منظور المعرفة عند رورتي

آخر تحديث : الإثنين 29 مايو 2023 - 6:12 مساءً
منظور المعرفة عند رورتي

د. عماد الدين الجبوري

 الدين الجبوري - قريش

في بادئ الأمر، تمثل منظور المعرفة عند الفيلسوف والتربوي الأميركي ريتشارد رورتي (1931-2007) من خلال منهج التحليل، الذي يولي عناية خاصة بأهمية اللغة في تحليلات المفردات والتعبيرات بغية إزالة الشوائب والغموض العالقة فيها، وبذلك تكون معرفتنا واضحة من غير زيف أو خلط. وتعود الفلسفة التحليلية إلى مؤسسها غوتلوب فريجه (1858-1932)، ومن أكبر أقطابها برتراند راسل (1872-1970)، وسار على نهجها رورتي خلال فترة الستينيات من القرن 20، لكنه في السبعينيات منه انقلب عليها ورفضها، لأن التقليد الفلسفي الحديث الذي تنتهجه ليس بالتمثيل الصحيح للمعرفة، ورأى أن وجود العالم يكون مستقلًا تمامًا عن ذلك التمثيل. 

بعبارة أخرى، يرى رورتي، إنّ وحدات أو “مفردات” الفكر التمثيلي في المعرفة واللغة، العقل والعالم، يجب التخلي عنها نهائيًا، لأنها ستؤدي بنا إلى سخرية ذهنية، وبمقدور المجتمع الإنساني أن يتصرف بسلمية طبيعية من غير الحاجة إلى مفردات واستعارات الفكر التمثيلي المعرفي التقليدي بين الإنسان والعالم. 

ومن هنا، ركز رورتي على فكرة المعرفة كونها “مرآة الطبيعة” من غير اهتمام إلى الماهية، لأن اللغة والكلمات عنده أكثر أهمية من الوجود الذي يُعرف بالإدراك والشعور. فبحسب تصوره، إن الماهية مجرد وهم زائف يتوجب علينا ألا نخوض فيه، بل الأفضل أن نتخلى عنه، وبذلك لم ينبذ رورتي فلسفة التحليل فقط، وإنما وقف أيضًا ضد الفكرة التي تتفق عليها أغلب مذاهب الفلسفة الحديثة، مثل العقلانية والوجودية والوضعية وغيرها، فقول الفلاسفة في معرفة الماهية، إن ماهية الإنسان تعكس العالم الخارجي بشكل مطابق لانعكاس الشيء في المرآة، فالغاية منه حصر واحتكار المعرفة عندهم دون سواهم. 

ومن الطبيعي أن يكون هذا النمط الفكري في اللاماهوية عند رورتي، أن يقوده إلى استبعاد مفهوم الماهية كليًا من كل أنواع المعرفة، وأن يصل إلى نتيجة مفادها، إنّ المعرفة الفلسفية أو اللغة أو الأخلاق أو كل ما يتصل بالإنسان والعالم والكون ليس له أي ماهية على الاطلاق، وعلى الإنسان أن يهتم ويركز على لغته وذاته وحياته، ويترك البحث عن “الحقيقة والمعرفة المطابقة” وما يتعلق باللغة الكونية الصادقة أو مفهوم الأساس اليقيني.

وإذا نقض رورتي الفلسفة التحليلية والنهج التقليدي النظري عند فلاسفة أوروبا، فإنه سلك طريق الفلسفة الذرائعية أو البراغماتية (Pragmatism) في الولايات المتحدة الأميركية، تلك الفلسفة المرتبطة بالواقع العملي بكل قوة، وأدخل فيها صيّغ علمية وفلسفية عصرية بغية تطويرها عما كانت عليه في زمن مؤسسيها الأوائل تشارلس بيرس ووليم جيمس وجون ديوي من ناحية، ولكي تواكب المعطيات والمتغيرات الحياتية والاجتماعية من ناحية أخرى، حتى غدى رورتي رائد الذرائعية المحدثة. 

ومن أهم المتغيرات التي أحدثها رورتي في عمله الجديد، هو نقله مركزية المعرفة في الذرائعية من التجربة إلى اللغة، لأن طبيعة اللغة متغيرة عرضية لا ثبوت فيها ولا قدسية، فهي الوسيط بين الإنسان والعالم، فاللغة تقوم بتمثيل الواقع ونسخه في الذهن في آن. ليس هذا فحسب، بل أن اكتساب اللغة يقترن دومًا باستخدام الكلمات والتعبيرات من أجل توصيل المعنى وفق الأساليب المعروفة. وبناءً على هذا المفهوم، يرى رورتي، أنه لا يمكن تطبيق الأسلوب الدراسي في موضوع العلوم الإنسانية على موضوع العلوم الطبيعية، فلكل منهما أسلوبه الدراسي الخاص، وطريقة توصيل المعنى.

وفي كتابه “الفلسفة ومرآة الطبيعة” 1979 (طبعة نيوجرسي)، يوضح رورتي هذه المسألة، بأن “فلسفة العقل” التي تدور حولها الكثير من المناقشات، فإنها غالبًا ما تبدأ من الافتراضات التي يحملها كل فرد بما لديه من معرفة تقليدية حدسية عن تقسيم العالم إلى عقلي وفيزيائي، مادي ولا مادي، وهذا التمييز المألوف لا يحتاج إلى برهان فلسفي ومحير، حتى لو حددنا التمييز بين ما هو عقلي وما هو لا عقلي، أو القينا جانبًا  فكرة المادة العقلية، أو أسقطنا من حسباننا فكرة الشيء المفكر، فإن الأمر برمته يبقى ضمن قدرة الإنسان الذاتية على التمييز بين العقل والمادة. 

وبما أن رورتي مادي الفكر والنزعة، لذا لا يتفق مع التصورات المعرفية الثنائية التي يطرحها الفلاسفة العقلانيين وعلى رأسهم ديكارت وسبينوزا ومَن حذا حذوهما، فكل واحد منهم يغريه الموضوع باللجوء إلى اللغة فيبدأ بالكلام عن مجموعات مختلفة من المفردات أو البدائل من الأوصاف. وبحسب رأي رورتي، إنه يمكن إزالة الفرق بين المذهبين الثنائي والمادي، إذا العقلانيون عند تناولهم الألم والصور العقلية والأفكار الجارية في الحاضر، أقروا أن الوصف العضوي لا يعدو عن كونه “إحدى أساليب الكلام” لحالة من حالاتها الجزئية. وبما أن هذه الأجزاء يجب أن تكون عضوية، وإذا نظرنا إلى ثنائية ديكارت نظرة كانتية (يقصد فكرة عمانوئيل كانت “الشيء في ذاته” أو أن “الأشياء في ذواتها”)، فإننا سنجد أن فكرة الجزء العقلي لا يعود لها معنى.

كما يرى رورتي، إن على الثنائيين الجدد إمّا أن ينشئوا وصفًا معرفيًا في “نظرية المعرفة” عن كيفية معرفتنا معرفة أولية، أو أن يجدوا طريقة أخرى تُعبّر عن هذه الثنائية من دون الاعتماد على فكرة الفجوة في “الوجود المجرّد” أو فكرة الوصف البديل. ومع ذلك، يشير رورتي إلى أن قبل الكلام في هذا الخصوص، يجب علينا البحث عن طرق لحل هذا المأزق المنطقي، وأن نتفحص فكرة الوجود اللامادي، ويسأل، ما نوع هذه الفكرة؟ هل نمتلك أمثلة أخرى عن فجوات الأشياء المجردة؟ لا سيما في مسألة المعرفة الأولية، وعدم قدرة البحث التجريبي على تحديد هوية كائنين لهما مكانيين وزمانيين في موضعين مختلفين.

صفوة القول عند رورتي، إن نظرية المعرفة التي اتخذت نمطها الجامعي منذ القرن 19، وقبل ذلك كان مسعى ديكارت وهوبز بشجب ورفض مفهوم المعرفة وفق منظور الفلسفة المدرسية، فإنه يؤيد طريقة ديوي وفتغنشتاين التي تنص على أن التفكير بالمعرفة التي تقدم “مسألة” فبموجبها ينبغي أن يكون لدينا “نظرية” هو حاصل النظر إلى المعرفة كمجموعة من أنواع التمثيل. وهذه الطريقة المعرفية، يعدّها رورتي، هي من إنتاج القرن 17، ولكن ما يجب استنتاجه في هذا الصدد، إذا كانت هذه الطريقة في التفكير اختيارية، فإن نظرية المعرفة ستكون كذلك، والفلسفة أيضًا كما بيّنت نفسها منذ منتصف القرن 20. وبذلك، على نحو عام، يقدم رورتي رأي التجريبيين أمثال لوك وهيوم على رأي العقلانيين مثل كانت وسبينوزا، مع أنه يؤكد على أن أشكال التضاد المألوفة بين الحسي والعقلي، وبين الأفكار الغامضة والواضحة وغيرها إنّما “كانت أجزاء من صناعة حديثة تدعى نظرية المعرفة” لا أكثر.

كيفما كان الأمر، فإن رورتي يرى، أن استمرار المشكلات التقليدية في نظرية المعرفة من أفلاطون وأرسطو وعبر تاريخ الفلسفة الغربية، يكشف لنا أنه ليس فيه أجوبة نهائية بشأن البحث في الحقيقة والتماثل، وبذلك علينا أن نتجاوز مثل هذه المفاهيم التي لا وجود لها خارج أذهاننا أو لغتنا. وعلى هذا الأساس، أستهل كتابه “النسبية الموضوعية والحقيقة” 1991 (طبعة نيويورك)، بالقول إن “كل من لا ينظر إلى المعرفة بوصفها امتلاكًا للواقع امتلاكًا حقيقيًا، وإنما هو مجرد امتلاك لعادات في العمل تستهدف التلاؤم مع الواقع”.

إن الميول اللاتماثلية عند رورتي تدفعه إلى القول، أنه “ليس بمقدور أذهاننا أو لغتنا أن تنفصل عن الواقع” وتكون مستقلة أكثر مما تقدر عليه أجسامنا أن تفعل. ومن هنا، فليس باستطاعة عنصر معين أن يمثل البيئة أو يتطابق بطريقة يعجز عنها عنصر آخر غيره.

نقد

لا ينكر الدور المهم الذي لعبه رورتي في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر بصفة عامة، والمذهب الذرائعي الأميركي بصفة خاصة، فهو انتفض ضد النهج التقليدي للفلسفة، ولكن انكاره أن العقل مرآة الطبيعة، وأن المعرفة ليست أكثر من مجموعات التمثيلات الدقيقة في مرآة العقل، فهو يبني عقلًا معرفيًا فوق العقل الإنساني نفسه، كما فعل شوبنهاور في الإرادة التي جعلها عقلًا فوق العقل. ويبقى السؤال، كيف نفهم وندرك الواقع من غير العقل؟ إنّ التفاوت الموجود دومًا بين المفاهيم والأفكار في تفسيرات التحصيل المعرفي، إنما يؤدي العقل فيها نشاطه الطبيعي، والتقصير تجاه العقل يعني تقصيرًا تجاه المعرفة نفسها.

لقد تبحر رورتي بقراءته النقدية والمعرفية في تاريخ الفلسفة الغربية، ووصل إلى نتيجة خلاصتها أن الفلسفة نظرية عامة في التمثيل المعرفي، كما أنها شكل من أشكال النقد الثقافي، وهي تعني الحوار التنويري أيضًا. ومن دون شك، إن هذه الميزة ينفرد فيها رورتي عن باقي معاصريه، مع أن فلسفته ينقصها الإيمان، بل خالية تمامًا من اليقين الإيماني بالوجود الماورائي، فهو يدعو إلى تحرر الذات من الاستعارات المتحكمة في العقل والمعرفة، التي غمرتها المشكلات التقليدية في نظرية المعرفة والماورائيات. إنه يرمي إلى ما بعد الماورائيات وإلى ما بعد المعرفة العلمية، وهي نزعة طبيعانية تطورية على نهج دارون وسبنسر وكونت.

وإذا أهتم رورتي باللغة والتعبيرات في تحديث نظرية المعرفة في الفلسفة الغربية، وكذلك بتقديم رؤية جديد ممزوجة بمنظور تحليلي وذرائعي وتجريبي، وفي توظيف بعض آراء كانت وهيوم وهيجل وغيرهم، فهو إنما يبحث ضمن إطار الثقافة الغربية وحدها، لا شأن له بما يتعلق بالثقافات الأخرى حول العالم، وإلا لتحدث عن آراء وأفكار بعض الفلاسفة والمثقفين من غير الغربيين. إذ أن مجمل الفلسفة الغربية الحديثة لم تنبثق من تلقاء نفسها وتظهر فجأة بعد “القرون المظلمة” التي سادت قارة أوروبا، والكلام عنها فقط يعني الاستمرار حول مركزية العقل الغربي للعالم، وهذا هراء أقره جاك دريدا وجون لويس وآخرين.  

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com