دوغين والنظرية السياسية الرابعة

آخر تحديث : الجمعة 21 يوليو 2023 - 10:20 صباحًا
دوغين والنظرية السياسية الرابعة

د. عماد الدين الجبوري

لندن

 الدين الجبوري - قريش
د عماد الدين الجبوري

يُعدّ ألكسندر جليفيتش دوغين (1961) أحد أهم العقول الروسية المعاصرة في علوم السياسة والاجتماع والفلسفة، وفي عام 2014 أدرجته مجلة فورن بوليسي (Foreign Policy) الأميركية ضمن أفضل 100 مفكر عالمي في العصر الحديث. ولا غرابة في ذلك، فهو المُنظّر الفكري الكبير لمفاهيم قومية وإنسانية جديدة يلتزم بنهجها رجال الكرملين، وفي طليعتهم الرئيس فلاديمير بوتين. كما أن دوغين أسس وترأس “حركة أوراسيا الدولية” التي تروم إلى إنشاء قوة عظمى أوراسية (أوربية روسية)، تقودها روسيا من خلال اندماجها مع جميع الجمهوريات السوفييتية السابقة في كيان سياسي واقتصادي واحد يتمثل في الاتحاد الأوراسي الجديد، القابل للتوسع أيضًا نحو آسيا. 

 جليفيتش دوغين - قريش
ألكسندر جليفيتش دوغين

ومن بين أفكار دوغين البارزة تأليفه “النظرية السياسية الرابعة”، التي يرى فيها الحل الناجع لمشكلات العالم العويصة، إذ أن النظريات السياسية الرئيسة الثلاث التي أثرت على العالم في العصر الحديث، وهي: الليبرالية والشيوعية والفاشية، لم تفِ بالغرض المطلوب وسلبية النهج. فالليبرالية التي تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من أنها انتصرت على الفاشية في الحرب العالمية الثانية (1941-1945)، وكذلك على الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وبالقدر الذي تطرحه في الرأسمالية والسوق الحرة، وما توفره في مجتمعاتها من الحرية الفردية، لكنها حولت الفرد إلى عبد للسوق والسلعة. كما أنها آخذة بالاضمحلال والموت الحتمي جراء ما تواجهه من أزمة حادة وقاتلة. وبحسب تصور دوغين، إنّ الليبرالية تحاول حاليًا أن تجرد نفسها “من التفكير العقلي” وتسعى إلى “تحرير نفسها من قيود العقل” بدعوى أنها “فاشية في ذاتها”. وبذلك، فهي ترمي إلى تحرير الجسد من العقل، فلا هيمنة للعقل على أعضاء الجسد. 

أمّا الفاشية فهي مشروع عنصري تجبر مكونات المجتمع كافة بالانتماء إليها بطريقة قسرية. وبالنسبة إلى الشيوعية فهي تدور حول نظرياتها وتفتقد إلى الرؤية المستقبلية في آن، إضافة إلى تبنيها إلى مقولات الليبرالية في الحرية والديموقراطية والحقوق وغيرها، بغية التوافق معها ليس إلا. لذا فإن هذه النظريات الثلاث مصيرها الحتمي هو الموت، وعلى هذا الأساس يطرح دوغين “النظرية السياسية الرابعة”، التي تعتمد على الوعي الذاتي الإنساني، الذي همشته علوم التقنية الحديثة من جهة، وتبتعد عن مركزية الفرد أو القومية أو العرق من جهة أخرى. فالوعي الذاتي متفاوت بين فرد وآخر، ومن ثقافة إلى أخرى. وعليه، فإنّ العالم ينبغي أن يكون متعدد الأقطاب، بدلًا من قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية.

ومع ذلك، فإن نظرية دوغين تتعارض مع التوجه نحو إقامة "حكومة دولية"، التي دعا لها سابقًا بعض الغربيين مثل برتراند راسل (1872-1970)، عند معالجاته إلى مشكلات الشيوعية والفاشية، وفي كتابه (Has Man a Future?)
كتب بما يلي:
"في عالم مستقر مثل الذي نتخيله، يمكن أن يكون هناك من نواح كثيرة قدر كبير من الحرية أكثر مما هو موجود في الوقت الحاضر. ومع ذلك، ستكون هناك بعض القيود الجديدة على الحرية، حيث سيكون من الضروري غرس الولاء للحكومة الدولية والحد من التحريض على الحرب من قِبل دول مفردة أو مجموعات من الدول. مع مراعاة هذا القيد، سيتم تحرير الصحافة وحرية التعبير وحرية السفر، ويجب أن يكون هناك تغيير جذري في التعليم" أيضًا. صفحة 123.

بالنسبة إلى دوغين، بالقدر الذي يرفض فيه وجود حكومة دولية ترأس شؤون العالم، فإنه يرفض أيضًا أن تقودها نخبة خاصة متكونة من مسؤولي الشركات العالمية الكبرى، والسبب عنده، لأنهم “يسعون إلى حرمان الناس من الشعور بالكبرياء وقهرهم تجاه متطلبات شركاتهم”. 

وبما أن تلك النظريات الثلاث هي تجسيد للحداثة، وأن دوغين يعارض المفاهيم العقلانية في العصر الحديث من ديكارت وسبينوزا وكانت إلى هيجل وغيره، وصولًا للذين ما زالوا متمسكين بها للآن مثل هابرماس. فالحداثة، بحسب رأيه، أفقها العدم، لكنه لا يسير على نمط “ما بعد الحداثة” ودور اللغة في المعرفة وغير ذلك، بل هو يؤمن بالمقدسات والتقاليد بما يخض “الدين والأسرة والتراث والتنوع العرقي” وغيرها من الأُسس التي تنبع جذورها من الماضي، فهي الأساس الذي يجب العمل بالعودة إليه من أجل بناء نظرية سياسية جديدة.

ومن هنا، تقوم نظرية دوغين السياسية على بضعة أفكار جوهرية، وعلى الرغم من أنه يحددها بشكل مقتضب، لكن بمجملها شمولية للذات الإنسانية، ولها أربعة ركائز هي: أولًا، الإقرار بقيّم المجتمعات كافة بعيدًا عن المركزية القيمية الغربية. ثانيًا، القبول بنظام دولي تعددي وأخلاقي. ثالثًا، تكوين قوى أوراسية شرقية من روسيا والصين والهند وغيرها ضد القوى الغربية الأطلسية. رابعًا، العمل على تعزيز ماضي الشعوب، وإعادة الفرد الى المجتمع وإلى الله.

وكذلك يشير دوغين في نظريته إلى تقسيم النزعة الإمبراطورية المعاصرة إلى نوعين: إيجابية وسلبية. الأخيرة تتمثل في سلبيات ثلاث هي الأميركية والأوروبية والإسلامية. الأولى، تجسدها طموحات الولايات المتحدة في العولمة وميثاقها الرأسمالي. الثانية، نزعة أوروبية مترددة وتفتقد إلى منظور إقليمي واضح. الثالثة، إسلامية تمثلها الحركات الدينية الإرهابية. أما النوع الإيجابي الذي يدعو إليه دوغين، فهي الإمبراطورية التي تقوم على الركائز الأربعة الآنفة الذكر. 

وبما أن دوغين يشدد في نظريته السياسية على أهمية القومية ومساحاتها الجغرافية، لذا فقد شملته عقوبات أميركية عام 2015 بدعوى تورطه المزعوم في حث موسكو على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ويصفه الإعلام الغربي بأنه “عقل بوتين” وكذلك “أخطر فيلسوف في العالم”. وفي أحدث تغريدة له كتب قائلًا: “بوتين أراد تحويل روسيا من الاعتماد الكامل على الغرب إلى الاعتماد الجزئي، لكن الجزئي لا ينفع، إمّا الاعتماد الكامل والاستقلال التام أو لا شيء، إمّا أن ندخل في الأمر أو انتهى الأمر، أنصاف الحلول غير ممكنة، إمّا أن نشكل نحن الموضوع الروسي أو سنكون نحن الموضوع، لا يوجد خيار ثالث، والموضوع الروسي يساوي النصر، أما الباقي من الأفضل عدم التفكير في الأمر”.

وعن موجات العقوبات الغربية غير المسبوقة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، وكذلك الدعم الغربي المفتوح لأوكرانيا بالمال والسلاح، والاستهداف التخريبي داخل الأراضي الروسية، فيرى دوغين: إنّ “التصرف بحزم لا يعني القيام على الفور بضربة نووية، من الضروري الانتقال إلى تدابير أخرى لم يتم تضمينها بعد”. ويسرد خمسة نقاط حيال هذه التدابير المطلوبة، وهي كما يلي:

 أولًا، إزالة عملاء العدو بشكل كامل من المناصب الرئيسة في الدولة.

ثانيًا، إجراء تغييرات في الموظفين.

ثالثًا، بدء تعبئة كاملة للمجتمع.

رابعًا، التوقف عن القول “لقد تم خداعنا”، فقط تخلص من هذه الحجة، لأن أولئك الذين يؤمنون فقط هم الذين يمكن خداعهم، ولكن الإيمان بالغرب هو بالفعل مجرد جريمة.

خامسًا، إلغاء السلام وإعلان الحرب في البلاد، ليس فقط لسكان المناطق الجديدة أو منطقة بيلغورود، الخطر يهدد البلد، المجتمع كله، الدولة كلها.

وفي حالة عدم نجاعة هذه الإجراءات بردع الغرب وتدخلاته، فإن الحل النهائي عند دوغين هو تطبيق المثل الفرنسي القائل “عليّ وعلى أعدائي”، إذ يقول: “ثم إذا تبين لاحقًا أن كل هذا لم يجد نفعًا، فحينها علينا مهاجمة العدو بالأسلحة النووية”.

نقد

إنّ ما يطرحه دوغين له رواسبه في العمق السوفييتي والقيصري في آن، لكنه لا يحصره في حدود روسيا اليوم، بل يشمله في رؤية رحبة تمتد نحو فضاء جغرافي سياسي من شرق أوروبا إلى آسيا، تلعب فيه روسيا دورًا محوريًا، بل هي ذي الإستراتيجية الروسية المرسومة. إلا أن “النظرية السياسية الرابعة” هي نتاج فردي في نهاية الأمر، وفيها ميول شخصي نحو الماضي وتطلعات نحو المستقبل في مجابهة المدنية الغربية المادية، التي تفرض سياستها وثقافتها على العالم كقطب أحادي لا بديل له. إلا أن نظريات الفاشية والشيوعية والرأسمالية تكونت خلال مراحل زمنية من ناحية، وهي جهود فكرية لسلسلة عمل جماعي من ناحية أخرى.  

وبذلك، فإن رفض دوغين إلى الحداثة فيه قصور والتباس، فالحداثة ممتدة لخمسة قرون، فهي مرحلة رئيسة من مراحل التكوين الفكري والفلسفي والثقافي في أوروبا خاصة، وفي العالم الغربي عامة، وليست علم تنظيري له وظيفة سياسية محددة كما يريد أن يضعها دوغين في مفهوم نظريته السياسية. فالحداثة منهج له أصوله العقلية في مباحث الإنسان في الطبيعيات والماورائيات وكل ما يمكن أن تصل إليه النزعة الإنسانية.

وفي تصنيفه إلى الإمبراطوريات السلبية، فإن دوغين على صواب عند تشخيصه إلى الجانبين الأميركي الأوروبي، لكنه أخطأ في الجانب الإسلامي عندما جعل الحركات الدينية الإرهابية تمثل الإسلام، وكان عليه أن يفطن لهذا الخلل ويفرز بين عمل جماعات دينية متطرفة موجودة في أديان كثيرة سماوية أو أرضية، وبين الإسلام الذي يجمع بين الدين والحياة معًا، ويرفض في تعاليمه التشدد والتطرف والإرهاب. 

إلا أن هذا لا يمنع من الإشادة بدعوة دوغين إلى الماضي لِما قبل الحداثة، فالحضارة الغربية الحديثة ابتعدت تدريجيًا عن المسيحية حتى انحرفت وضلت، وجعلت المقدس مستباح، وقللت من دور الإيمان والروح والأسرة في الحياة وفي المجتمع، وأبعدت سلطة العقل على الجسد، وأطلقت العنان للحواس في الممارسات المادية المنحرفة ومنها، الإباحيات والشذوذ الجنسي المنافي للأخلاق والدين والله. 

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com