د. عماد الدين الجبوري
نشرت مجلة فورن بولسي (Foreign Policy) الأميركية مقالًا للمدير الإداري في شركة الاستشارات الديناميكية الأميركية ريتشارد أبو العافية، يخص السوق العالمي للطائرات المقاتلة، ويؤكد على دخوله عصر تعدد الأقطاب، وأن الولايات المتحدة بحاجة لرؤية شمولية جديدة لمواجهة اتجاهًا عالميًا برز حاليًا في العودة إلى التصنيع الوطني للطائرات، ما يؤدي إلى فقدان أميركا هيمنتها القديمة على هذه السوق. ويشير ريتشارد، وفق هذا السياق العالمي، أن تكون الأولوية في تطوير طائرات أكثر قدرة وتخصصًا بدلًا من الطائرات الموجهة للتصدير، بحيث يمكن أن يكون جيشها مجهزًا بشكل أفضل من صعود القوى العظمى مثل الصين، وإلا فإنّ النتيجة غير المقصودة لهذه السياسة ستكون تضاؤل الوجود في سوق التصدير للمقاتلات.
وبحسب رأي الكاتب، أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل حقيقة أن سوق المقاتلات يتغير، مع رغبة بقية العالم في الحصول على جزء من العمل، وستتقلص حصة الصناعة الأميركية في السوق بالتدريج، إلا إذا استخدمت واشنطن دورها القيادي التقليدي وعلاقتها في سوق تصدير الأسلحة العالمي. إذ سيمكنها، في أقل تقدير، من البناء على تلك العلاقات والاحتفاظ بزمام القيادة في التقنيات، التي تشغل الطائرات المقاتلة في العالم. وعلى سبيل المثال، إنّ بيع المحركات الأميركية للعالم ليس مربحًا لأميركا كما في بيع الطائرات المقاتلة بأكملها، لكنه ما زال مربحًا وأفضل من خسارة الأعمال تمامًا.
ويشير التقرير إلى مجمل الأسباب التي أدت إلى انهيار البرامج داخل أميركا ومنها، تقلص ميزانيات الدفاع بعد الحرب الباردة، تقلص سوق المقاتلات، تحرر الاقتصادات، انخفاض الحواجز التجارية، وتغير السياسة الصناعية. وخلال هذه الفترة قامت الولايات المتحدة بعمل كبير في بيع الطائرات الجاهزة، وسيطرت طائرات “إف 16” ثم “إف 35” على السوق، ولكن دخول منافسين جدد لن تكون الصناعة الأميركية كافية مستقبلًا. ومن بين هذا الاتجاه الجديد لتصنيع الدول مقاتلاتها الخاصة، التعاون بين اليابان والمملكة المتحدة للمشاركة في تطوير طائرة جديدة سيتم بناؤها في كلّا البلدين، ابتداءً من أواخر عام 2030، ونتيجة لذلك، ستتوقف لندن وطوكيو من شراء طائرات “إف 35″، إضافة إلى كوريا الجنوبية، التي تنتج وتطور طائراتها الوطنية ومنها “إف-21″، وكذلك تركيا ومقاتلتها “كان تي إف”، وعادت تايوان إلى اللعبة أيضًا مع طائرة التدريب “تشينغ كو” الجديدة، وانتاج مهاجمة خفيفة ومقاتلة من الجيل التالي. ومن الدول العربية، الإمارات الطامحة لتصنيع طائرتها الخاصة، والسعودية التي تهدف إلى توطين 50 في المئة من مشتريات الدفاع الوطني بحلول عام 2030، وربما ترغب بالانضمام إلى مشروع المقاتلات البريطانية اليابانية.
وكذلك يرى الكاتب، هناك أسباب أخرى توجب تجديد التركيز على القدرات الدفاعية، فمن تزايد التوترات في آسيا وفي شرق أوروبا، ارتفعت ميزانيات الدفاع. وفي الوقت نفسه، تقوم البلدان المنتجة الناشئة بتعليم المزيد من المهندسين والموظفين التقنيين، وعلى النقيض من ذلك، فإنّ البلدان المنتجة القديمة تواجه ارتفاع تكاليف العمالة وقلة المعروض من العمال التقنيين. ومع تزايد تشظي صناعة الطائرات المقاتلة، فمن المرجح أن تفقد واشنطن هيمنتها التاريخية على السوق، ولذا يدعو الكاتب الشركات والمسؤولين الأميركيين إلى أن يكونوا أكثر مبادرة في التنافس مع المنتجين الأوروبيين لتوفير التقنيات والأنظمة لبرامج المقاتلات في البلدان الأخرى، ويطرح نموذجًا للمستقبل، وذلك من خلال استخدام بيع محرك جنرال إلكتريك للهند.
وعلى الرغم من أن التقرير استقصائي، لكن فيه نبرة تنبيه وتحذير من تداعي الهيمنة الأميركية على جانب تسويقي عالمي، وبنظرة عامة، وفق تصوري، فإنّ فقدان الهيمنة العالمية في هذا الجانب أو في جوانب أخرى، إنّما تعود لأسباب جوهرية ارتكبتها مجمل السياسات الأميركية على التوالي، كما أن عملية تفادي هذا التراجع العالمي ليس بمقدور الولايات المتحدة، زعيمة الرأسمالية الغربية، أن ترمم أخطاءها أو تعالج تداعيات ترديها، وإلا ما انفقت في غضون سنة أكثر من 200 مليار دولار في حرب أوكرانيا لأهداف سياسية أقرب إلى المقامرة، بينما شعبها تزداد فيه نسبة البطالة والمشردين، وينتشر في معظم الولايات تفشي المخدرات، وكثرة السرقات العلنية من المراكز التجارية وفي وضح النهار، والاستمرار بنهج سياسة الحروب بالوكالة، وعدم الاتعاظ من تجارب الماضي القريب في خوض الحروب المباشرة، التي فشلت في تحقيق أهدافها، وحطت من هيبة الجيش الأميركي، في العراق وأفغانستان مثالًا.
إنّ هذه الأسباب وغيرها، تدل على أن حركة التاريخ الحتمية لا يمكن أن توقفها أية قوة بشرية، إنّها طبيعة التاريخ نفسه، وأن شمس القطب الواحد الأميركي لا محال أفل للغروب، وتعدد القطبية في العالم آخذ بالتشكيل والصعود، إذ يرنو إلى استقرار عالمي حقيقي غير خاضع لهيمنة سلبية أميركية-غربية، وعلى هذا النحو فإنّ المستقبل يتجه نحو الشرق العالمي الجديد، والذي يمتد من روسيا إلى الصين، مدعومًا من بعض الدول المهمة في قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، من أندونسيا إلى البرازيل.
عذراً التعليقات مغلقة