د. فارس الخطاب
أصبح العراق بلداً شبه مستباح بعد العدوان الثلاثيني الذي تعرض له في 17 كانون الثاني 1991م ثم بات مستباحاً بالكامل منذ احتلاله أمريكياً عام 2003م ، ولعل جميع المراقبين يتفقون على أن جارة العراق اللدودة ، إيران ، هي أكثر الدول والقوى التي تمددت في العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه حتى باتت مقدرات هذا البلد بيد الإدارة القائمة في طهران بشقيها الرسمي و”الثوري” ، ثم يأتي بعد الوجود الإيراني المؤكد الحضور ، التمدد الخطير لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK) في ظل غياب كامل ، ولا أقول شبه كامل للقوات الحكومية المركزية ، ورفض من قبل إدارة كردستان العراق بشقها الديمقراطي الكردستاني وموافقة غير معلنة لشقها الثاني (الاتحاد الكردستاني) ، وتحالفات لقوى مليشياوية مرتبطة بإيران يهمها جداً إشغال تركيا وقيادة كردستان العراق على حدٍ سواء.
الجميع يعلم أن حزب العمال الكردستاني وسّع من خارطة انتشاره بشكل مدروس ومريح داخل الأراضي العراقية رغم جهود تركيا العسكرية، وبخاصة الجوية منها، لملاحقة فصائله واستهداف مقراته، وهو أمر قد لا يجدي نفعاً بشكل حاسم إن لم يرافقه تمّكن على الأرض التي يتمدد عليها الـ PKK بشكل مستمر، وقد تواجد مقاتلو الـ PKK بشكل علني وبعناوين متعددة في مناطق عديدة من كردستان العراق ومحافظتي كركوك ونينوى، ورغم الشراكة الاستخباراتية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وتركيا ، والتي أدت إلى نجاح العمليات الجوية النوعية للضربات الجوية ، وخاصة بمسيرات بيرقدار التركية التي قضت فيها على عناصر قيادية كثيرة من الحزب، إلا أن ذلك لم ينعكس فعلاً على واقع الانتشار الخاص بمقاتليه على أراضي كردستان، ولا على خطورة هذا الحزب داخل الأراضي التركية.
حزب العمال الكردستاني وسّع من خارطة انتشاره بشكل مدروس ومريح داخل الأراضي العراقية رغم جهود تركيا العسكرية، وبخاصة الجوية منها، لملاحقة فصائله واستهداف مقراته
تخشى إدارة كردستان على الازدهار الاقتصادي الذي نتج عن تعاونها مع أنقرة في ملف الـ PKK والذي بلغ في عام 2020م أكثر من 12 مليار دولار مع وجود 1500 شركة تركية مستثمرة في مشاريع البنى التحتية والبناء والنقل، إضافة إلى كون تركيا هي بلد عبور لحوالي 450 ألف برميل للنفط إضافة للغاز المستخرج من المنطقة، قابل هذا الإغراء التركي ردود فعل ومتابعة من قبل حزب العمال الكردستاني الذي نفذ في محافظة دهوك عملية اغتيال بحق رئيس قوات الأمن المحلية، غازي صالح ، والقيام بعمليات إرهابية أخرى أفضت لمقتل عناصر من البيشمركة، كما استهدف لعدة مرات الأنابيب الناقلة لنفط كردستان إلى ميناء جيهان التركي خلال سنوات 2020 و 2022م ، ولم يكتف الـ PKK بعملياته ضد الديمقراطي الكردستاني في العراق، بل وسعها لتشمل الجماعات المتحالفة معه في سوريا ، كما كثف تواجده في السليمانية ليهدد الديمقراطي الكردستاني عِبر معقل الاتحاد الكردستاني التي لا يملك فيها الأول حرية الحركة لعوامل كثيرة تتبع حالة الشد والجذب القائمة بين الحزبين تاريخياً. إن المشهد العسكري الاستراتيجي في شمال العراق معقد جداً ، وهو بسبب تعرضه لمتغيرات جذرية منذ عام 2003م على وجه التحديد كان من أهم مظاهرها غياب حكومة بغداد الكامل عن دائرة الفعل، مما سمح للجميع بعمل ما يحلو له والسيطرة على ما يشاء من أراضي ومدن باعتبارها حدود جديدة لنفوذه، وعلى هذا الأساس كانت قوات “البيشمركة” الكردية لاعبا أساسيا في مناطق شمال العراق بدعم كامل من القوات الأمريكية ، فسيطرت على سبيل المثال على قضاء (سنجار) ذو الأغلبية (اليزيدية) ، ثم سرعان ما شاركها السيطرة على المناطق والمدن التابعة لمحافظة نينوى ، حزب العمال الكردي التركي ، ثم سرعان ما انسحبت قوات البيشمركة من أغلب هذه المناطق بعد فشل مسعى حكومة كردستان في إجراء الاستفتاء على الانفصال وتحرك قوات حكومة بغداد للسيطرة عليها باعتبارها مناطق متنازع عليها لم تحسم قضاياها بعد ، لكن ، بقيت بعض هذه المناطق تحت سيطرة قوى موالية للـ PKK والمليشيات العراقية الموالية لإيران ووحدات “حماية الشعب” الكردية السورية (يعتبر فرع ال PKK في سوريا) ، وإسناد أمريكي واضح !.
إن حزب العمال الكردستاني المصنف ” إرهابياً ” وسع من قاعدة عملياته ليشكل خطراً إستراتيجياً عبر سيطرته مع حلفائه، وحدات حماية الشعب ، على الحدود السورية – العراقية الممتدة من سنجار إلى عفرين وعين العرب ، بما سمح للتنظيمين من الضغط على القوات التركية وتنفيذ عمليات نوعية دفعت حكومة رجب طيب أردوغان إلى توعده الشهير بالقول “من الآن وصاعداً ، لا يوجد مكان آمن للإرهابيين ، لا قنديل ولا سنجار ولا سوريا” ، لكن في حقيقة الأمر ، ومع نجاح القوات التركية في تحقيق مكاسب هنا أو هناك في المناطق التي أشار لها الرئيس التركي ، فإن مقاتلي الـPKK والمليشيات العراقية الموالية لإيران والمؤيدة لإنشطة حزب العمال ، ما زالوا يملكون زمام الموقف على الأرض.
إن ما يقلق المراقبين والعراقيين هو تخلف حكومة بغداد عن قراءة المشهد بشكل صحيح، فهي لا تقدم لكردستان الدعم الفني والعسكري اللازم ، كون موضوع حماية الحدود ومنع الإرهابيين من التسلل إلى داخل البلاد هو من مسؤولية القوات الاتحادية ، كما أن الجهود الاستخباراتية والعملياتية مع الدول المجاورة للحد من نشاط حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية (مؤسسة من قبل حزب العمال) هو شأن حكومة بغداد بالتنسيق مع إدارة كردستان ، وإلا فإن جغرافيا العراق في خطر ومستقبل كردستان الاقتصادي والسياسي في خطر أكبر، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال توسع الأعمال الحربية للتنظيم الإرهابي ضد القوات التركية ورد هذه القوات عليها من خلال استهداف مقارها وعناصرها بضربات جوية أفضت إلى سقوط ضحايا من الأبرياء في العراق بما رفع من حالة الاستياء لدى العراقيين ضد الـ PKK من جهة ، وضد حكومة بغداد من جهة أخرى .
حزب العمال الكردستاني المصنف ” إرهابياً ” وسع من قاعدة عملياته ليشكل خطراً إستراتيجياً عبر سيطرته مع حلفائه، وحدات حماية الشعب ، على الحدود السورية – العراقية الممتدة من سنجار إلى عفرين وعين العرب ، بما سمح للتنظيمين من الضغط على القوات التركية وتنفيذ عمليات نوعية
ما يهمنا في هذا المقال أن حزب العمال الكردستاني التركي مع وحدات حماية الشعب الكردية السورية، والإثنان وجهان لعملة واحدة ، تجاوزا حدود التجاهل الحكومي العراقي، الذي تجاوز حدود اللياقة الدبلوماسية مع دولة جارة مهمة تربطنا معها مصالح اقتصادية وأمنية وسياسية تاريخية كبيرة ، تركيا ، فبدا كالنعامة التي تخفي رأسها في التراب حتى تبدو وكأنها لا تسمع ولا ترى تاركة مستقبل العراق للمجهول الخطير المتمثل بسيطرة قوى إرهابية قادمة من كل الجهات ، ولا أعلم كيف ترضى أية حكومة تكون قائمة في بغداد على تواجد هذه القوى الإرهابية في مناطق مثل سنجار بنينوى ، والتون كوبري و الدبس وليلان وقرة عنجير بمحافظة كركوك ، و مناطق عديدة في دهوك ، وأخرى في السليمانية كقضاء جمجمال، ومعظم المناطق المتنازع عليها بين إدارة كردستان وحكومة بغداد، ولا يخفى على أحد أن هذا التمدد إنما يستهدف سيادة العراق أولاً ثم مصالح تركيا الاستثمارية في هذا البلد.
إن الحلول التي يجب أن تحيط حكومة بغداد مع قوى كردستان العراق نفسها من أجل إخراج المنطقة من هذه الأوضاع الغريبة والخطيرة، هو استبدال القوة المركزية المهنية بدل قوات الحشد الشعبي وقوات البيشمركة في المناطق المتنازع عليها ، مع عقد إتفاقيات ملزمة بجدول زمني وتنسيق فني عالي المستوى مع تركيا لضبط الحدود والسيطرة على حركة الإرهابيين من خلالها ، والأهم وضع حد لتدخلات الولايات المتحدة في مقدرات المنطقة تماشياً مع مصالحها الخاصة بالنفوذ على حساب سيادة العراق وأمنه ، ثم إعادة الثقة لشعب العراق في هذه المناطق من خلال إعادة المهجرين والبدء بإعادة إعمار مناطقهم بشكل يرد لهم اعتبارهم الإنساني والوطني.
عذراً التعليقات مغلقة