قصة قصيرة
أحلام تائهة
الدكتور: عزيز القاديلي
ذلك الحنين إلى شيء ما كم يبدو الآن ساذجا و لا معقولا.. كم يبدو الآن متلاشيا وسط هذه الشوارع المضببة و المختلطة..حيثما سرحت رجلاك في خطواتهما التائهة، تدلفان بك وسط طوابير من البشر المملين..تنزلقان بك داخل كثافة غير مستحبة..أ هي الشرنقة الطريق الوحيد المتبقي للخلاص؟ كذلك يأتي السؤال فيما وراء كلام الجدة الذي يقلق و لا يفيد..تقول من وراء تعبها و تعب السنين التي تحملها على كثفها: ” قم يا بني و توضأ ثم صلي..و ادع الله أن يعينك..”. هكذا يأتي صوت الجدة واضحا واثقا مبينا طريق الخلاص… لكن عوضا أن أكون ما تتمناه، أجدني بشكل ما أتيه في الشوارع مبتعدا عن صوتها..هاربا من كلامها…
و إذ ألتقي مصطفى..يحييني بكلامه المنهوك ، يتطلع إلي بنظرات كابية يشع من منها العجز الذي لا أوان له..نجلس إلى طاولة في مقهى نستهلك زمنا هو الآخر يستهلكنا..نتكلم كلاما تعب منا قبل أن نتعب منه، و إذ لا نجد ما نقول نضحك على الرغم منا. حولنا، تحوم الحياة ببلادتها و مرارتها، هي شيء يلزمك التوافق معه كيفما كانت قساوتها، كيفما كانت لحظتها الفاجعية. والقهوة التي نرتشفها، لا نتذوق منها سوى مللنا من الأشياء و من أنفسنا، نرى عبرها سأمنا من هذه الحياة التي أنجبت منا صعاليك لا تستكين إلى شيء.
و في لا تناهي الصخب الذي يحيط بي أتمدد كما لو أن جسدي مادة خارجية لا تنتمي إلي بقدر لا انتمائي إلى هذا العالم. أود لو أن النوم يأخذني بعيدا بعيدا، و ينومني في نومه النائم، لكنه ممتنع و رافض، يلفظني و لا يقبل بي، و إذ يأخذني فلكي لا يسلمني إلى الهدوء الذي أتمناه أو السكينة التي أحلم بها، بل يدخلني عالما مليئا بالكوابيس، حيث تبدو أمامي شخوص عصية على الفهم، يختلط علي الصديق من العدو، فيستحيل آنذاك التواصل و تتضبب الرؤية،فتتراآى أمامي أفعالي و سلوكاتي بقاتمها الباعثة على التوتر، فأود حينذاك لو أنني أنتهي.. فلا أنتهي.. لتتواصل سلسلة أخرى من الكوابيس المتواصلة المرهقة و المفزعة التي ترافقني لحظة بعد أخرى، زمنا بعد آخر، و مفروض علي أن أظل واحدا من بقية تتسلى على هامش كل شيء.
و إذ ينتهي الكلام الذي ما بدأ، أنهض حاملا معي سأمي و سأم الآخرين..كم لحظة فكرت في أن أجري باتجاه طريق لا نهاية لها، طريق تتشابك بداخلها المتاهات. لكن و تحت العتمة التي تلف الأزقة الضيقة يعود وجه الجدة المحبوب للظهور موقظا بداخلي بؤسي السري و اللا مفهوم. كم تتناقض في جوفي الأحاسيس اتجاه هذه المرأة التي كنت أستريح إلى كلامها يوم كان العالم رقصانا في ذهني، كم كنت أجد عذوبة الوجود إذ أجلس بالقرب منها لأستمتع بحكاياتها العذبة عن عوالم سحرية تجذبك نحوها ببريقها المفزع و المثير للخوف، و مع ذلك تستكين إليه و يعز عليك مفارقته.
و خارج خرائط البؤس، كنت أقتنص لحيظات من الانشراح حينما تجمعني و سارة أمسيات من التواصل، لحظتها يتغير كل شيء، و يصير العالم أشواقا متطايرة، أشواقا متراقصة بلا حدود. في الطريق التي تجمعنا، في الطريق التي توحدنا، ينزلق الكلام بلا تعب، بلا إنهاك. ذلك الكلام الذي وحده يتكلم…كلامي يكلم كلامها، وكلامها يتراقص داخل كلامي، وحده الكلام يبدو سيدا، بعيدا عن الشطح، بعيدا عن كل بعد. لحظتها كنت أتساءل مع نفسي:كم سارة يلزمني حتى يصير ما هو صائر؟ و كيف ينهزم بؤسي عند عتبة أبوابها الزاهية، وكم أكون مخمورا، منتشيا بها. عيناها نيازك حامية حين تستقران عليك، ولهما جاذبيتهما المنفلتة الآتية من مكان خفي، سري، حاولت عبثا و دون جدوى تحديد مكان هذا الانجذاب عساني أسيطر عليه و أسيطر على الأجنحة التي تركبني لتأخذني من دوني. لكن كانت محاولاتي تمنى بخيبة لست آسف عليها.
ما كان يقلقني و لا يزال هو اختلاط الحضور و الغياب، فلا أدري هل كنت حاضرا أم غائبا. و ما لا أحبه لحظة وجودنا معا هو أن تسألني عن اليائسين فأعرف أنها تستخبرني أحوال صديقي مصطفى الذي تقاذفته أمواج القلق نحو قارة الشعور باللا جدوى و اللاشيء. و عبثا تقول الكلام الذي لا تجد كلاما غيره، إذ تنصحني بأن أواسيه، فيشتعل غضبي أمامها: من يواسي من؟…وكيف تريدين أن أمنح الآخر ما أفتقد إليه؟ وبغتة تفاجئنا السماء بمطرها الربيعي، فتجرني من يدي نحو مكان يحمينا من البلل، فأعاند حركتها صارخا : دعينا نغتسل عسى ركام البؤس الذي يضغط علينا بثقله يزول فتعود إلى قلوبنا العافية. ثم أقول: كم أحب البراكين و الزلازل و كل الصواعق التي تهز الاطمئنان و تذيب السكينة. لكنها تسكتني إذ ترد: كم أنت سوداوي. عليك أن تعرف كيف تتعايش مع الجحيم عوض أن تحترق به. فأصمت و أصمت محاولا طرد الهواجس التي تبدأ في استيطاني شيئا فشيئا، وأترك النظر في وجهها مرسلا بصري نحو السماء لأرى الرعد و أسمع البرق، فلا أحس إلا بدموع لا مرئية تنزلق عاكسة اللمعان الصاعد من بلا ط الشارع المغسول بأمطار السماء.
في زمن آخر حيث تملؤه الشمس بدفئها، و إذ نجلس في مقهى ينفتح على البحر، يستغرقني منظر الأمواج المتصادمة، فأجدني أتيه فيها، تاركا إياي أتقاذف وسط تشابكات الأمواج ، فأشعر بها و هي تتلاعب بي، فتزول الحدود و الفواصل، و لا أسترجعني إلا و أنا أسمع صوت سارة يخاطبني، فأشعرني أسحب من هوة لا قرار لها، لأسمع العتاب الذي أحاول التحرر منه، فأتطلع نحوها متسائلا:ألا يتعب هذا البحر و هذه الأمواج التي تتلاعب عند نهاية الشط ألا تتوقف لحظة. فتجيبني: أ لأنك تعب تريد من الآخرين أن يجسدوا أمامك تعبك الخاص؟ و إذ أقول لها: أنا لا أقصد ذلك بالتمام وإنما منظر هذه الأمواج ألا ترغبين في رؤيتها و قد غير أسلوبها، حركاتها؟ ألا تتوقف عن تجسيد الرتابة و الملل، إنها تكرر نفس الحركات ليل نهار، أليس هذا قمة اللاجدوى؟ و دون أن تحفل بالهموم التي تضطرب في أعماقي تتجند هذه المخلوقة الشديدة الرهافة للتحليل الذي لم أركب جواده قائلة بلغة جافة: كفاك من النظر إلى العالم من قوقعتك، ألا تعرف أن للبحر قوانينه، و يفصح عن نفسه بطرقه الخاصة، ثم من قال لك بأنه يكرر نفسه، على العكس مما تقول إن حركاته تتبدل ولا تتكرر كما تزعم. فأقول لها: تقتلني هذه البرودة الصاعدة من كلامك، ألا تتركينني أحلم، أحلم بأن يهتز البحر يوما ما رافضا هذه الرتابة، مغيرا ذاته، و مستفزا الآخرين. أريده أن يثور وأن لا يظل هكذا.
لكن سارة تصر أن تسمعني ما أرفض سماعه، تقول لي وهي تحاول أن تتظاهر بنوع من الرزانة و التعقل، لأن هذا الذي أمامها فقد كل شيء حتى حاسة العقل: أعتقد أنك تسقط على العالم أشياء لا علاقة له بها، يجب أن تستخدم عقلك يا عزيزي الحالم.
فأنظر إليها في صمت، أبتسم أمام هاته التي تريد أن تغرقني دائما في جفافية لا أنسجم معها، جفافية تخنقني و أود أن أنعتق من قيودها الضاغطة و القاتلة، فأقول لها: كل ما تقولينه أعرفه، لكن ما أريدك أن تعرفيه هو أنني أجرب التفكير بشكل مختلف، أريد أن أحلم. فتقول لي: لا وقت للحلم، عليك أن تكون أكثر واقعية أفهمت؟ فأنتصب واقفا، أجرها خارج المقهى و أنا أقول: أنا إنسان يريد أن يعيش هكذا فلا تحاولي أن تفرضي علي منطقك أرجوك. تتأبطني و أنا أسير صامتا شاعرا بالخوف من الكلام الذي يترصدني في كل مكان، كلام لا يسمح لك بأن تعيش كما يحلو لك، كلام يردد بغباء: الواقع..الواقع يريد..الواقع يحتم.. و أقول بيني وبين نفسي: و ماذا فعلوا هم بواقعهم الذي يصمون آذاننا به؟
هكذا لا أجد أمامي غير الطرقات أستمع إلى رنينها، و أنظر إلى بشرها، محاولا طرد الأشباح التي تطاردني في النوم و اليقظة، أشباح لها آلاف الأيدي و الأفواه، تلسعك بأذنابها، و تجرك نحو المتاهات، نحو الكسل و المرارة التي لا يقيني منهما سوى الحلم.
القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات واداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة