د. فارس الخطاب
منذ نهاية عام 2017م وتحديداً في شهر ديسمبر/ كانون الأول
أعلنت الحكومة العراقية انتصارها على تنظيم “داعش” الإرهابي؛ ما يعني إنتهاء صفحة القتال، وبداية صفحات الإعمار للمناطق التي حولتها القوات الحكومية والمليشيات إضافة إلى قوات التحالف الدولي، إلى رُكام، لكن بعض هذه الصفحات أُريد لها ألا تكتمل، تماماً كما أُريد لخطر عودة تنظيم “داعش” الإرهابي أن لا ينتهي.
مالم يكتمل؛ مناطق عديدة في الموصل وبيجي وما بين محافظتي صلاح الدين ونينوى ما زالت عبارة عن أنقاض تضم في مواضع كثيرة جثث مدنيين لم تبذل جهود حقيقية لإخراجها، كما يعاني أكثر من مليون شخص من معاناة الإيواء في معسكرات النزوح والمهجرينالذين أجبروا على ترك مساكنهم هروباً من جرائم التنظيم الإرهابي أو من بطش العمليات العسكرية البرية والجوية خلال الحرب مع هذا التنظيم، دون أن يتمكنوا من استصحاب مستمسكاتهم الأصولية ومقتنياتهم المالية.
عرفت منظمة الاسكوا الأممية النزوح أنه “يشير إلى الانتقال القسري ﻟﻸﻓﺭﺍﺩ من مناطقهم أو بيئتهم وأنشطتهم المهنية، وهو شكل من أشكال التغيير الاجتماعي الناجم عن عدد من العوامل، وأكثرها شيوعا هو الصراع المسلح. وقد تكون الكوارث الطبيعية والمجاعات والتغيرات التنموية والاقتصادية من أسباب النزوح.” ووفق هذا التعريف يقول مسؤولو الإغاثة ومديرو المخيمات في العراق أن آلاف العراقيين الذين نزحوا منذ سنوات بسبب القتال ضد ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ما زالوا يعيشون في مخيمات لم تكن مصممة لتكون مستقر لهم لسنوات عديدة؛ كأن يتم نصب الخيام على أراضٍ لم تحسب فيها حسابات الأمطار والأحوال الجوية، ناهيك عن مادة هذه الخيام التي تشكل الأقمشة والمواد البلاستيكية القابلة للاشتعال والتي لا تحجز البرد أو الحر، بل ربما تزيد من وطأتها.
من جهة أخرى ووفقاً للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة التي إعتبرت النزوح السكاني في العراق، نزوحاً داخلياً ، يقصد به حسب الأمم المتحدة “الأشخاص النازحين داخلياً “الأشـخاص أو مجموعـات الأشخاص الذيـن اضطـروا أو أجبـروا علـى الفـرار أو علـى تـرك منازلهـم أو أماكـن إقامتهـم المعتـادة، لا سـيما نتيجـة أو سـعياً لتفـادي آثـار صراع مسـلح، أو حالات عنـف عـام أو انتهـاكات حقـوق الإنسـان أو الكـوارث الطبيعيـة أو تلك التـي هي مـن صنـع الإنسان، والذيـن لـم يعبـروا حـدوداً دولية معترفاً بها من حدود الدولة”. وعلى هذا يخول لهم هذا التعريف بحكم بقائهم في بلدانهم التمتع بكافة الحقوق والضمانات باعتبارهم مواطنين ومقيمين بصورة اعتيادية في بلادهم. وعلى هذا النحو، تتحمل السلطات الوطنية المسؤولية الرئيسية لمنع النزوح القسري وحماية النازحين داخلياً.
ترى هل تحملت السلطات في العراق بموجب واجباتها تجاه مواطنيها مسؤولية منع إجبار الناس وفي مناطق محددة على ترك مناطقهم ثم حشرهم في مخيمات غير صالحة للسكنى وحرمان ساكنيها من حق الحصول على مستمسكاته الوطنية كشهادة الميلاد والبطاقة التموينية بما أربك بناء الأسر وضيع حقوق تمكنت قوى ومليشيات من استغلالها أو مصادرتها كما حصل في جرف الصخر ومناطق في محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى، ورغم تراجع أسباب إجبار هؤلاء الناس على النزوح كإعلان النصر على تنظيم “داعش” الإرهابي منذ ستة سنوات ، وتحقق مستويات متقدمة من الأمن في المناطق التي نزح منها سكانها ، وإن بات الأمر الآن محصوراً في مخيمات إقليم كردستان العراق حيث يتواجد قرابة مليون نازح 230 ألف منهم يعيشون فعلياً داخل هذه المخيمات فيما لم يحتمل البقية ظروف المعيشة في هذه المخيمات فالتجئوا للعيش مع أقاربهم هنا أو هناك وفي ظروف معاشية وإنسانية بالغة الصعوبة ، مع إستبعاد مركز تنسيق الأزمات بوزارة داخلية الإقليم إغلاق مخيمات النازحين بسبب عدم توافر بيئة “إقتصادية” مناسبة في المناطق المحررة.
لابد من الإقرار أن هناك دولتان في العراق من الناحية التنفيذية، دولة رسمية أقرت باسم رئاسة مجلس الوزراء في آذار 2021م خطة وطنية لإعادة النازحين إلى مدنهم التي نزحوا منها وتهيئة البنى التحتية لهذه المدن بشكل كامل مع برامج وأنشطة تنفيذية متعلقة بالجوانب الأمنية والسياسية والمصالحة الوطنية والتأهيل والتنمية المجتمعية.الدولة العميقة وهي الدولة الثانية في العراق والأكثر تأثيراً علىالأرض، لم تعطي موافقتها لعودة سكان مناطق عديدة إلى مناطقهم خاصةً في ديالى وصلاح الدين، وطبعاً جرف الصخر، وما زال الكثير من هؤلاء السكان يخشون من بطش مليشيات الدولة العميقة هذه التي تهدد من جهة أو تمنع فعلياً من جهة أخرى إضافة إلى مجموعة معوقات أخرى كالتحديات الأمنية والعشائرية والاجتماعية والاقتصادية والخدمية، والجميع يعلم حجم السيطرة الفعلية للمليشيات على الأرض وقدرتها على الفعل المعطل لإي قرار حكومي (إن كان هناك قرار) لا يتناسب ومشروع التغيير الديمغرافي المطلوب إيرانياً في عموم العراق.
الحكومة العراقية قدرت ان إعادة النازحين بشكل “إنساني وحضاري” يكلف الدولة عشرات المليارات من الدولارات، وهي لا تملك هذه المليارات لذا خصصت 25 مليون دولار لصندوق أسسته على هذا الأساس كمرحلة أولى، ثم جمع المتبقي من خلال مؤتمر للدول المانحة حتى يتم غلق هذا الملف نهائياً، لكن عدم توافر الإمكانات المالية لا يبرر أبداً الغياب الحكومي في مجال الخدمات داخل مخيمات النزوح وخاصةً فيما يتعلق بالمساعدات الغذائية وتوفير الأدوية في المراكز الصحية وغيرها.
مشكلة النازحين بلسان رئيس الجمهورية العراقي خلال اجتماعه مع مساعد الأمين العام للأمم المتحدة عبد الله الدردري، ” أن ما يقرب من 600 ألف نازح يعيشون أوضاعاً بالغة الصعوبة في العراق، ولم يُقدم لهم شيء على أرض الواقع”. تُرى هل من المناسب أن تتحدث دولة نفطية بلسان رئيسها عن مشكلة 600 ألف نازح وتطلب دعم أممي لـ “تسويفها” من خلال برامج رعاية لتجعل العيش داخل المخيمات ممكناً وليس لإغلاق هذه المخيمات نهائياً وإعادة ساكنيها إلى مدنهم معززين مكرمين كونهم اكثر الفئات المتضررة من التنظيمات الإرهابية أو بسبب العمليات العسكرية التي استخدمت أسلوب “الأرض المحروقة” لهزيمة “داعش”، ولم تكن هذه الأرض المحروقة سوى بيوتهم وحاراتهم وأماكن عملهم ودراستهم.
إن خارطة العراق التي تريد القوى الموالية لإيران، تغييرها وفق مصالح ومشاريع تم الإعداد لها بدقة وبمشاركة دولية ترى في المشروع الإيراني خدمة إستراتيجية وايدلوجية بالغة التأثير والأهمية، ويكون في رأس أولوياته تحويل العراق إلى بلد مهلهل ضعيف قائم على التقسيم السياسي والطائفي والقومي ، ولتجاوز مشكلة معسكرات النزوح لابد من مراعاة بعض الملاحظات التي تتقاسم فيه المسؤولية كل من الحكومة الإتحادية وحكومة إقليم كردستان منها التنسيق بين الحومتين لإغلاق ما تبقى من معسكرات نزوح على أرض الإقليم ، توفير بيئة آمنة للانتقال والعيش في المناطق المحررة وهذا لا يكون إلا من خلال سيطرة قوات الجيش الاتحادي وسحب قوات الحشد الشعبي من جميع المناطق التي يتواجد فيها الآن ، هذا الإجراء سيضمن توفير الأمن الذي سيمهد بدوره لإعادة الإعمار بشكل مستريح ، ثم متابعة ملفات الفساد التي تستثمر في مشاريع إعادة الإعمار بشراهة .
تبقى قضية جرف الصخر ومناطق من ديالى وصلاح الدين ونينوى من أعقد قضايا النزوح في العراق، أولاً كونه نزوحاً قسرياً، ثم لشدة تمسك الأطراف الموالية لإيران بها ، ولإن حجة هذه الأطراف هي مخاوف من عودة تنظيم “داعش” الإرهابي فإن هذه المخاوف من المطاطية ما يجعلها بلا حدود زمنية لمناطق محددة، ويستدل على ذلك من خلال تصريح المسؤول الأمني لكتائب حزب الله العراقي، أبو علي العسكري ، الذي يقول فيه ” إن عودة من وصفهم بـ”الإرهابيين” إلى أي منطقة من مناطق البلاد ومنها العوجه، تكريت، آمرلي، بلد، أبو غريب، جرف الصخر، الكرمة، مناطق البو نمر، الجغايفة، سنجار، ومثيلاتها، هي حلم عودة إبليس إلى الجنة”.
عذراً التعليقات مغلقة