لست أنا الوحيد الذي أدعو إلى استخدام اللغة العربية في التعليم في الدول العربية وفي كلياتها وجامعاتها، حيث سبقني إلى ذلك أساتذة كبار، هم أساطين لسان الضاد في العصر الحديث، وهنا يراودني اسم لعلامة من كبار علماء العربية هو الدكتور أميل يعقوب
د. ليون برخو
هناك ولع غير عادي ورغبة جامحة تفتقر إلى المنطق عند تعلق الأمر بتدريس العلوم والرياضيات في أغلب الدول العربية أساسها العزوف عن اللغة الأم ـ العربية ـ والاتكاء على لغات أجنبية وعلى الخصوص الإنجليزية وبقدر أقل الفرنسية. وما يثير الدهشة، وبالنسبة لي الصدمة الشديدة، هو التباهي بتلقي العلوم والرياضيات باللغة الأجنبية.
في تجوالي في بعض الدول العربية وحين وجودي في جامعاتها أستاذا زائرا ينتابني حزن شديد مشوب بخشية على مستقبل هذه الدول. لماذا الخشية؟ لأن أغلب المؤشرات تدل، استنادا إلى الأبحاث العلمية، أن تلقي العلوم بغير اللغة الأم أمر غير محبب وله عواقب غير حميدة على مستقبل المتلقين أفرادا ومجتمعات.
وهناك شعوب ودول في البسيطة لا يتجاوز عدد سكانها أحيانا مئات الآلاف أو بضعة من الملايين قد أدركت خطورة تلقي العلوم والرياضيات والمعارف الأساسية الأخرى باللغة الأجنبية وهي اليوم، ورغم تطورها الفائق، تدرس شتى العلوم ومنها الهندسية والطبية بلغاتها الوطنية.
وقد عرجت على بعض هذه الدول بعجالة ولكنني هنا أقول ليس هناك دولة في أوروبا والغرب بمجمله يتلقي فيها الطلاب علومهم بغير لغاتهم الوطنية، ومنها الدول الواقعة في شمال أوروبا والتي تعد من أكثر دول العالم تطورا ورقيا وتمدنا.في دول مثل فنلندا والنرويج والسويد والدانمارك وغيرها، الدراسة فيها بشتى مراحلها تتكئ على اللغة الوطنية. كيف لدول مثل هذه أن تحافظ على مكانتها العلمية والتكنولوجية فائقة التطور والتدريس فيها باللغات الوطنية؟
شرحنا ذلك ببعض الإسهاب وقلنا إن هذه الدول فيها حركة ترجمة نشطة وأن ما يترجم إلى الفنلندية في عام واحد مثلا ربما يوازي ما يترجم إلى العربية في عقد أو أكثر، والفنلنديون لا يتجاوز تعدادهم 5.5 مليون نسمة بينما العرب تعدادهم 500 مليون نسمة.
وحتى في غياب حركة ترجمة نشطة في الدول العربية ـ وهذا بالطبع ظاهرة سلبية للغاية ـ فإن التجربة تظهر بالدليل القاطع أن العرب الذين تلقوا علومهم بلغتهم الوطنية من علماء وأطباء ومهندسين وغيرهم من المختصين في شتى حقول المعرفة لهم من الباع، من حيث النظرية والممارسة، أكثر من أقرانهم الذين تلقوا علومهم بلغة أجنبية. ولنا في اللاجئين السوريين الذي قدموا إلى الدول الغربية أسوة حسنة، حيث سورية هي البلد العربي الوحيد الذي فيها تدريس العلوم في شتى المراحل هو باللغة العربية.
لا حاجة أن أتحدث عن المكانة الراقية التي حققها مثلا الأطباء من اللاجئين السوريين الذين تلقوا كل علومهم باللغة العربية في بلدهم سورية. فهنا في السويد يتبوأ أصحاب الشهادات من السوريين مناصب رفيعة، أما في المستشفى الحكومي في مدينتنا ـ ينشوبنك ـ فللأطباء السوريين مكانة بارزة ويتقدمون الصفوف.
ولست أنا الوحيد الذي أدعو إلى استخدام اللغة العربية في التعليم في الدول العربية وفي كلياتها وجامعاتها، حيث سبقني إلى ذلك أساتذة كبار، هم أساطين لسان الضاد في العصر الحديث، وهنا يراودني اسم لعلامة من كبار علماء العربية ألا وهو الدكتور أميل يعقوب الذي كرس حياته لخدمة لسان الضاد وعصرنة وتحديث صرفه ونحوه وقواعده.
في حديث هاتفي مطول حول خطورة بقاء تدريس العلوم والرياضيات في الأمصار العربية، قال: “أعتبر أن تدريس العلوم والرياضيات باللغة الأجنبية استعمار ثقافي له أضرار بالغة على الصعيد اللغوي والتربوي والنفسي والاقتصادي والقومي والتراثي… وقد فصلت هذه الأضرار في عدد من كتبي وحبذا لو يتاح لي أن أناظر من يخالف رأيي في هذه المسألة”.
كلغوي وباحث في العلوم الاجتماعية، أضم صوتي إلى صوت العلامة يعقوب. وأشرح أكثر وأقول إن كان لنا أن ندرس السياق والأسباب التي تقف خلف تباطؤ الاقتصاد والتنمية والتطور والنمو في الحقول المعرفية والصناعية والعلمية والتكنولوجية في الدول العربية، فإن تدريس العلوم بلغة أجنبية لا بد أن يكون واحدا منها.
طغيان تدريس العلوم والرياضيات والهندسة والطب وغيرها من المعارف بلغة أجنبية، وعلى الخصوص في الجامعات، له أثر سلبي بالغ في توطين هذه المدارك، ومن ثم ندرة الاستفادة العملية منها. ولهذا إن نشر عالم عربي بحثا علميا، فإن لغة النشر في الغالب ستكون لغة أجنبية “الإنجليزية مثلا”. وإن كان البحث يشق طريقا جديدا في الصناعة أو الزراعة أو الطب أو التكنولوجيا الحديثة، فإن المستفيد الأول وربما الأخير ستكون الشركات الأجنبية التي ستتلقفه.
ولا أظن هناك وحدات للترجمة لدى الشركات العربية، كما هو الشأن لدى الشركات في الصين أو الدول المتطورة الأخرى التي تتلقف الأبحاث مثل هذه وتترجمها فورا لكي تصبح في متناول المختصين الذين يعملون في مراكز البحث والتطوير، التي صارت عماد الشركات في الغرب والدول الصناعية الأخرى.
الاقتصادية
عذراً التعليقات مغلقة