قراءة في نظرية هابرماس التواصلية.. نقد العقل واللغة والتنوير

قراءة في نظرية هابرماس التواصلية.. نقد العقل واللغة والتنوير

آخر تحديث : الأربعاء 5 يوليو 2023 - 4:57 مساءً

د. عماد الدين الجبوري

لندن

 الدين الجبوري - قريش
د. عماد الدين الجبوري

ينفرد الفيلسوف وعالم الاجتماع والسياسية المعاصر يورغن هابرماس (1929) بأهمية كبيرة في مدرسة فرانكفورت النقدية، وعلى مستوى الجيلين الأول والثاني. وهذه المدرسة تأسست عام 1923وضمت مجموعة من المفكرين والجامعيين والسياسيين الألمان، أمثال ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوزه وإيرك فروم وغيرهم من الذين شكلوا “معهد البحوث الاجتماعية”، ملحق بجامعة غوته في مدينة فرانكفورت. وبحسب رأي المدرسة، إن الأنظمة الاقتصادية – الاجتماعية المتّبعة في الرأسمالية والشيوعية والفاشية، ليست كافية في تفسيراتها للسياسات الرجعية من جهة، وغير مرنة في فلسفاتها من جهة أخرى.

ومن هنا، يحاول هابرماس أن يحافظ على الإرث الفكري الفرانكفورتي، ويطرح ما هو جديد بل ومغاير أحيانًا بغية تطوير هذا الفكر النقدي في آن. خاصة أن هابرماس يولي اهتمامًا ملحوظًا إلى مشكلة تحليل الفعل والبنيات الاجتماعية أكثر من التركيز على مشكلة حرية الإنسان، لا سيما أنه يعتقد “إن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد”. وعليه، وقف في مواجهة تيارات ما بعد الحداثة، ونزعتها التفكيكية للعقل، وباقي التيارات الفلسفية الأخرى المضادة للحداثة. وبما أن هابرماس ما زال يؤمن أن الحداثة لم تنتهي بعد، لذا فإنه يتمسك بفكرة العقل الكلي وفكرة الأخلاق الكلية، وبآن تأثره بالأخلاق الكانتية في كتابه “الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي” 1983 (طبعة إنكليزية). وفي الوقت ذاته لم يتخلى عن “جدل التنوير”، وإنما خالف به أستاذه أدورنو وكذلك هوركهايمر وماركوزه وعموم موقف الجيل الأول، الذين انتقدوا عقل التنوير، لأنه تحول إلى أداة لخدمة الإنتاج الصناعي في المجتمعات الرأسمالية، فأدى ذلك إلى اغتراب الذات عن الموضوع، وأطلقوا عليه اسم “العقل الأداتي”.

 - قريش
هابرماس

وفي كتابه “خطاب فلسفي للحداثة” 1987 (طبعة Polity)، يقول هابرماس: “إن عملية التنوير لا تنحصر في نقد العقل التنويري فقط، بل في جدلية التنوير نفسه”. وبحسب تصور هابرماس، إن هذا الجدل لا يشكل عاملًا مساعدًا في بناء نظرية نقدية متناسقة منهجيًا، بل صار عامل هدم. ويرى أيضًا، إن عملية التنوير تقوم على ركيزتين. الأولى، فكر البناء الهرمي والاستبعاد. والثانية، إمكانية إقامة مجتمع حر يشعر فيه الجميع بالسعادة في أقل تقدير. بالنسبة إلى الشطر الأخير، يراه هابرماس، إنه يميز الحداثة عن “ما بعد الحداثة” التي تفتقد إلى هذا النهج في العمل على ممارسة الحرية والسعادة والأخلاق على المستوى الاجتماعي الكلي. 

ومن أجل ذلك، سعى هابرماس إلى تبيان رؤيته النقدية القائمة على تقويم الحداثة والعقلانية من خلال تكوين معايير أخلاقية تنحصر مهمتها في ترتيب وضبط عمليات العقلنة وتحركاتها من ناحية، ويكون أساسها على اعتبارات التواصل والانفتاح على الآخر والاعتراف به من ناحية أخرى. وبذلك، أهتم هابرماس بقضايا التفاهم والتواصل إيما اهتمام، حتى أنفق ثلاثة سنوات ما بين 1984- 1987 في تأسيس “نظرية الفعل التواصلي”، التي تأخذ فيها اللغة محورًا رئيسًا بإزاحة قضايا الذات والوعي التي تدور حول مركز العقل. 

بمعنى آخر، إن اللغة هي الفاعل الرئيس في المجتمع الإنساني، وأن الفعل سلوك إنساني ناتج عن نية مسبقة، أو متصل بمفهوم ذاتي ما نحو الأخلاق والقانون والسياسة والمجتمع وفق نظرة السلوك الاتصالي. إذ يرمي هابرماس من هذه النظرية إلى تشخيص الوضع العام في العالم وفي المجتمعات الإنسانية، محاولًا تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة اليومية للبشرية، معتمدًا على توسعة إطار العقلانية والنقدية في تدمير هياكل الاتصال في خصوصياتها الإنسانية المرتبطة بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم. وما زال هابرماس مستمرًا على هذا المنوال لغاية الآن، هادفًا إلى نقل التفكير الفلسفي من صوب الذات إلى صوب التواصل الاجتماعي، واستخدام أسلوب الوفاق المعرفي “بين الذوات القادرة على الكلام والعمل”. 

وفي هذا الصدد، ينص هابرماس على أن ما نسميه “عقلانية” إنما هو الاستعداد لتلك الذوات العاقلة في البرهنة عليه، وكذلك على اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ. بمعنى، إن تحديد مفهوم العقل تجاه الوعي، فإن الوعي ليس أكثر من جانب واحد لمجمل جوانب النشاط العقلي، فأضاف هابرماس “الفعل التواصلي” ليجعل من قدرة العقل في نطاق أوسع للمعرفة ولمفهومه الجديد إلى عقلانية الحداثة في آن. كما أن هذا الفعل التواصلي يحقق التفاعل بين الجميع من خلال التواصل اللغوي الهادف إلى التفاهم المتبادل، وذلك وفق قواعد أخلاقية تحكم العملية التواصلية بحسب معايير متفق عليها، فمن خلال هذا المسلك نصل إلى العقلانية التواصلية.

أما “مفهوم العقل التواصلي” عند هابرماس، فبما أن العقل متجذر في الكلام والممارسة اللغوية بغية التفاهم، لذا يتطلب من الفلسفة أن تباشر من جديد في إنجاز مهام نسقية. وإذا تحقق ذلك، فإن العلوم الاجتماعية يمكنها الدخول في علاقة تعاونية مع الفلسفة، التي تقوم بمهمة العمل على تأسيس نظرية عقلانية. خاصة أن علم الاجتماع يساهم في هذا الاتجاه الجديد للعقلانية التواصلية، لأنه يبحث في التحولات التي تطرأ على الحياة الاجتماعية واليومية ومستجداتها الناجمة عن عمليات التحديث والعقلانية.

ويستطرد هابرماس بالقول، إن التفسيرات المعرفية والتوقعات الأخلاقية وأنواع التعبير والتقييم لا تستغني خلال التواصل اليومي بالتداخل والتفاعل من أجل الوصول إلى فهم العالم المعيش، الذي يستوجب تراثًا حضاريًا يتخلل المنظور كله، ولا يتوقف عند حدود نتائج العلوم والتقنيات. فالتواصل في الحياة اليومية يحقق التوازن من جديد بين عناصر العقل المنفصلة، وتأخذ الفلسفة دورها في تحريك التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والأخلاقية – العملية، والجمالية – التعبيرية التي كادت أن تتوقف. وبحسب رأي هابرماس، إن المشكلة العويصة هي في كيفية التمكن من التغلب على عزلة الثقافة العلمية والأخلاقية والفنية، وكذلك في كيفية التمكن من ربطها بالعالم المعيش، إضافة إلى كيفية إنجاز كل ذلك من غير انتقاص من عقلانية العلم والأخلاق والفن. الجواب عند هابرماس، الفلسفة هي الوحيدة بمقدورها تحقيق ذلك، لأنها لا تأخذ بالممارسات العادية كما في رتابة الحياة اليومية، وإنما تحفز للوصول إلى مبرراتها العقلية وأسبابها الحقيقية، خاصة فيه أسباب وراء أفعال التواصل بما يتعلق بين الناس أو بين العلوم كافة.

أما الشروط التي بموجبها يمكن تحقيق التجربة التواصلية بشكل إيجابي ومنتظم بين المشاركين في التفاعل والنشاط التواصلي، فذلك يكون من خلال الحوار أو المناقشة التي تدور بين مختلف الذوات الفاعلة. كما أن النظرية لا تخص الحوار الذاتي للفرد الفاعل، بل حوار بين ذاتين متفاعلتين في أقل تقدير. ومن بين أهم هذه الشروط نذكر منها:

إنّ عملية التواصل تتحقق بواسطة اللغة التي يتم من خلالها علاقة المتشاركين في التفاعل وبين العالم الخارجي، وبينهم وبين الذوات الأخرى. فاللغة هي الوسيط الرئيس في النشاط التواصلي، وعن طريقها يتم الوصول إلى نوع من التفاهم بتوظيف الجمل والعبارات والتعبيرات، التي يتلفظ بها أعضاء الجماعة المشاركة في التواصل المتحدثين أو المستمعين على حدٍ سواء.

إن هدف التجربة التواصلية لتحقيق اتفاق بين الذوات المشاركة في التفاعل، ويفترض هذا الاتفاق وجود معرفة مشتركة بينهم، أو نوع من التقارب في وجهات النظر، ويكون الاعتراف المتبادل على مزاعم الصدق بغية الوصول إلى إجماع.

إذا أحد المشاركين في التواصل شك في الدقة المعيارية لتعبير ما، أو لم يستطع المشاركون في التواصل بالدفاع عنه بالحجج العقلية، فإن مزاعم الصدق نفسها تصبح موضع سؤال، وقد يختل التواصل ويتوقف، وهنا لا بد للمشاركين من إعادة فحص تلك المزاعم من جديد، ومراجعتها بشكل نقدي لتصحيح أخطائها، وهذا يعني أن العملية التواصلية تخضع لما يسمى بديموقراطية الحوار.

صفوة القول، إن مفهوم الفعل التواصلي يفترض اللغة بوصفها الوسط الذي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم، ومن خلاله يستطيع المشاركون في التفاعل أن يثيروا مزاعم الصدق التي يمكن الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها.

وهكذا يطرح هابرماس مفهومه الجديد في هذه النظرية كونها “علاقة داخلية بين الممارسة وبين العقلانية، وتدرس المتضمنات العقلية التي تفترضها ممارسة تواصلية يومية، وتتيح للمضمون المعياري المرتبط بالفاعلية الموجهة نحو الفهم المتبادل للتوصل إلى مفهوم عقلانية تواصلية”.

وبما أن هابرماس مادي الفكر، لذا عند تحليله إلى الفعل في صورتيه، أحدهما، الفعل الموسع الذي يتضمن الفعل الغائي العقلاني. أما الآخر، الفعل التواصلي الذي يهدف للوصول إلى الفهم، والذي يترتب عليه عقلاني وأخلاقي. الأول، الموجود في لغتنا ذاتها، وليست بمعناها المثالي السماوي، ولا باستخدام افتراضات وجودية خارقة للطبيعة، كما أن هذا العقلانية تستلزم نسقًا اجتماعيًا ديموقراطيًا لا يستبعد أحدًا قط. والثاني، لا يوجه نحو تحليل مضمون المعايير بقد ما يوجه إلى طريقة التوصل إليها، وذلك من خلال الحوار الحر العقلاني.

نقد

بالقدر الذي يتصف هابرماس أحد أكبر المدافعين عن مشروع الحداثة، وتصدى للمناهضين لها، ونافح عن قيمة وأهمية العقل، لكن في “نظرية الفعل التواصلي”، مع إنه تأثر بأفكار كانت وماركس وغيرهما، وباللغويين أمثال جون أوستن وجون سورل، يؤخذ عليه أنه لم يتمكن من إثبات أولوية الفعل التواصلي على الفعل الموسع (الإستراتيجي). وكذلك في محاولته النقدية بالتفرقة بين النقد والحياة اليومية، إذ قوضت وضع التحرر الذي يدعيه.

ومع ذلك، فإن هابرماس سعى بنظريته إلى تأسيس أخلاق تواصلية ترتكز على مبدأ الاعتراف أو الانفتاح على الاتجاه الآخر، من دون الادعاء إن أحد الطرفين يمتلك وحده الحقيقة داخل فضاء عمومي مشترك بين الناس جميعًا.

وبالرغم من أن هابرماس امتد تأثيره من ألمانيا نحو الغرب وإلى العالم، لأن النهج العام في فكره الفلسفي يتفاعل مع حركة المجتمع والتاريخ، لكنه في نهاية المطاف إنما يعكس العقل الغربي الذي ينظر إلى محيطه الفكري والثقافي والسياسي …إلخ، وإن الحوار والديموقراطية والانفتاح على الآخر والاعتراف به، قد سبقه بول غرايس وغيره من المفكرين، وهذا ناتج عن الأوضاع الغربية ذاتها، لا سيما بعد الحرب العالميتين وما جرى في أوروبا من دمار مادي ومعاناة نفسية وتردي اقتصادي، وتداعيات ذلك على العالم بأسره. فهذه النظرية تدعو لاتجاه فكري جديد يخص الحياة الغربية أصلًا، ولم يتطرق هابرماس لأي قول أو فكرة أو رأي من خارج دائرة الغرب وتاريخه.  

وعلى نهج الماديين الغربيين، فإن تحليل الفعل عند هابرماس يبعده عن أي صلة بالعالم السماوي، فالتواصل الإنساني محصور في نطاق طبيعة هذا العالم فقط. ما يجعل نظريته لا تكترث بما يتعلق بالإيمان والأديان والعقائد الروحية، وهذه إحدى صفات المدنية الغربية المادية.  

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com