د. عماد الدين الجبوري
لندن
(الحلقة 1 )
يناظر موقف اللغة ومكانتها في العلم والمعرفة والأدب موقف الناطقين بها من الوجود نفسه، فإذا كانت غاية الوجود هي الوصول إلى الحقيقة، فإن أول الطُرق إلى الوجود هو اللغة. ومع أن هذه المسألة قديمة تعود لزمن الحضارات الشرقية التليدة في العراق ومصر والهند والصين، وما جاء في أقدم الملاحم الإنسانية “كلكامش” 2000 قبل الميلاد، إلا دالة على اللغة والوجود والوعي البشري.
بيد أن التركير على الذات الإنسانية وجعلها محور الوجود في فهم الموجودات، بدأ من فلاسفة اليونان الطبيعيين ثم العقلانيين وعلى رأسهم أفلاطون، لا سيما في محاوراته ذات النسق المحبوك من خلال الجزئيات المصنوعة من الواقع، متخذًا من اللغة سبيلًا للوصول إلى سبر غور الوجود المحاكي للمُثل في الماورائيات.
ولقد تطورت فلسفة اللغة عند فلاسفة الإسلام وفق ما يناسب عقيدتهم التوحيدية تجاه الوجود وكيفية حل مشكلاته، خاصة عند الفارابي وابن سينا، وما يترتب على مجمل التواصل الحضاري والثقافي العالمي. فالفارابي لا يتوافق مع إفلاطون في نظرية المحاكاة المثالية، وكذلك لا تتفق معه الاسمية الحديثة، فبحسب رأي الفارابي إنّ “الأسماء ينطوي فيها الوجود الذي هو الرابط الذي يصير المحمول محمولًا على موضوع، فلذلك نقول ‘زيد إنسان’ ولا نقول ‘هو إنسانية’… والأشكال الدالة على الوجود الذي هو الرابط تختلف في ما تعرّف ما هو وفي ما تعرّف منه أشياء أخر، مثل كم وكيف وغير ذلك”. (كتاب الحروف، ص 81).
وفي العصر الحديث أمتاز تطور فلسفة اللغة من خلال تبيان “الاسم” في تحديد الحقيقة المعرفية، إذ أن المفهومات والأفكار العامة والمبادئ إنّما توجد بالذهن الإنساني وليس لها واقع في الخارج أصلًا. وعلى الرغم من أن الطابع العام لهذه الاسمية هي فلسفية شكية تُعبّر عن الروح العلمية، لكنها تعدّ جديدة في نهجها عن عقلية العصور الشرقية والغربية السابقة عليها، وكذلك في أساليب تفكيرها، ومن أقطاب هذا النهج بيكون وكانت وهيوم.
وفي عصرنا الراهن أخذت فلسفة اللغة منحًا آخرًا، إذ بدأ التركيز على إظهار مسألة اللغة والكلام والكتابة، وما يتوجب عليها من مفاهيم معرفية معينة في تحديد “الحقيقة” سواء كانت فلسفية خالصة مثل المنطق والقضايا والأحكام، أو أدبية بحتة بما يخص النقد والخطابة والنص. ولقد كتب في هذا الحقل الفكري مجموعة بارزة من الفلاسفة والنقاد واللغويين سواء بشكل فردي أو ضمن مذاهب متنوعة.
إنّ موضوع اللغة والوجود له سمة مهمة وخطرة، إذ أن أية أمة عندما تضيع لغتها، فإنّما تضيع حقيقتها، وتضيع معها قدرتها على الوجود، وبذلك تدخل في دائرة الزوال التدريجي نحو الفناء، لا سيما أن هناك بعض الملامح من أوجه العلاقة القائمة ما بين الوجود والوعي واللغة على المستوى المعرفي في أقل تقدير.
وفي هذه الدراسة، سنتناول أهم المدارس المعاصرة التي بحثت في هذا الموضوع ومشكلاته، وفي ختامها سنطرح تقييمنا لمجمل الأفكار والآراء والنظريات التي سردناه.
الظاهراتية
إنّ علم الظواهر (Phenomenology) الحديث الذي أهتم به رهط من الفلاسفة والعلماء الغربيين، وذلك في النصف الأول من القرن 20 عندما أتجه بعض المفكرين واللغويين بالتركيز على أهمية الخبرة الحدسية للظواهر، وما تمثله في خبرتنا الواعية في هذا العالم، وعملت على توظيف هذا النهج العلمي ضمن البحوث اللغوية بغية الكشف عن الحقيقة المعرفية. ويعدّ الرياضي والفيلسوف أدموند هوسرل (1859-1938) مؤسس هذه المدرسة، التي تمنح أولوياتها في فهم أسلوب الإنسان الحاضر في العالم، أكثر من الغوص في فهم الطبيعيات والماورائيات، فهي لا تدعي التوصل إلى الحقيقة الكلية أو المطلقة، كما فعلت معاصرتها “الوضعية المنطقية” التي حصرت الحقيقة المعرفية في المقولات الرياضية والمنطقية، ورأت أن الماورائيات والديانات فارغة من أي معنى إدراكي. ومن ضمن الذين انتموا لهذه المدرسة كارناب، هانس هان، هيدجر وآخرين.
على أي حال، فإن هوسرل قد ركز على تبيان هذا الجانب المعرفي، لا سيما في كتابه “مباحث منطقية” 2001 (طبعة إنكليزية)، الذي يؤكد فيه على أن “المناقشة اللغوية هي بالتأكيد من بين الاستعدادات الفلسفية التي لا غنى عنها لبناء منطق خالص، وذلك من خلال مساعدتها فقط يمكن أن يتم صقل الهدف الحقيقي للبحث المنطقي، وبعد ذلك الأنواع الأساسية وتمايز هذه الأشياء إلى الوضوح الذي يستبعد كل سوء الفهم. وهنا، نحن لسنا معنيين بالمناقشات النحوية، التي تم تصورها وإدراكها تجريبيًا لبعض اللغة المعطاة تاريخيًا، نحن مهتمون بمناقشات من النوع الأكثر عمومية والتي تغطي النطاق الأوسع لتفسير موضوعي للمعرفة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الأخير، الظاهراتية لتجارب التفكير”. ص 165-166.
وفي هذا الصدد، سنعرض أقوال هوسرل بما يخص الجانب الأدبي، ثم نتناول أقواله تلميذه هيدجر في الجانب الفلسفي، مع ارآء سارتر وراسل المغايرة.
الجانب الأدبي
ينطلق هوسرل في تشخيصاته للأشياء الواقعية من علم الظواهر، الذي يؤكد على حقيقة الشيء كونه موجودًا واقعيًا وليس تجريديًا، فإنّ لم نقدر أن نتأكد من الوجود المستقل للأشياء، فإننا نقدر أن نتأكد من شكلها، سواء كان ذلك خيالًا أو واقعًا بحسب ما نعنيه، فالأشياء لا تعدّ لذاتها وإنّما مقصودة بالوعي والإدراك في آن، إذ هناك علاقة داخلية تربط ما بين عملية التفكير وموضع التفكير، إضافة إلى أن كلاهما يعتمد بوجوده على الآخر. فإذا أردنا أن نبحث عن الحقيقة، فيجب أن نسقط من حسابنا الاهتمام بأي شيء يقع خارج نطاق تجاربنا المباشرة، وأن نجعل العالم الخارجي مصغرًا بحجم مضامين شعورنا فقط. كما أن هذا التصغير الظاهراتي هو القوة الذي يهدم أي شيء غير ملائم للشعور، فإذا قلت: “إنني أشاهد هذه المنضدة، التي توجد”، فيجب أن أقول: “عندي الخبرة وفي أحدى مميزاتها هي تصديقي في وجود المنضدة”. ومع ذلك، فإنّ حل المشكلات ليست كافية عبر هذه الطريقة، خاصة أن العقل فيه تدفق عشوائي للظاهرات، ولكن من أجل فهم ظاهرة ما بشكل تام، فإنّه يجب فهم ما هو جوهري وثابت فيها.
وبما أن الظاهراتية تبحث عن الحقيقة بصيغ معاكسة عن التجريد، لذلك يطالب هوسرل بالعودة إلى البحث في الأشياء نفسها، ذلك لأن الفلسفة قد اهتمت بالأفكار أكثر من اهتمامها بالحقائق. وعليه، فقد جاءت نظمها العقلية الكبيرة على أُسس ركيكة دائمًا، وإذًا، فإنّ الاهتمام بالظاهرات (التجربة والحس) يعني الاهتمام بعلم الوعي الإنساني. وبحسب رأي هوسرل، إنّه “”حتى لو لم يندرج التحليل الظاهراتي لخبرات التفكير الملموسة ضمن قاعدته الحقيقية للمنطق الخالص، فإنه لا غنى عنه لتقديم البحث المنطقي الخالص”. (المصدر السابق، ص 167).
إنّ نظرية الوعي عند هوسرل ترتكز على الارتباط القائم أصلًا ما بين “الكينونة” من جهة، وبين “المعنى” من جهة أُخرى، إذ لا يوجد شيء من دون شخص، ولا شخص من دون شيء. وإذا أردنا أن ننتقل من الحقل الفلسفي إلى الحقل الأدبي، نجد أن النقد الظاهراتي عند هوسرل يتقدم على القراءة الذاتية للنص دونما أن يكون هناك من تأثير بشيء ما خارجي، وذلك بتحويل النص أو العمل الأدبي إلى تجسيد شعوري يخص المؤلف، إذ يتم فهم الأسلوب والدلالة وكل ما يتعلق بسماته الكتابية على أنها أجزاء عضوية لوحدة كاملة معقدة يعمل عقل المؤلف على التوحيد في ما بينها، ومن أجل معرفة هذا العقل، فإنه لا يجوز الرجوع إلى شيء نعرفه عن السيرة الذاتية للمؤلف، بل يجب الرجوع إلى السمات الخاصة بشعوره والتي تفصح عن نفسها من خلال العمل الأدبي نفسه، إضافة إلى ذلك، يرى هوسرل بأننا معنيون بالتراكيب الداخلية لهذا العقل الذي يمكن الاستدلال عليه من نماذج الأفكار والصور المتكررة، فمن خلال هذه الأفكار والصور يكون بمقدورنا التعرف على الطريقة التي عاش المؤلف عالمه فيها، والعلاقة الظاهراتية بينه كونه الشخص وبين العالم كونه شيء.
إنّ العمل الأدبي، وفق رأي هوسرل، ليس حقيقة موضوعية وإنّما عالم حي حقيقي يقوم على النمط الذي رسمه وعايشه الكاتب نفسه. ولكي تكون الظاهراتية موضوعية تامة في فهم هذه التراكيب المبهمة من ناحية، والتشعب داخل شعور الكاتب من ناحية أُخرى، فيجب عليها أن تنفي نفسها، وذلك بالابتعاد عن كل ميل وانحراف، وأن تتعمق بالتأمل في عالم العمل الأدبي، وتعبر عنه بدقة صادقة من غير تحيز. فإذا تعاملت مع قصيدة دينية، على سبيل المثال، فإنّ الذي يهمنا هنا ليس إصدار أحكام قيمة، بقدر ما يهمنا إظهار كيفية الشعور والإحساس الذي كان لدى الشاعر في تجربته الشعرية ليس غير، لأن الظاهراتية هي تحليل غير تقويمي. ولذلك، فإن الظاهراتية ليست نقدية تمامًا، فهي لا تنظر إلى النقد كونه بناءً أو تفسيرًا فعالًا للعمل الأدبي الذي يتوقف على مدى اهتمام الناقد وانحيازه، وإنّما هي مجرد استلام سلبي للنص وتسجيل نقي لجوهر عقل الكاتب وحسب.
معنى هذا، أن هوسرل لا يجعل من تجارب الكاتب أو الشاعر ذات ارتباط معنوي باللغة، بل مجرد عملية إدراك لظواهر معينة يكون حدوثها بشكل مستقل عن اللغة نفسها. إذ إنّ “المعنى” عند هوسرل يسبق “اللغة”، لأن الأخيرة هي فقط “تطابق ما يمكن رؤيته بصورة جلية”، وبذلك فإنّ اللغة ليست أكثر من نشاط ثانوي يمنح الأسماء للمعاني التي نمتلكها. وهكذا تكون تجاربنا بالدرجة الأساس هي تعبير عن تجارب اجتماعية في الوقت نفسه، لأنه لا يوجد شيء يمكن أن نسميه لغة خاصة، وفق اعتقاد هوسرل. فلو كان ذلك كذلك، لتوجب أن نتصور نموذجًا كاملًا من الحياة الاجتماعية، في حين أن الظاهراتية تهدف إلى الضد من ذلك، إذ تحتفظ بتجارب داخلية نقدية خالية من العدوى الاجتماعية للغة، إضافة إلى كونها تنظر إلى اللغة على أنها نظام مناسب لتثبيت المعاني التي تكونت بصورة مستقلة عنها.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات واداب -لندن
يتبع كل اثنين
عذراً التعليقات مغلقة