى شراء مكبرات صوت جديدة من محلات “جقماقجي” لبيع الأجهزة الكهربائية الواقعة قبالة مركز الشرطة العام بجانب خان الحنطة.
وفي محاولة تحليل اجتماعي لمن تجمعهم تلك البقعة الجغرافية من بشر كثيرين يفيد بأنهم أناس مختلفين في ظروف عيشهم وتواجدهم في هذه المنطقة. منهم المدنيين ومنهم العسكريين، منهم الكبار ومنهم الصغار، منهم المؤمنين ومنهم الباحثين عن الرغبة واشباع الشهوة، منهم المتعلمين ومنهم السفهاء، منهم العاملين ومنهم من يقضي أوقات فراغ.
لقد كان أصحاب تلك الجهات من نواد وصالات عرض سينمائي وجوامع ومطاعم ومقاه ورواد تبضع وباحثين عن الرغبة وغيرهم متفاعلين ومتعايشين في سلم اجتماعي قل نظيره. فهنا يقوم أذان، وهناك يعلو صخب موسيقى، هنا يتعلم تلاميذ، وهناك تدور كؤوس خمرة وتتراقص أجساد راقصات!
ترى ما الذي كان قد ساهم في أن يخيم سلم اجتماعي في هذه البقعة الجغرافية المحدودة من مدينة عرفت بتنوعها الاثني والديني والمذهبي والسياسي والاجتماعي وبالطبع الثقافي كذلك؟
إنه حقاً سر من أسرار التعايش السلمي الإنساني بين البشر!
الموصل، 07.05.2023
عذراً التعليقات مغلقة