– اللعب على المكان كعنصر طاغ في توليفة شعرية
– شعر دال في معناه، قريب بمضمونه، يمنح القصيدة الشموخ
سعد الدغمان
يستهويني جيل الشعراء المتداخل ما بين السبعينات والثمانينات أستشعرهم أقرب لنفسي ، لا أعرف هل لتقارب الأعمار ، أم أن لسطوة الشعر في تلك المرحلة على الأحاسيس اليد الطولى ، أم أن التفرد كان سمة شعراء ذلك الجيل، (احترامي لمن جاء من بعدهم)، فكل له ثراء تجربته ،وكل يعتز بحصيلة ما يكتب.
لكني أبكي (ليلاي)، كما يبكي طالب عبد العزيز (ضياع التفرد في النص الشعري)، على حد قوله: (إذا شئتُ الحديث عن الشعر فأعتقد بأنَّ الشعر تعرض لكلِّ الهزائم تلك، والشعراءُ أكثر مخلوقات الله هِجراناً، وإلَّا فأين نحنُ ممَّن أحرقوا قلوبهم شعراً، وأفنوا أعمارهم قصائد وهمهمات، وحين ماتوا، تعجّلتهم يدُ النسيان، ولم يحفل بقبورهم غير عشبةٍ فقيرة، أو شجرةُ طرفاء مالحة، ظلّت تتوحّش وتذبل لتموت هي الأخرى في رملة لا تؤتى إلَّا من فتحة صغيرة بسياج المقبرة).
ذلك الوصف ذهب بالتفرد، وتداخل مع لمعان المفردة الشعرية ، فاستحالت القصيدة متشابهة المضمون عند اللاحقين، مختلفة عن جذورها ربما، لاتملك شكل الشعر رغم إن صاحبها يدعي انتمائها لجنس الشعر.
تميز طالب عبد العزيز باللعب على المكان كعنصر طاغي في توليفته الشعرية، دلالة على عمق انتمائه وتجذر تجربته دون انقطاع عن الرمزية لما يتناول، يكتب بحرقة عن كل المتغيرات، فطالب لاثبات عنده في المنهج الشعري، وهو شاعر متنوع يجيد اللعب على أوتار القصيدة ، متحكم بموسيقاها،مؤتلفاً في طرح فكرته التي يبني عليها حبكة عمله، لايترك هواه يتحكم في مسارات القصيدة رغم أن الشعر هوى، والأهواء تتلاعب بالشعراء مذ كانوا ووصفوا ب( أنهم في كل واد يهيمون).
دائما يطغى على أبيات طالب عبد العزيز هاجس من الخوف ، وحين تتحسس ما تفيض به مخيلته من شعر تجد اللوعة (الشكوى) طاغية على غيرها من مفاهيم،يشكوا الخراب، والخوف ، والفزع، ويشكوا ضياع أبي الخصيب، والنخيل ، والوجدان، والأحاسيس، والجمال الذي استبدل بنقيضه في كل تفاصيل الحياة.
لكن شعره عاصف متناسق المفردة، وهو أقرب للتنوير من أن يغلب عيه طابع الشكوى (كمفهوم لم نقصده طبعاً)، طالب يبني القصيدة بناءً يمنحها شيئا من الشموخ ،يعطيها خلوداً يتحسس من خلاله المتلقي أن ثمة وهج ينشئ عن حمرة متوهجة في نفسه، لاهو بالقادرعلى كتمها واطفائها، ولا يتمكن من ترك القراءة واهمال القصيدة.
يداخل طالب في شعره معيار الزمن كأحد أوجه قراءة القصيدة ليفرض على القارئ فهم أبياته بتقريرها الزمني، أي اللحظة أو الفسحة الزمنية (الفترة) التي كتبت فيها وما أحتوتها من أحداث ، لتفهم بمعيار يأخذ المتلقي إلى الصورة الشعرية التي أراد لها طالب أن ترسم بأبعادها، لا بالتأويل ، وهنا أجيز لنفسي أن أمنح (طالب عبد العزيز) لقب (شاعر الحقيقة)، وألبسه تاج الواقعية الرمزية المقترنة بدلالة الصورة المعبرة عن حقيقة ما جرى بمقياسها الزمني الواقعي، وليس بتأويل ما سيجري.
الأشتغال على كتابة نص شعري يحمل في طياته المتعة المتمثلة بجزالة اللفظ وحلاوة المعنى ودلالة الكلمة وصدق التوصيف للحدث ، هو اشتغال نادر ( لا أقول غير موجود) لكنه نادر، وقد وجدت تلك السمات الدالة على الإبداع في الصيغ التي يكتب فيها (طالب عبد العزيز) لينتج شعراً أقرب لوجدان القارئ ، دال في معناه قريب في مضمونه يستشعره المتلقي وكأنه قد كتب وبشكل خاص له دون سواه.
أولئكَ، الّذينَ لم تكنِ المسرَّاتُ
نخلاً على شرفاتِ منازلِهم ..
لطالما وقفتُ، أرتِّبُ الظِّلالَ طريقاً
لهم بين الأنهار..
أراد طالب لتوصيف المخاطب أن يتداخل مع الإشارة ( أولئك)،(الذين) ، ( المسرات) ، فأستخدم المكان( شرفات، منازلهم) كدالة على فعل البناء التوافقي للمقطع الشعري، فجاء تكوين المشهد بشكل مكتمل المعنى معبراً عنه بصورة رائعة أحتوت التوصيف الشعري بالمطلق.
لطالما قلتُ للترابِ : أينك ،
لماذا أخذتهم عنّي بعيداً ؟؟
كانوا، غرسوا الآمالَ كثيفةً على القناطر .
ولمّا لم يكن الوقتُ كافياً للموت
تهادَوا الجلّنار ،
فتساقطوا خريفاً وحكايات.
قد تصادفك لمحات أو ومضات شعرية ضمن بناء القصيدة التي يكتبها طالب عبد العزيز وقد أحتوت، تناسقات وأشارات متداخلة ، لكنها غير مأتلفة يشكل منها لوحة شعرية قد تضاهي بروعتها ما يرسم من صور شعرية في مقتطفات أخرى.
وهذه التي نقتطعها هنا خالط فيها الكثير من الرمزية، والشغف، الخوف والدموع، والحب ، وجذوع النخيل ، والنخيل بشكل عام يكاد أن يكون أيقونة في شعر طالب ،فقلما تجد قصيدة من قصائده لم يأتي فيها على ذكر النخيل أو أجزاء منها، ما يفسر تأثير المكان على القالب الشعري الذي يكتب فيه طالب، والإنسان ابن بيئته.
الآن، أحتفي بالثعالبِ، ذكرى حقولٍ تباعدت ..
ورائحةً من سمنٍ وطبيخ .
ومن الكُوى الغامضةِ -أستثني الشمسَ-
لا أجدُ في الأفقِ أشرعةً متعجلةً لهم.
مثلُ خيطٍ من دمعٍ شفيفٍ،
هكذا، تمرُّ قواربُ الّذينَ نُحبُّهم ..
كلُّ جَذعٍ غريبٍ بين ضفتين
لا أنتخبهُ معبراً ..
مساحة القصيدة عند طالب عبد العزيز هي مساحة للتوصيف الذي تتخلله علامات أستفهام عدة، يكاد لايركن إلى المبهم ليحمل القارئ أعباء الغموض التي تكتنف الإبهام في المصطلح الشعري، مفردته واضحة بمعان ضمنية لاتحتمل “التأويل” ، وأضنه لم يكتب بهذا العنصر ولم يضمنه خطابه الشعري.
البيئة الجنوبية تطغى على ما سواها في قصائده ن وهذا ناتج عن الأصالة في توظيف المصطلح اللغوي أو الشعري،كونه كما ذكرنا ابن الجنوب ، والجنوب جاذب بطبعه لا طارد ، لذلك تطغى مفردة (القصب، السعف، النخيل، الفواخت، قارب، مجداف، أنهار).
كلُّ مساحةٍ باذخةٍ للضوءِ
لا أصطفيها حقائبَ لهم
أكتفي من أصواتهم بما يتنزلُ في القصبُ
أُجلسُ الفَواختَ على يميني
وما تيسَّرَ من الدُّفلى على شَمالي ..
نائحُ السعفِ الوحيدِ، أنا
قاربُ الذينَ لم يجدوا في الخشبِ
مِجذّافاً لأنهارهم القادمة .
يعد طالب عبد العزيز من أبرز شعراء العراق اليوم في قصيدة النثر، وهو من مواليد مدينة أبي الخصيب في البصرة 1953 (مملكة النخيل) ، والمُتَوجة المتفردة بريادة الشعر الحر (قصيدة النثر)، فهي ترتكز لتقف شامخة على عمودين من أعمدة الشعر الحر هما ( السياب ، وسعدي يوسف)، وهي التي سطع نجمها بالخليل الفراهيدي وسيبويه وأبو الاسود الدؤولي وابن سيرين والجاحظ وأعلام الشعر والأدب ومدارسه الرصينة.
صدرت له عدة مجموعات في الشعر والنثر منها:
-تاريخ الأسى / 1994م
-ما لا يفضحه السراج / 1999م
-تاسوعاء / 2005م
-الخصيبي / 2012م
-قبل خراب البصرة / 2012م
-طريقان على الماء واحد على اليابسة / 2016م
عذراً التعليقات مغلقة