سمير عادل
هل تستسيغ فرنسا ما حدث لنفوذها في أفريقيا، كما فعلت بريطانيا على مضض بعد منتصف القرن الماضي بتقويض مكانتها في الشرق الأوسط، لتحل محلها الولايات المتحدة الامريكية؟،
بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، كما يحدث اليوم، وبنفس الآليات ونفس الشعارات وبنفس الخطاب السياسي، عن الاستعمار ونهب الخيرات في البلدان الافريقية، وخاصة بعد أن راحت أي فرنسا تلملم أشلاءها من مالي وبوركينا فاسو وافريقيا الوسطى، وجمعت قواها في آخر معاقلها في النيجر، لتسدد لها ضربة أقرب الى قاصمة الظهر، عبر الانقلاب العسكري الذي اطيح بسلطة محمد بازوم وهو حليف مطيع لفرنسا والغرب عموما.
ما يقارب من ثلاثة أسابيع انقضتْ على الانقلاب العسكري في النيجر، ومازال الغبار الإعلامي الغربي الذي احدثه الانقلاب يتصاعد بطمس ماهية الصراع وتضارب المصالح بين فرنسا بشكل أساسي والولايات المتحدة الامريكية وعموم الغرب وبين الطبقة السياسية الجديدة التي يقودها العسكر وتقف خلفها روسيا والصين والقوى الإقليمية الجديدة الصاعدة مثل تركيا والجزائر.
الذرائع السياسية للتدخل العسكري لإعادة عقارب الساعة الى الوراء في النيجر تتكرر وبشكل ممل ومقزز كما حدث في أوكرانيا، ولكن مع فارق واحد هو التفنن بالنفاق السياسي وباحترافية عالية من قبل جميع الأطراف المتصارعة. ففرنسا والغرب الذي أيد الانقلاب العسكري في تشاد، وقبل ذلك في ٢٠١٤ في أوكرانيا. وفي حديث عن الانقلابات العسكرية، كان القرن الماضي؛ لم يؤيد الغرب الانقلابات العسكرية فحسب التي حدثت في إيران والعراق وإندونيسيا وتشيلي وفي الارجنتين والبرازيل، بل كانت اغلبها أما من تدبير، او دعم الوكالات المخابرات المركزية الامريكية، إلا إنهم اليوم يتباكون على الديمقراطية في النيجر، لان الحكومة التي اطيح بها هي حكومة تحقق مصالح فرنسا بالدرجة الأولى. ويجب الإشارة هنا، ان الدوس على “سيادة” النيجر عبر التدخل العسكري المحتمل من قبل مجموعة حكومات ايكواس، بتحريض من فرنسا والاتحاد الأوربي، لا يدخل بالقاموس الدعائي والأيديولوجي الغربي، مثلما يقصفوننا إعلاميا بشكل يومي من قبل الإعلام الغربي بالعويل والبكاء على سيادة أوكرانيا وانتهاك القانون الدولي من قبل روسيا.
إنه الاقتصاد السياسي يا أحمق*:
الدعاية الروسية لا تقل نفاقا ولا فضاضة عن الإعلام الغربي، عندما تعلن عن رفضها التدخل العسكري ويحذر منه، في حين حركت ماكنتها العسكرية المهولة لتجتاح أوكرانيا وتعلن حربها بحجة الدفاع عن شعب دونباس والأمن القومي الروسي. وليس هذا فحسب، بل ان جوقة محللي الكرملين يسوقون للعالم بأن الدب الروسي هو السوبرمان الجديد لإنقاذ افريقيا، وان روسيا تملك موارد كبيرة ولا تحتاج من النيجر أي شيء، لكنها تفعل مجانا، مثلما كان وما زال المهللون للديمقراطية الامريكية، سوقوا ويسوقون لنا بأنها جاءت لتحرير العراق من الدكتاتورية وان رسالة الولايات المتحدة الامريكية، للعالم، هي نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر قاذفات بي ٥٢ وصواريخ كروز وحراب المارينز ومعتقلات مثل أبو غريب والبوكا في العراق و غوانتانامو في كوبا وعشرات من المعتقلات السرية المنتشرة في أنحاء العالم، وكما هي أمريكا وروسيا تقدم خدماتهم بشكل مجاني لنشر قيمهم في العالم.
بيد ان الحقيقة في النيجر بدأت تتكشف على الرغم من كل محاولات التعمية عليها، وهي أن الصراع على النيجر لا يقل عن الأهمية الاستراتيجية عن الصراع في أوكرانيا.
النيجر تمد أوروبا باليورانيوم بنسبة ٢٥٪ لتشغيل مفاعلاتها النووية، منها ١٧٪ تزود مفاعل فرنسا التي بدورها تزود أوروبا بالطاقة الكهربائية، وان فرنسا تحصل على ذلك اليورانيوم باقل من ٢٠٠ ضعف من سعرها مقارنة بالأسعار التي تبيعها كندا على الاقل، ومع هذا يتبجح عدد من مناصري الدفاع عن “الرئيس الشرعي” الذي اطيح به في الفضائيات ووسائل الاعلام الأخرى، ان فرنسا لا تأخذ اليورانيوم مجانا بل تدفع مقابلها أموال!
أي بمعنى آخر أن سعر اليورانيوم سيرتفع بعد الانقلاب العسكري، إذ سيباع حسب سعر السوق العالمي، هذا إذا لم توقف الإمداد به لفرنسا، ويعني بالمطاف الأخير سترتفع تكاليف الطاقة في اوروبا، لتزيد الطين بلة، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
بيد أنه على الصعيد الاستراتيجي لا يقف موضوع الصراع على النيجر عند هذه الحدود، فإذا ما بقينا في سوق اليورانيوم، فإن روسيا ستكون اللاعب الرئيسي في افريقيا بالتحكم بسوق اليورانيوم، إذ ان ٤٥٪ من معدن اليورانيوم في السوق العالمي يجري تحويله وتخصيبه من قبل روسيا، واذا ما اضفنا اليه أي روسيا انها تحتل المركز السادس عالميا في إمداد العالم باليورانيوم والبقية تأتي بنسبة ٥٠٪ من كازخستان واوزبكستان، وهما حلفاء روسيا، مع إضافة النيجر التي تحتل المركز الخامس بالأمداد العالمي بنسبة ٥٪، فيعني أن روسيا ستتحكم بنسبة ٧٠٪ من سوق اليورانيوم العالمي، والجدير بالذكر ان ثلث تمويل مفاعل الطاقة الامريكية من اليورانيوم يأتي من روسيا، ويصفه الخبراء الأمريكيين هذا الوضع بالضعف الاستراتيجي.
ولا تنتهي القصة عند اليورانيوم، بل ان جميع خطط اوروبا الاستراتيجية لإيجاد بديل الغاز الروسي ، جاء الانقلاب العسكري لتقويضها إذا ما قلنا يزلزلها، فتزويد أوروبا بالغاز من نيجيريا ليقطع الصحراء وعبر الجزائر ثم البحر المتوسط و اوربا ويبلغ مقدار ٣٠ مليار متر مكعب يمر عبر النيجر، هذا ناهيك ان النيجر سادس اكبر منتج للذهب في العالم، وانه الملاذ الامن كما يصفه الاقتصاديون، اذ تلجأ إليه الدول لتأمين احتياطاته المالية، فيعني بالمطاف الأخير تسديد ضربة استراتيجية لفرنسا وكل المشروع الأوربي، الذي وضع كل سلته بتزويد أوكرانيا بالمال والسلاح لتحجيم روسيا مقابل الاستثمار السياسي والمالي في افريقيا.
البديل الفرنسي والأوروبي في النيجر:
في الأدبيات الماركسية؛ الحرب هو امتداد للسياسة لكن بوسائل عنف، والأخيرة أي السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد، ولكن هل فرنسا والاتحاد الأوروبي المتضرر الأول من الانقلاب العسكري وسقوط البلدان الافريقية التي تحت النفوذ الفرنسي مثل أحجار الدومينو واحدة تلو الاخر، أمام خيار الحرب، او في أسوأ الأحوال إعادة استراتيجية الحرب بالوكالة عبر حلفائها في مجموعة ايكواس؟
عدد ليس قليل من المراقبين السياسيين في الطرف الفرنسي وحتى القريبة من الطبقة الحاكمة في الاليزية، يصفون الأوضاع بالحساسة والخطيرة، وأن الحرب العالمية الثالثة اذا ما اشتعلت فستكون في النيجر، وهذا يكشف عن احتدام الصراع بين الأقطاب الامبريالية العالمية، وبغض النظر بأن هناك حرب عالمية أو حرب الوكالة، ستنشب او لا. والوقائع الحالية تبين بان خطر نشوب الحرب ابتعد قليلا على المدى المنظور من طرف التدخل العسكري لقادة مجموعة ايكواس، إذ هناك خلافات عميقة في تعاطي كل بلد من تلك البلدان من المنظومة مع ما حدث في النيجر.
وبالنسبة لفرنسا وهي تعرف جيدا، ان الحرب لن تعيد الأوضاع الى سابق عهدها، الا في حالة واحدة، هو حرق الأخضر مع اليابس، حيث لن يكون لها هناك في افريقيا شيء تخسره، وعسى ولعل عن طريق تطبيق نظرية الفوضى الخلاقة الامريكية لوزيرة الخارجية الامريكية السابقة كوندليزا رايس، من الممكن الحصول على شيء بالكاد يذكر. فالوجود العسكري الروسي عن طريق قوات فاغنر، والوعود بتزويد عشرات البلدان الافريقية بالحبوب وقسم منها بشكل مجاني، وتزويدها بالسلاح، الى جانب الاستثمارات الصينية، كلها تؤشر، ان الأقطاب الامبريالية الأخرى المنافسة لفرنسا لها أوراق عديدة وقوية، وبان الحرب بالنسبة لفرنسا لن تعيد محمد بازوم الى السلطة، ولن ترمم نفوذها بهذه البساطة في تلك المنطقة، وخاصة اذا وضعنا في الحساب تصاعد الأصوات في فرنسا سواء من قبل المعارضة في البرلمان او من القوى التقدمية تطالب الاليزية ورئيسها ماركون برفع اليد عن افريقيا والكف عن سياستها الاستعمارية.
وهكذا فما خسرتها فرنسا والاتحاد الأوروبي في الحرب الروسية في أوكرانيا، تخسرها اليوم في افريقيا عموما وبشكل خاص في النيجر. وكل الآمال التي بنت سواء من قبل فرنسا او الاتحاد الأوروبي لتعويض خسائرها من الطاقة الرخيصة في روسيا تتبدد، وسوف تزيد من محنتها، ومن المحتمل قد تكون طريق لانهاء الحرب في أوكرانيا.
بيد انه ما يجدر الإشارة اليه، ان فرنسا والقوى الغربية تملك ورقة حيوية التي يسمونها (الحرب على الإرهاب) ، وهي غض الطرف او فتح المجال وحتى تقديم الدعم بشكل غير مباشر للعصابات الإسلامية مثل بوكو حرام وداعش والقاعدة ووصولا لحركة الشباب، لتقويض الأمن وتهديد السلطة في عموم البلدان الافريقية التي خرجت عن عصا النفوذ الفرنسي والغربي، وخاصة في المثلث الحدودي الذي يسموه بمثلث الموت بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، فها هو يتكرر سيناريو سورية الذي أعلنت عصابات داعش بالهجوم على قافلة للجيش، وقتلت ما يقارب ٢٠ جنديا سوريا، وهذه المرة في النيجر، حيث قتل اكثر من ٢٠ جندي وجرح العشرات بهجوم من قبل تلك الجماعات الإسلامية.
مساعي بالتعمية على سياسة النهب في القارة الافريقية:
ان محاولات تصوير الانقلاب العسكري الذي حدث في النيجر من قبل الإعلام الرسمي لقصر الاليزية، بأن روسيا وقوات فاغنر ورائها، وحتى التخبط بالتصريحات الإعلامية من قبل المسؤولين الفرنسيين مثل ماكرون ووزير دفاعه، أحدهم يقول لا مؤشرات على وجود روسيا وراء الانقلاب العسكري، والأخر يقول هناك ادلة على وقوف قوات فاغنر وراء ذلك الانقلاب، نقول بان هذه التصريحات هي من أجل التغطية على سياسات النهب التي كانت تمارسها فرنسا في أفريقيا. وبغض النظر عن المحتوى الطبقي للعسكر، فهناك ظلم اقتصادي سافر وعملية سرقة ونهب فاضح لخيرات البلدان الافريقية من قبل الدول الأوروبية التي توالتْ على استعمارها منذ العصر الحديث والذي دشن في القرن الثامن عشر مثل البرتغال وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا.
ان ما يحدث اليوم من انقلابات عسكرية في البلدان الأفريقية مثلما حدث في مالي وبوركينا فاسو واليوم في النيجر، ويتوقع ستجتاح رياح الانقلابات العسكرية بلدان أخرى مثل موريتانيا وغيرها، و التي ترفع شعار (طرد الاستعمار الغربي)، تلقى تعاطف كبير من قبل شعوب تلك البلدان بسبب التاريخ الاستعماري الوحشي للبلدان الأوروبية بكل أشكاله في القارة الافريقية. والانقلابات الجارية، تكشف على أن البلدان الافريقية، وان تأخرت باللحاق ما يقارب أكثر من نصف قرن عن اقرانها في اسيا، بصعود ما سمي بـ البرجوازيات الوطنية والاستقلال الوطني والسيادة الوطنية في القسم المقابل من العالم، الا ان لديها فرصة لتحسين حظوظها بالحصول على سهم وحصة أكبر في التقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي، إذا لم تكن أفضل، فعلى الأقل مساوية مع اقرانها.
لكن هل أن الطبقة العاملة و كادحي ومحرومي تلك البلدان الافريقية سيكون لهم نصيب من خيرات بلدانهم وحياة أفضل عبر شعارات العسكر؟ فالجواب بينته تجارب مشاريع البرجوازية الوطنية، ففي منطقتنا التي اختبرناها وعشنا فيها وذقنا طعم معتقلاتها و سجونها و تنعمنا بأدوات تعذيبها، فتحت عنوان او الشعار الذي رفعه العسكر “تحرير فلسطين طريق لتحرير الامة العربية” او بالعكس “تحرير الامة العربية طريق لتحرير فلسطين”، كانت المعتقلات والسجون والفقر والعوز والبطالة واللجوء والتشرد، هو ما حصلت الجماهير عليها من الانقلابات العسكرية، مثلما حدث في مصر وليبيا والسودان والعراق وسورية واليمن، وعندما انتهت حقبة الحرب الباردة، كان مصاصو الدماء، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك باريس وصندوق التنمية الامريكية ومشاريعهم الاقتصادية (السياسة الليبرالية الجديد) تقف على الأبواب لنهب ما يمكن نهبه من جهد الطبقة العاملة والكادحين، كما نعيش تداعياتها هذه الأيام.
ما نريد ان نقوله ان الشعوب الافريقية مثل شعوب آسيا، هي ضحية خداع و ديماغوجية برجوازيها التي يقودها اليوم العسكر.
وأخيرا، هكذا ستسير الأمور، الانقسام الأيديولوجي والسياسي بين الأقطاب الامبريالية المتصارعة، فمن سيعترف بالحكّام الجدد الذي جلبتهم الانقلابات العسكرية، فهو وطني ومناضل من أجل التخلص من الحقبة الاستعمارية كما هو الحال في خطاب الكرملين وحلفائه، في حين يكون من قام بالانقلاب العسكري هو متمرد ومجرم ومعادي لحقوق الإنسان والديمقراطية والدستورية كما نسمعه في الخطاب الفرنسي و الامريكي والغربي عموما.
غير أن الحقيقة التي يحاول كل طرف طمسه من اجل التغطية على المطامع والمصالح الامبريالية، هو ان ما حدث وما سيحدث في أفريقيا هو، غضب عارم ضد نظام القسمة والحصص الذي يديره الغرب بشكل عام في افريقيا، وروسيا تحديدا تحاول تغيير ذلك النظام أي نظام القسمة القديم للحصول هي الأخرى على حصة فيها وتحت عنوان مضلل ومغرض: “عالم متعدد الأقطاب هو عالم أكثر امانا وأكثر عدلا” كما جاء على لسان وزير الدفاع الصيني في منتدى الجيش الدولي الذي يقام حاليا في مقاطعة موسكو في روسيا.
* (إنه الاقتصاد، يا غبي) هي عبارة استخدمت على نطاق واسع خلال الحملة الانتخابية لبيل كلينتون ضد جورج بوش الأب عام 1992.
عذراً التعليقات مغلقة