د. عماد الدين الجبوري
في عالم السياسة وطبيعتها تحدث تقلبات ومتغيرات وحتى تناقضات مشينة، وبذلك لا قواعد ثابتة فيها، بل متحركة دومًا، والمستمر في فلكها سابحًا هو مَن يجيد حسن توظيف تلك الأحداث وما تفرزه من معطيات على أرض الواقع، مع الحفاظ على الثوابت من مبادئ وأفكار في آن، والذي يسيء فهم أو إدارة الحدث، خاصةً إنّ كان حدثًا تاريخيًا خطرًا، فإنه لا محال سيخسر من رصيده السياسي ويهتز، وربما يؤدي هذا الضعف إلى تواريه أو حتى سقوطه، لا سيما إذا كانت حركته تسير ضد عجلة التاريخ، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية تجاه العراق.
فعندما أصدر مجلس النواب الأميركي “قانون تحرير العراق” في 1998، مع أنه تدخل سافر ومنافي للقوانين والأعراف الدولية، فإنها سمة من سمات العجرفة السياسية القائمة على نفي الآخر، وفرض المصالح الخاصة عنوة، وكان من ضمن أهداف القانون الخفية تعاونه مع إيران وتسليم السلطة لأتباعها من الأحزاب الدينية السياسية ذات النزعة الطائفية، وهذا ما تم بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003. وفي غضون هذه الفترة كانت واشنطن تنفق بسخاء على المعارضة الشيعية التابعة لطهران من “مجلس الأعلى الإسلامي” إلى “منظمة بدر” وفروع “حزب الدعوة الإسلامية” المنشقة في إيران وسوريا وبريطانيا، وكذلك “منظمة العمل الإسلامي”، إضافة إلى أشخاص كوّنوا تجمعات تخصهم أمثال، أحمد الجلبي وأياد علاوي وجهات تابعة لمرجعية النجف، وكان رئيس المخابرات المركزية الأميركية CIA وقتذاك وليامز بيرنز، الذي يتحدث اللغة العربية، يدعمهم بالمال الوفير، إذ خصص القانون المزعوم 100 مليون دولار لأسقاط النظام الوطني العراقي، كما عيّنه مجلس النواب مسؤولًا عن المعارضة العراقية.
وبعد سلسلة الأحداث التاريخية المتعاقبة من احتلال العراق، وما ارتكبته القوات الأميركية والمتحالفة معها من جرائم بربرية بشعة ضد الإنسانية، سجن أبو غريب مثالًا، واستخدام الفسفور الأبيض المحرم دوليًا في معركة الفلوجة الثانية، وقبلها استخدمت النووي المحدد في معركة مطار بغداد الدولي وغيرها، وكل ذلك كان تمهيدًا لتمدد المشروع الإيراني في الدول العربية منها، العراق واليمن وسوريا ولبنان؛ ودخول قيادات وعناصر “تنظيم القاعدة” من إيران إلى العراق، والمجازر الطائفية التي ارتكبتها هي والفصائل المسلحة الموالية لإيران، لا سيما بين عاميْ 2006 و 2007، وظهور أتباع القاعدة المنشقين في “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروفة باسم “داعش” ما بين (2013-2019)، وتشكيل “تحالف دولي” من 60 دولة بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة داعش، واندلاع ما يسمى “الربيع العربي” ما بين (2010-2012)، وإسقاط بعض الأنظمة العربية: تونس وليبيا ومصر؛ لتتضح الصورة الإجمالية بالأدلة القاطعة، ومن مصادر أميركية منها، “مجموعة الشرق الاستشارية” في واشنطن وغيرها، أن الولايات المتحدة هي وراء هذا المخطط الرهيب في إشعال المنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها، عبر تسليم السلطة إلى أتباع التشيّع الإيراني، وكذلك إلى جماعة الإخوان المسلمين، وما تفرخ منها من حركات دينية متطرفة.
إنّ دعم واشنطن بصفة خاصة، وعواصم الغرب بصفة عامة، إلى ما يسمى “الإسلام السياسي” إنما هو مخطط يرمي إلى النيل من العرب أولًا، الذين هم مهبط الإسلام وحملوا رايته في أصقاع الأرض. وتشويه الإسلام ثانيًا، عبر أحزاب سياسية تتخذ من الدين ستارًا أو جسرًا نحو السلطة والتسلط. فالإسلام أكبر من أن ينحصر في جماعة أو حزب أو حركة.
عندما تحدث جورج بوش الأبن، في خضم أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وأشار بكلامه إلى “الحروب الصليبية”، لم تكن زلة لسان عفوية، وإنما كشف عن حقيقة خفية لم يستطع كتمانها في صدره، وتلافيًا لهذا الكشف زار أكبر مسجد إسلامي أميركي للتورية لا أكثر، وكان أول رئيس أميركي يقوم بمثل هذه الزيارة غير المسبوقة. وكذلك ما جاء في مذكرات خلفه باراك أوباما “أرض الميعاد” 2020، من كره واضح للعرب واعجاب شديدة لإيران، إذ نقل السياسة الأميركية الخشنة التي أتبعها سلفه بوش ضد العرب إلى سياسة ناعمة أكثر فتكًا بهم على يد تمدد التشيّع الإيراني. ونشهد الآن سياسة جو بايدن، التي تسير على منوال أوباما، في تقديم المصالح الأميركية الإيرانية على المصالح العربية الأميركية، مع أن الفارق كبير بجانب العرب، وكذلك في تفضيل الليونة والمرونة مع إيران سواء في مشروعها الطائفي بالمنطقة العربية أو ما يخص مفاعلاتها النووية أو قمعها للشعوب والقوميات الثائرة ضد الظلم والطغيان.
إنّ تواصل السياسة الأميركية، خاصةً في العقدين الماضيين، في توافقها مع المشرع الإيراني الطائفي، بل ومساندتها في تمدده داخل الدول العربية، إنّما تسير ضد حركة التاريخ، إذ مهما أوتيت من قوة وجبروت في فرضه، ومهما تجاوب معها من الذين يلهثون وراء ماديات الحياة، فإنها لن تقدر أن تقلب المعادلة والحقيقة التاريخية في النسبة التكوينية بين عموم السُّنّة الذين يشكلون السواد الأعظم من الأمة الإسلامية، وقلة الشيعة التابعين لإيران، إضافة إلى أن التشيّع الإيراني يرفضه البعض من العرب الشيعة.
وعليه، فإن ما تحقق للسياسة الأميركية عبر التمدد الإيراني الطائفي من جهة، وإضعاف الأمة العربية وتوجه بعض أنظمتها السياسية للتطبيع المجاني مع العدو الصهيوني من جهة أخرى، فإن مجمل نتائجها ستبقى عائمة على سطح الأحداث لا جذور لها، وربما ستستمر في وجودها لسنوات أخرى قادمة، لكنها بحكم حركة التاريخ ومتغيراته ليس بمقدورها أن تصمد وتستمر عبر استخدام القوة والتزوير وشراء الأنفس الرخيصة، فالنظام السياسي ومخططاته شيء، وحقيقة الشعب الثابت على أرضه شيء آخر. كما أن هذا القول ليس تنظيرًا دراسيًا خالصًا، بل حقيقة أيضًا من بين الحقائق التي تؤكدها واقعات وأحداث التاريخ نفسه. ومثلما قرأنا في التاريخ العربي عن الصليبيين والمغول التتار والبويهيين والصفويين وغيرهم من الغزاة، سيقرأ الجيل العربي القادم ومن بعده عن هذه المرحلة الدامية والمنحطة التي عاناها، وما زال يعانيها، العراق وسوريا واليمن وغيرها من الدول العربية، فحركة التاريخ المستقبلية إنّما تتجه صوب الأبناء الأصلاء لا العملاء ولا الدخلاء.
عذراً التعليقات مغلقة