لندن
يُعدّ الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كونت سبونفيل (1952)، من دعاة الإلحاد والمادية في الفكر الغربي، وكذلك من أنصار العولمة الغربية الهادفة إلى بسط نفسها على العالم بذرائع اقتصادية وثقافية وتقنية وديموقراطية وغيرها. وبما أنه يلاقي ترحابًا في بعض الأوساط الثقافية والإعلامية العربية، فمن الضروري أن نلقي نظرة فاحصة لبعض جوانب فكر هذا الرجل.
يرمي سبونفيل إلى الخروج من الإطار التقليدي لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، التي هي بمجمل مدارسها امتدادات إلى تيارات الفلسفة الغربية خلال القرون الخمس الماضية. على سبيل المثال، من الفلسفة الكانتية إلى الكانتية الحديثة ثم مناهضة الكانتية، فجميع تلك الأفكار على مدى قرنين من الزمن إنمّا تدور حول فلسفة الألماني عمانوئيل كانت (1724-1804)، فتارة تقترب منه وتارة أخرى تبتعد عنه، والمدار واحد.
ومن هنا، يهدف سبونفيل إلى الابتعاد عن المفهوم الالحادي والمادي التقليدي عند الغربيين، والاتجاه نحو إلحادية جديدة وضحها بمقالته الموسومة “روح الإلحاد” 2006. إذ تُعدّ منظورًا إلى ما بعد المادية، تلعب فيها الروحانيَّة الإلحاديَّة دورًا بارزًا مستندةً على قيّم ومفاهيم العقل والحرية والإرادة، وبحسب تصوره، العقل الحر يعني حرية الفكر، الذي يستعيد مشكلة الفعل في حرية التصرف، فكل ما نقوم به من حريات في وسائل الإعلام والتعبير والنقاش …إلخ جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان وشرط من شروط الديموقراطية.
وهكذا، فإن “حرية الفكر هي حرية العقل”، والحرية نفسها إنمّا هي غاية ومثال في آن. وفي مؤلفه “كتاب الفلسفة الصغير” 2000، ومقالته “في الحرية” في السنة ذاتها، يرى أن مشكلة الحرية تنحصر في حرية الفعل المتعارضة مع شخص ما أو شيء ما يعيقها ويمنعها. وبذلك، فإن هذه الحرية ليست مطلقة، ولكن بالقدر الذي توجد فيه عراقيل ضدها، فإنها نادرًا ما تكون منعدمة.
الفكر والارادة
ومن حرية الفكر إلى حرية الإرادة، فكل ما نريد أن نقوم به في حياتنا، فإن الإرادة جزء لا يتجزأ من الواقع، فهي تخضع لمبدأ العلة الكافية، مثل باقي الأشياء الأخرى، فلا يوجد شيء بلا سبب، ولكل شيء تفسير. كما أنها تخضع لمبدأ العلية، لا شيء يولد من عدم، لكل شيء سبب. وكذلك تخضع الإرادة إلى الحتمية العامة، التي تشمل الكائنات كلها، ومنها المجهرية التي فيها نوع من اللاحتمية القصوى. وعليه، فأنت لن تكون أقل حتمية على المستوى الأعصاب الحيوية جراء الذرات التي تتألف منها، إذ من المستحيل أن تبقى هذه الذرات خاضعة لإرادتك إذا كانت حركتها اعتباطية. لعل إرادتك هي التي تخضع بالأحرى للذرات، وإذا كانت المصادفة غير حرة، فكيف للإرادة الاعتباطية بذلك؟
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الذات، فإذا كنت لم أختر الذات التي تختار “أنا” فستكون كل الاختيارات التي قمتُ بها محددة بما أكونه، أي بما لم أختره. وتبعًا لذلك، لن تكون هذه الاختيارات اختيارات حرة. وعلى هذا النمط، يتجه سبونفيل نحو الحرية بمعناها الماورائي، التي هي الأكثر أشكالًا في الفلسفة، فمهما كانت المعاني بين هذه الحريات للعقل والإرادة والماوراء، فأي منها لا يقصي الآخر، الذي يرى أنها الأهم والأصح. ومع ذلك، وفق مفهوم سبونفيل، إن “الحرية سر أشبه ما يكون، في الأقل، بمشكلة إذ يستحيل علينا أبدًا أن نثبتها، ولا حتى أن نستوعبها بالكامل”.
وفي مجلة “عالم الأديان” الفرنسية، العدد 100، آذار– نيسان 2020، حوار مع مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، منهم سبونفيل جاء في أجوبته، إنه يؤمن في “روحانيَّة من دون إله”! فبحسب قوله، إن الملحدين يملكون حياة روحية أيضًا، ويعيشون حياتهم وعلاقتهم النهائية باللانهائي أو المطلق (الله) نسبية، لا ترتبط بكائن واحد، بل في الوجود والطبيعة والكل الذي يحتويهم ويتجاوزهم، وبمقدورهم التفكير فيه ومحاكاته، وهو ما ندعوه بالماورائيات. وكذلك بإمكانهم تجربته وعيشه، وهذا ما ندعوه بالروحانيَّة.
الصراع المندلع داخل كل حضارة بين التيار التقدمي والتيار الرجعي حقيقة واقعة، ومنها في العالم العربي الإسلامي، بين التيار التنويري الذي هو إنساني نهضوي يفهم الإسلام بطريقة متنورة، والتيار الأصولي المتمثل بجماعة “الإخوان المسلمين” وما تفرخ منها من “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” و”بوكو حرام” و”طالبان”، وفهمهم للإسلام بطريقة أصولية ظلامية تكفيرية
الروحانية المحايثة
ويقول سبونفيل عن الملحدين الجدد “نحن منفتحون”، وأن هذا النوع من الانفتاح هو الروح نفسها. ويسأل: “هل من واجبي، بصفتي ملحدًا، التخلي عن كل تجربة خلود، وعن تجربة لانهائي ومطلق؟”. وكان جوابه بالنفي. فالخلود، بالنسبة له ولكل الملحدين عبر التاريخ، إنمّا في هذا العالم المادي، الذي يصفه سبونفيل بتعبير جديد هو “الروحانيَّة المحاثية”، أي المكوث هنا الآن، في هذا المكان الوجودي.
وبالرغم من أن أحد أسباب سبونفيل بعدم إيمانه بوجود إله، غياب أي دليل حقيقي عليه، لكنه يعتقد أيضًا لا دليل على عدم وجوده كذلك. ويختصر قوله في هذه المسألة، إن “إلحادي ليس علمًا، إنه اعتقاد أو اقتناع”. مع إنه يهتم بالجانب العلمي تطورًا وتحليلًا، ويبدو كما قال عن نفسه، “يبقى إنّي لست ملحدًا عقائديًا”. فهو الملحد المنفتح على الروح البشريَّة في سائر عقائدها من الشرق إلى الغرب.
وفي الطبعة الثالثة من كتابه “القاموس الفلسفي” 2023، الذي ضاعف فيها حجم الكتاب عن الطبعة الأولى 2001، فيتعمق سبونفيل في تناوله إلى المفاهيم المتعلقة بصراع الحضارات، والعلمانية والمتغيرات الحاصلة في العالم. فبحسب رأيه، أن الصراع القادم ليس بين الحضارتين الإسلامية والغربية، كما توقع المفكر الأميركي صموئيل هانتغتون (1927-2008)، في كتابه “صراع الحضارات” 1996، ففي الظاهر يبدو الطرح صحيحًا، لكنه في العمق خاطئًا. إذ فيه تبلور لانبثاق حضارة إنسانية تنويرية كونية، لكنه انبثاق بطيء وصعب ويحتاج لوقت طويل، وهذا هو الشيء الأساسي الجاري في العالم الآن، أنه صراع أو صِدام داخلي في كل الحضارات المنغلقة على خصوصيتها الذاتية من أصولية وتكفيرية، بينها وبين الحضارة الكونية، وهو صِدام حقيقي قادم.
والحضارة الكونية، وفق رأي سبونفيل، هي حضارة العولمة الاقتصادية والتقنية والمعلوماتية، حضارة حقوق الإنسان والمواطن ونبذ الطائفية والعنصرية والعرقية، هذه الحضارة ستفرض نفسها على العالم بأسره آجلًا أو عاجلًا. ومن النتائج المهمة التي ستحصل ليس صِدامًا بين الكتل الحضارية المتعددة، غربية وعربية إسلامية وصينية وهندية وغيرها، بل سيكون داخل كل حضارة على حدة. ومن هذا المنطلق، يقرّ سبونفيل بأنه يشعر بالقرابة مع المثقفين العرب والمسلمين المستنيرين أكثر مما يشعر بالقرابة مع الفاشيين الأوروبيين أو الغربيين عمومًا، إذ لا يشعر بالقرابة منهم على الإطلاق.
إن الصراع المندلع داخل كل حضارة بين التيار التقدمي والتيار الرجعي حقيقة واقعة، ومنها في العالم العربي الإسلامي، بين التيار التنويري الذي هو إنساني نهضوي يفهم الإسلام بطريقة متنورة، والتيار الأصولي المتمثل بجماعة “الإخوان المسلمين” وما تفرخ منها من “القاعدة” و”داعش” و”النصرة” و”بوكو حرام” و”طالبان”، وفهمهم للإسلام بطريقة أصولية ظلامية تكفيرية. إن هذين التيارين الرئيسين متصارعان ومنقسمان على أنفسهم أكثر مما هم متصارعون مع الكتل الحضارية الأخرى.
المتسامح .. وسقوط ربيع الاخوان
أمّا عن الجانب الغربي، فيطرح سبونفيل الأسئلة الآتية: كم عدد الأوربيين المستنيرين الذين يضعون الكتاب المقدس للهنود “فيدا” (Vedas) على مستوى الكتاب المقدس المسيحي؟ كم عدد المثقفين الذين يضعون بوذا على نفس مستوى السيد المسيح؟ كم عدد الذين يضعون كونفوشيوس عاليًا مثل سقراط أو ديوجين؟ كم عدد الذين يضعون المسلم العبقري المتسامح ابن عربي عاليًا مثل المعلم المسيحي إيكهارت؟ كم عدد الذين يضعون الدلاي لاما عاليًا مثل البابا بنوا السادس عشر، بل فوقه؟
ويذهب سبونفيل في رؤيته إلى الحضارة الكونية بُعدًا يرى فيها، إن جميع شعوب العالم أصبحت تتقارب وتتعايش وتتفاهم مع بعضها البعض، وذلك من خلال ثقافة العولمة وقيمها الإنسانية الكونية من دون تعصب ولا إرهاب ولا انغلاق أصولي. وعلى هذا الأساس، فإن الحضارة العالمية الكونية الواحدة القائمة على الاقتصاد العالمي الواحد هي صمام الأمان لبقاء البشرية، وإلا فإن الصراع بين الحضارات إذا حصل فسوف تنتهي البشرية إلى الهلاك.
ويحدد سبونفيل جوهر الحضارة الكونية المقبلة في العلمانية، إذ لا حضارة ولا حداثة ولا نزعة إنسانية من دون دولة مدنية علمانية. إلا أن مفهوم العلمانية، خاصة في العالم العربي الإسلامي تعني أنها الإلحاد، بينما هي ليست ضد الأديان على الأطلاق، بل تحترمها كلها، لكن تضعها على قدم المساواة، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو مذهبي. فالعلمانية تعني أن الجميع متساوون أمام الدولة والقانون والمؤسسات بلا استثناء ديني أو مذهبي أو عرقي، إنها حرية الضمير والمعتقد، حرية أن تتدين أو لا تتدين، فكل متدين مواطن بالضرورة، ولكن ليس كل مواطن متدينًا بالضرورة. إنّ العبادة مسألة شخصية بينك وبين ربك، لا تحاسبك الدولة عليها، ولكنها تحاسبك إن أخليت بقوانينها.
وبحسب تصور سبونفيل، أن انتصار العلمانية التنويرية في فرنسا، جعلها تتغلب على صراعاتها الداخلية من حروب ومجازر طائفية، فإن العالم العربي والإسلامي يعاني من هذا الوضع إنّ لم تنتصر فيه العلمانية التنويرية. ومع أن النهضة العربية (1798-1939) حققت تقدمًا، لكن حسن البنا (1906-1949) الذي أسس حركة “الإخوان المسلمين” في عام 1928، أجهض مشروع النهضة العربية، الذي أصبح حلمًا بعيد المنال، ولكنها ستعود حتمًا، بل إنها عادت بعد سقوط “ربيع الإخوان المسلمين”.
نقد
مع أن فلسفة سبونفيل، بشكل عام، فيها تقارب تجاه عدمية سارتر ونقدية كانت وحيوية برجسون، لكنه في جانب الإلحاد يحاول أن يمنح إلحاده صيغة جديدة منفتحة على الروح البشريَّة بكل أفكارها وعقائدها من دون أن يفضل جانب على جانب آخر، فالمسيحية عنده مثل البوذية الهندية والطاوية الصينية، لا يفرق بين الدين السماوي والأرضي، بين الأنبياء ورسالاتهم الإلهية والمصلحين الاجتماعيين، بين الوحي والعقل، وهذا الخلط التعسفي غايته لتكوين رؤيَّة روحيَّة مصيرها في مادية هذا العالم الطبيعي.
إن تفكير سبونفيل الإلحادي، إنما يعكس تصوره وقناعته الذاتية، وهذه الحالة تلعب فيها النفسية دورًا تزاحم فيها دور العقل، بل وتؤثر في حريته الفكرية أيضًا. وكما نشأ سبونفيل في أسرة متدينة جدًا، ثم انقلب على الإيمان، وهي وضعية مشابهة إلى فردريك نيتشه (1844-1900)، الذي كتب: “إنّ الله قد مات”. فالوضع النفسي مالت كفته نحو الإلحاد، سواء بشكل انفتاح جديد عند سبونفيل، أو بتحدي الله “الجلاد”، كما عند نيتشه.
أما مفهوم سبونفيل عن صراع الحضارات، الذي يغاير به مفهوم هانتغتون، فكلامه عن العالم العربي الإسلامي، فيه جانب إيجابي في تشخيص السلبيات الظاهرة، ولكنه يتجاهل الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهور تلك السلبيات. فهو ينقد الأصولية التكفيرية، ودور “الإخوان المسلمين” وما خرج من عباءتهم من جماعات وحركات إرهابية متطرفة، وما فعله المؤسس حسن البنا ضد مشروع النهضة العربية، وكل ذلك صحيح، لكنه لم يشر إلى كيفية بروز هذه الجماعة، ومَن وقف وما زال يقف وراءها. وهذا التجاهل يثير الريبة، فليس من المعقول لمفكر كبير أن يذكر السبب ويغفل عن ذكر المسبب.
وهناك الكثير من المصادر الغربية، ومن مؤلفيها: ستيفن ميرلي، رونالد ساندي، بريان فارمر، إيان جونسون وغيرهم، تحدثت عن صلة الإخوان في الدول الغربية، خاصة مع بريطانيا والولايات المتحدة، وما تلاقيه من دعم وتأييد، لا يسعنا المجال سردها هنا، لكن نختصرها عما سماه سبونفيل “ربيع الإخوان المسلمين”، إذ كشف وليام أنجل، ضابط مخابرات سابق وخبير شؤون السياسة، وله مؤلفات عديدة، كشف في حديث نُشر في 3 نيسان 2014 تكلم عن ذلك الربيع الإخواني قائلًا: إن “الإستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية، بدأتا سراً بدعم مشروع أكثر طموحاً بكثير بأستخدام منظمة ماسونية تسمى بجماعة الإخوان المسلمين”.
ثم كشفت أيضًا “مجموعة الشرق الاستشارية” في واشنطن، وبموجب القانون الأميركي في “حرية المعلومة” حصلت على حزمة من الوثائق التي تكشف أحداثها عن وجود 98 رسالة ألكترونية بين إدارة اوباما ومجلس الأمن القومي ووزارتي الخارجية والداخلية بالعمل التحضيري لاستيلاء الإخوان المسلمين على السلطة في البلدان العربية. إذ دعم الرئيس الأميركي باراك أوباما (2009-2017) مخططًا سريًا في تغيير الأنظمة السياسية في الدول العربية، بدأت دراسة سرية موسومة (PSD–11) مشتركة بين البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وكذلك وزارتي الخارجية والداخلية، خلال الفترة من أيلول/سبتمبر 2010 إلى شباط/فبراير 2011. وذلك بإجراء تقييم حكومي شامل إلى آفاق الاصلاح السياسي والدور المحتمل للإخوان المسلمين في كافة أنحاء العالم العربي.
لماذا سبونفيل يهتم بحضارة تنويرية كونية ترتكز على الاقتصاد من غير السياسة؟ إذا كان رافضًا للسياسة، فمثلما يقف ضد الإرهاب والتطرف التكفيري، فعليه ألا يغض النظر عن حكومات الغرب المسببة لهذا الوضع التدميري في العالم العربي والإسلامي.
وعن العولمة التي يؤمن بها سبونفيل، فهي تسويق غربي تحت مظلة التقنية والمعلومات والديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، لتبسط ثقافتها وهيمنتها على باقي الشعوب، التي تنزع عنها هوياتها وتلحقها بالتنوير الغربي غير المكترث بالإيمان والأديان. كما أن كلام سبونفيل عن شعوره بالتقارب مع المتنورين العرب على الفاشيين الغربيين، فإذا كان قصده الملحدين، فقد وافق شنٌ طبقه، إذ لا يتبنى العربي المؤمن فكرًا إلحاديًا وماديًا تحت مسمى التنوير. فالمؤمن في الشرق أو في الغرب يفهم التنوير بطريقة يقينية بوجد الله الخالق، ورسالات أنبيائه من دون تفلسف فارغ.
ومع ذلك، ربما سينتقل سبونفيل من الإلحاد إلى الإيمان، كما فعلها الفيلسوف الإنكليزي أنطوني فلو (1923-2010) في أواخر حياته، وكنت حينها أحد روافده، وتناول كتابي “تاريخ الفلسفة الإسلامية” 2004، بمقالة نشرتها مجلة “الفلسفة الآن” اللندنية.
عذراً التعليقات مغلقة