د• فارس الخطاب
الدبلوماسيّة حسب دائرة المعارف البريطانية هي الطريقة التي يتم من خلالها التأثير على القرارات، والسلوكيات السياسية للدول الأجنبية، وذلك عن طريق المحاورة، والتفاوض أو غيرها من الأمور السلمية غير العنيفة، أو الحربية، وتعتبر الممارسة الدبلوماسية بشكلها الحديث من نتاج عصر النهضة في أوروبا، ومن الناحية التاريخية للدبلوماسيّة فإنّها تعني إدارة العلاقات الرسمية بين الدول ذات السيادة، وفي القرن العشرين تمّ اعتماد الممارسات الأوروبية للدبلوماسيّة لدى جميع دول العالم، واتسعت الممارسات الدبلوماسيّة لتشمل المؤتمرات الدولية، واجتماعات القمّة، وغيرها، أما الدبلوماسي فهو الشّخص الذي لديه صلاحيات التفاوض، والحوار مع الدول الأخرى بالنيابة عن دولته .
وعبر التاريخ الممتد لآلاف السنين تميز الكثير من الدبلوماسيين في الشرق والغرب بتفرد ومهارات عكست قوة دولهم وحصدت احترام أعداءهم ، كما منع بعضهم قيام حروب وشيكة أو حشدوا ما استطاعوا من دول لها ، ، وعند الحديث عن دور الدبلوماسية في إيقاف الحروب أو منع اندلاعها تظهر أمامنا حيثيات الواقع الذي عشناه أو ورثناه في العصر الحديث والذي ارتكزت فيه قوى القرار الدولي بيد مجموعة من الدول الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (روسيا) والمملكة المتحدة وألمانيا والكيان الصهيوني وغيرها من دول أوروبية وآسيوية ، حيث كانت هناك في الغالب دبلوماسية “القوي” الذي ينقل سفيره أو وزير خارجيته رسائل التهديد القطعية أو الشروط الملزمة للإنصياع لرغبة وإرادة هذه الدولة.
وفي خلال الحرب الباردة بين المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة من جهة والمعسكر الإشتراكي بزعامة روسيا الشيوعية كانت الدبلوماسية بين أطراف المعسكرين تتسم بالهدوء والمرونة تارة وبالشد والتلويح بالقوة تارة أخرى، ومن أبرز وزراء خارجية الاتحاد السوفييتي أندريه غروميكو، فقد دخل المذكور في تاريخ الدبلوماسية الدولية من أوسع الأبواب، وكان من مؤسسي الأمم المتحدة، وكان شعاره الشهير في العمل: “عشر سنوات من المفاوضات، أفضل من يوم واحد من الحرب”. وبقي غروميكو في المنصب حتى يونيو عام 1985. ويأتي من بعد غروميكو في إدارة ملف العلاقات الخارجية الروسية سيرغي لافروف الذي عينه فلاديمير بوتين في 9 مارس 2004م وزيرا للخارجية خلفا لإيغور إيفانوف، ومازال مستمرا في عمله حتى اليوم، وهو صاحب الرأي الذي يقول فيه “لقد وصلت العلاقات الدولية إلى حد من التأزم لا يمكن تجاوزه دون إلحاق ضرر بالغ بالاستقرار العالمي. لهذا السبب فإن أي عمل يهدف إلى إطفاء الحرائق الاقليمية، بما فيها النزاعات الداخلية ضمن الدول، يجب أن يتم بشكل مدروس قدر الامكان، دون أن تطبق عليه أي معايير جاهزة”.
أما في جانب الولايات المتحدة فقد برز وزراء خارجية أمثال جون فوستر دالاس (1959-1953م) الذي خدم مع الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، دالاس الذي سعى في منصبه “لبناء وتعزيز تحالفات الحرب الباردة، وأبرزها منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو). وكان المهندس الرئيسي لمنظمة معاهدة جنوب شرق آسيا، وهو تحالف دفاعي مناهض للشيوعية بين الولايات المتحدة وعدة دول في جنوب شرق آسيا وقربها. كما ساعد في التحريض على الانقلاب الإيراني عام 1953 والانقلاب الغواتيمالي عام 1954″.
في عام 1996م حمل وليم روجرز حقيبة الخارجية الأمريكية وكان من أهم ما قدمه ما سمي (مبادرة روجرز) والمعروفة أيضا بـ (الضربة العميقة) لإيقاف النيران لمدة 90 يوم بين مصر والكيان الصهيوني وأن يدخل الطرفان في مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار 242.
أما أخطر وزير خارجية أمريكي والذي ما زالت بصماته تحكم الكثير من خطوات القرار الأمريكي بالنسبة لملف الدبلوماسية، ذاك هو العقل الإستراتيجي هنري كيسنجر الذي لا حصر للخطوات العميقة التي أخرج فيها الولايات المتحدة من مواقف حرجة وأعادتها إلى واجهة الفعل المؤثر (دبلوماسيا) مثل الانسحاب من فيتنام، وفصل القوات على الجبهة العربية – الإسرائيلية عام 1974م، وزيارة الرئيس الأميركي نيكسون إلى الصين، ومعاهدة الحد من التسلح SALT التي عقدت مع الاتحاد السوفييتي ناهيك عن دوره في جهود التسوية في الشرق الأوسط.
إن الإنحدار الكبير للدبلوماسية الأمريكية بدأ خلال الفترة التي تسلم فيها جورج دبليو بوش الإبن رئاسة الولايات المتحدة والذي عين في عام 2001م، كولن باول وزيرا للخارجية، والذي كان صاحب شعار ” إن على الولايات المتحدة، ألا تجد نفسها بعد الآن متورطة في صراع طويل غير مثمر، كما حدث في فيتنام”. لكن ، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م، تراجع باول عن موقفه وقرر دعم بوش في قراراته بغزو أفغانستان والعراق ، لا بل جعل من نفسه أداة “كذب” لصالح قرار الحرب على العراق عندما قدم أمام مجلس الأمن في عام 2003م مجموعة من القصص المفبركة عن قدرات العراق بمجال أسلحة الدمار الشامل مستغلا سمعته الدولية السابقة بالنزاهة فكان أن روج للحرب ومشروع الصقور برئاسة جورج بوش وديك تشيني ورامسفيلد مع بعض الدول الأوروبية والكيان الصهيوني ، لكن وبعد 18 شهرا فقط من احتلال العراق من قبل واشنطن أعلن باول استقالته من منصب وزير الخارجية، واعترف بعدها بفترة وجيزة بأن المعلومات الاستخباراتية التي أشارت إلى أن صدام حسين كان يمتلك “أسلحة دمار شامل”، كانت مغلوطة وخاطئة، علما أن بأول اعتذر سابقا عن كذبة لتغطية جريمة كبرى ضد الإنسانية عندما كلف بالتحقيق في رسالة من جندي في الخدمة الأمريكية، تدعم مزاعم بوقوع مذبحة في “ماي لاي” في فيتنام في مارس/ آذار 1968م، قتل خلالها جنود أمريكيون مئات المدنيين الفيتناميين، بمن فيهم أطفال. لكن النتيجة التي خلص إليها باول بعد التحقيق كانت مخالفة للأدلة المتزايدة على المعاملة الوحشية للمدنيين من قبل القوات الأمريكية حيث خلص إلى نتيجة غير حقيقية وهي أن “العلاقات بين الجنود الأمريكيين والشعب الفيتنامي ممتازة”.
إن واقح الحال، ومن بعد جريمة العصر الأمريكية بغزو واحتلال العراق، تؤكد تحول الدبلوماسية الأمريكية إلى عسكرة الخارجية الأمريكية ليس على مستوى حامل حقيبة الخارجية، بل على مستوى مهام حاملها ومهام وزارته التي باتت كوادرها تركز على عناصر من المخابرات المركزية والاستخبارات العسكرية بما حوّل الخطاب الدبلوماسي إلى خطاب بإحدى الوجهتين، تهديد أو توجيه.
إن الولايات المتحدة التي تحولت إلى خطاب القوة الخشنة بدلا من القوة الناعمة وهو ما أدى إلى تراجع النفوذ الأمريكي وانهياره في مناطق أخرى بسبب عدم تقبل الكثير من هذه الدول لهذا الأسلوب الذي بدأه بوضوح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الإبن عندما هدد كل دول العالم قائلا ” إن الدول التي ليست مع الولايات المتحدة فهي ضدها”. مؤكدا ” أن أي شريك في التحالف الدولي يجب ألا يعبر عن تعاطفه فحسب، بل يجب عليه أن يشارك بعمل”.
وفي عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أصبحت التهديدات الأمريكية غير مرتبطة بدول بعينها أو عن طريق وزير خارجيتها، بل اتخذت شكلا عدوانيا متقدما يشبه إلى حد كبير أساليب بعض دول العالم الثالث؛ حيث تولى الرئيس الأمريكي مسألة التهديد المباشر، لكن لمن؟
إنها، للأمم المتحدة، ولمنظمة حلف شمال الأطلسي، ولمنظمة التجارة العالمية، ولاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، كما حصدت الصين ودول كثيرة في العالم بعضها يعد من تشكيلات التحالف الأمريكي الدولي.
إن التحديات التي تواجه الدبلوماسية الأمريكية كبيرة وأن لم يتم تجاوزها فقد تتجاوزها حتى دبلوماسية حلفائها، وبعث الرئيس الأمريكي الحالي جوزيف بايدن خلال كلمته أمام الهيئة العالمة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر 2021م ببصيص أمل حينما دعا إلى فتح صفحة جديدة من الدبلوماسية الأمريكية المكثفة ، وقال: ” إن استخدام القوة يجب أن يكون الملاذ الأخير، وليس الخيار الأول”، مشددا على ضرورة إعادة ضبط الأولويات بعيدا عن عقدين من الحروب في سبيل مواجهة التهديدات الناشئة حديثا، وأن العالم يتعين عليه أن يختار بين الديمقراطية والاستبداد.
عذراً التعليقات مغلقة