التجلّي المستمر..متاهاتُ اللغة ومكرُ النقد لدى كيليطو في “ التخلّي عن الأدب”

التجلّي المستمر..متاهاتُ اللغة ومكرُ النقد لدى كيليطو في “ التخلّي عن الأدب”

آخر تحديث : الأربعاء 9 أغسطس 2023 - 7:10 صباحًا

التجلّي المستمر

عبد العزيز كوكاس

كاتب من المغرب

 كوكاس - قريش
كيليطو وكوكاس

“إن اللغة خلقت لتخفي مشاعرنا” أوسكار وايلد

تعلمنا كتابات عبد الفتاح كيليطو دوما حسن الضيافة في حضرة النصوص وأدب الإقامة في أحضانها، كتابات متسعة المجال، باذخة الثراء، متعددة الأجناس، تبدو أحيانا – بفضل الاستطراد الذي تفنن فيه كيليطو- مثل جزائر متباعدة، لكن الكاتب دوما يشعرك كما لو أنك تسير على جسور مطمئنة من جزيرة إلى أخرى بسلاسة وعذوبة، حتى خلق لنفسه أسلوبا به تميز، لغة تنتقل بين حوضين لسانيين متباينين وأكثر، ومنهجا ينهل من متعدد وحذقا فكريا وتطريزا نقديا مبهرا.. كتابات عبد الفتاح كيليطو النقدية تتمتع بحس إبداعي ماكر ومخاتل حتى، لأنها تتسلل من الشقوق والنوافذ المواربة، تذهب رأسا نحو اللامفكر فيه، من شذرة هنا، معلومة مهملة هناك، وشظية قصيرة وردت في كتاب للتاريخ أو تفسير القرآن، أو في الدراسات الموسوعية التي تزخر بها كتابات الشاعريين العرب القدامى خاصة، أو من سيرة طبقات الشعراء وتراجمهم وسير الكتاب، ومن أخر ما أفرزته الساحة النقدية الغربية، لذلك لا تقبل تصنيف نفسها كحواشي على متن سابق، إنها إبداع موازي للنصوص التي يتناولها عبد الفتاح كيليطو ويعود باستمرار للتذكير بها تعميقا وتجويدا، في إعادة خلق مستمر لكتابة تشتغل على الممحو والصامت، حتى لأننا نجد أنفسنا أمام مشروع أدبي ونقدي متناسق لا يستسلم للقراءات التبسيطية والاختزالية للتراث، ولا يستكين لتكرار المفاهيم والمناهج الغربية الحداثية المنزوعة عن سياقها، لقد نحت عبد الفتاح كيليطو لنفسه جوابا عميقا لثنائية الحداثة والتراث دون الكثير من الضجيج النظري، فمجموع ما كتب هو مسار عملي سلس ومقاربة إجرائية لإشكالية الحداثة والتراث التي شغلت بال مفكرينا ولا زالت ماسكة بتلابيب معظمهم. وليس “الأدب والغرابة” سوى العتبة السفلى في سلم هذا الهرم النقدي الذي نحته كيليطو بالكثير من الصمت والتواضع.

حدثنا كليطو عن الكتاب المطمور من خلال قصة الكتاب الأخير للمعري الذي تم محوه، إعدامه من طرف بني عمه، ويفتش الكاتب في أسباب طمس هذا الكتاب من طرف الأوصياء على المعري، الذين أعدموا كتابه الأخير قبل دفن جثة كاتبه

التخلي كموضوع للأدب

كتاب “التخلي عن الأدب” هو سفر ممتع يعلمنا حقا التواضع أمام عتبات النصوص قبل ولوج عوالمها الداخلية، في حكايته عن شخصية حامد بن الأيّلي يقول كيليطو: “استضاف سيرفانتيس في منزله المترجم الموريسكي كما استقبل مخطوطا عربيا ومؤلفه، المنزل كاستعارة للغة، حسن الضيافة، الأدب والمأدبة”. الإحالة واضحة عند كيليطو على بيت طرفة بن العبد: 

نحن في المشتاة ندعو الجفلا     فلا ترى الآدب فينا ينتقر

فقد استعار اللغة للمنزل ولدى هايدغر تشبيه مؤكد بالقلب حين اعتبر “اللغة مأوى الكائن البشري”.. في قراءتي لكيليطو ومنتوجه، وهذا أحد أجمل ما علّمني إياه من خلال كتبه منذ زمن بعيد، هو السير بالصحبة، أو التسلل من شقوق النص، ذلك أن القراءة النسقية هي أحد ما تهدمه كتابات كيليطو مقابل الانتصار ل”السير مع”.

أول ما يصدمنا هو العنوان “التخلي عن الأدب”، وقد لا تسعفنا الدلالة الحرفية لكلمة التخلي في تأويل ما يحويه الكتاب بين دفتيه، إذ نجد دلالات عديدة لمفهوم التخلي في القواميس العربية، من اللغة إلى القانون ومن الاقتصاد إلى الفقه، وتعني في عمومها: التنازل الطوعي، الانسحاب، تقليص منطقة الامتياز، قضاء الحاجة (الدين) أو الترك… أَيُّ الدلالات أقرب إلى ما قصده عبد الفتاح كيليطو في هذه الأمشاج التي خطها؟ كيف نقرأ مفهوم “التخلي عن الأدب” لناقد ظل يقيم بعشق في قلب الأدب؟ كيف يمكن أن يتخلى عاشق مثل كيليطو عن الأدب، وهو يعلم نصيحة شكسبير “تمهل في اختيار الحبيب وإياك أن تتعجل في التخلي عنه”، وكيليطو لم يتعجل قراءة بورخيص ولا ضون كيخوتي ولا المعري ولا الجاحظ ولا الحريري ولا دانتي… بل تمهل في عشق الحبيب/الأدب؟ هل عمل بنصيحة نيتشة “أحسن التخلي طوعاً”، أو كما يقول في موضوع آخر: “من لا يستطيع التخلي عن شيء لن يستطيع الإحساس بأي شيء”، أو بحكمة شارل بوكوفسكي حين قال: “ليس لدي عاطفة أو اهتمام لأشياء، الكثيرون لا يستطيعون التخلي عنها”.

في التخلّي تجلٍ أكبر

في أول مفتتح الكتاب يبدأ كيليطو بحادثة الجامعة وتخلي أستاذه الفرنسي عن الأدب؟ التخلي هنا هل هو تنازل؟ انسحاب؟ غياب وترك؟ قضاء حاجة بغير المعنى الفيزيولوجي؟ تقليص منطقة الامتياز؟ 

في تقديري التخلي هنا تجلٍ، التنازل والترك والانسحاب هو تملك واستعادة وحيازة… تخلي سيرفانتيس عن اسمه لصالح الموريسكي ابن الأيلي هو تجلٍ أكبر، يعلق كيليطو على الواقعة: “احتفظ به بتخليه عنه”، وهو ما يذكرنا بمثيله الفرنسي رومان غاري وصنيع خياله إميل أجار الذي نسب له أربع روايات ناجحة قبل أن يستعيد كتاباته في محاولة لقتل الكاتب المتخيل من بنات أفكاره في كتابه أو اعترافاته المعنونة ب”حياة إميل أجار وموته”، قبل أن يسقط بدوره قتيلا يخبرنا كيليطو في الصفحة 77 من الكتاب.  

التخلي هنا تجلٍ، التنازل والترك والانسحاب هو تملك واستعادة وحيازة… تخلي سيرفانتيس عن اسمه لصالح الموريسكي ابن الأيلي هو تجلٍ أكبر، يعلق كيليطو على الواقعة: “احتفظ به بتخليه عنه”

وبدل الاطمئنان يزيدنا جواب قصير في تقديم الكتاب حيرة، يقول: “ما سعيت إلى الخوض فيه هو التخلي كموضوع للأدب”، ها نحن إذن أمام كتاب “عن أدب التخلي” لا عن التخلي عن الأدب، إن غرابة الموضوع حقا هي جزء من ألفة هذا الكتاب، باستعارة ما كتبه كيليطو نفسه في سياق حديثه عن بورخيس والمغرب. عن الدهشة في قراءة مؤلف جديد، والخوف من الضياع في متاهاته، لقد تساءل بارث يوما كيف يمكن التوقف عن الكتابة؟ أي التخلي من أجل الامتلاك، لكنه وجد نفسه قتيلا في الحياة حيا في الكتابة. وأخبرنا الكاتب إلى أن ضون كيخوتي بعد أن أعياه تحقيق أحلام الفروسية عاد إلى بيته، وفكر في التخلي عن أدب الفروسية، لكنه مات، البيت هنا ليس اللغة، ولكن الرشد بعد الجنون الحلومي.. وعلى خلاف ضون كيخوتي الذي حاول أن يُحول الأدب إلى حياة، حين قرر أن يصبح فارساً جوّالاً ينقل أدب الفروسية إلى الواقع، يعمل كيليطو في هذا النص على تحويل وقائع الحياة إلى أدب. 

من حكاية الأستاذ الجامعي إلى الموريسكي مصدر حكاية سيرفانتيس إلى الكاتب الذي جُن بقراءة كتابه، حتى بورخيس ورسالة الغفران ومقامات الحريري وبخلاء الجاحظ والشعر الذي لا يحيى سوى في لغته وبين أهله… ليس هناك سوى التخلي الذي يصبح تجليا أكبر وامتلاكا أقوى. 

فشل ضون كيخوتي لأنه لم يتخل عن الأدب الذي اعتقد أنه يترجمه فعليا إلى واقع. حيث نكتشف أن فشل ضون كيخوطي هو فشل للأدب، ببساطة لأنه مجنون لا يصغي لصوت العقل.. هنا جنون الأدب وبصمة خلوده، يستعرض كيليطو واقعة هوس ضون كيخوتي، وسعي صديقيه القسيس بيدرو والحلاق نقولا، إلى إحراق مكتبته لإنقاذه من الجنون والهوس، يقول في تعليقه على هذه الواقعة: “كانا يودان إنقاذه وتخليصه من الجنون، لكن الغريب في الأمر، والمفارقة أنهما قاما بهذه العملية – حرق مكتبة ضون كيخوطي بتواطؤ مع ابنة أخته وخادمته- بينما هما قارئان شغوفان للروايات وعلى علم بمختلف مؤلفيها ومضامينها ودقائق تفاصيلها، لقد اطلعا على ما قرأه ضون كيخوتي برمته، وهكذا فإن أشد أعداء الروايات هم في الوقت ذاته المولعون بها”. 

 الفتاح كيليطو - قريش

وهنا أتساءل لو كان ضون كيخوتي قد قرأ مئات الروايات ونسيها أكان سيرتكب نفس الحماقات قبل أن يثوب إلى رشده الذي لم يعن سوى المرض والموت؟ تحضرني نصيحة خلف الأحمر لأبي نواس حول حفظ ألف بيت ثم نسيانها، فالنسيان تخلي من أجل امتلاك أبهى، لو لم يتخل أبو نواس عما حفظه هل كان سيكون بنفس قوته الشعرية الباذخة؟ على عكس الضون كيخوطي السعيد ابن القارح الذي تمنى أن يُبعث بذاكرته، بما حفظه من شعر وأن يجنبه الله النسيان، لم يكن يسئه التخلي عن “الدار العاجلة” ولا الحور العين في الدار الآخرة لكنه كان يفضل أن يُبعث في الآخرة بذاكرته الشعرية.. 

في حديثه عن التخلي كموضوع للأدب يتحدث كيليطو في نص مثير عن البوتلاتش (potlatch) الذين كان من عادتهم إتلاف وإبادة ما يملكون بالبدل والتخلي، حيث يسود العطاء والعطاء المتبادل، حتى يصبح التخلي تملكا.. فكل من ضون كيخوتي ورولان بارت تمنيا التخلي عن الأدب، الأول عن قراءة روايات الفروسية حتى اعتقد أصدقاءه أنه يريد أن يصبح ناسكا، والثاني عن الكتابة في أجناس معينة والتحول اتجاه أجناس أخرى، كلاهما ماتا في الحياة وعاشا في الأدب، الأول بمرض والثاني بحادثة سير.. من جهة أخرى تخلى ضون كيخوتيه عن اسمه وأسند محكيه إلى شخص موريسكي سيكشف كيليطو أن ترجمة الاسم تحيل على معنى واسم سيرفانتيس، وبذلك يكون التخلي عن الاسم تملكا وحفظا أقوى له، كما تخلى الكاتب الفرنسي رومان غاري عن اسمه لشخصية ابتكرها وحين اشتهرت استعادها بقوة.

الصدق والكذب وصنعة الأدب

في حديثه عن الحريري ومقاماته، يروي عبد الفتاح كيليطو كيف أن أبا زيد السروجي في مقامة البصرة احتال على الناس ببلاغته وأدبه، وفي مسجد دعا الناس ليتضرعوا إلى الله ليغفر له ذنوبه ليكف عن الكدية وحكيها، إنها ذات توبة ضون كيخوتي، التوبة من الظلال والكذب، أي من الأدب الجميل، ثم كيف يترتب عن التخلي عن الأدب، التحول إلى النسك والزهد، ذات التحول الذي استغربه مقربو ضون كيخوطي حين أعلن توبته من قراءة روايات الفروسية، انتهجه في سياق ثقافي مغاير أبو العلاء المعري الذي تحول من أدب الكذب إلى أدب الصدق، وهو ما يلفت انتباهي في تحول الكثير من الكتاب العرب في مجال كتاباتهم، مع التقدم في السن، مع العقاد في عبقرياته وطه حسين في “مرآة الإسلام” و”علي وبنوه”، لكن على عكس أبي زيد السروجي فإن الحارث بن همام لم يتخل عن الأدب، لم يعلن توبته، بل استمر في عشق الأدب، ضون كوخيطي حلم بالتوبة وهو ما لم يرغب فيها أقرباؤه مثل الحارث بن همام الذي كانت توبة السروجي تعني نهاية الحكي، نهاية الأدب، ورغم ذرفه الدموع على هذا الحدث المأساوي فإنه لم يتخل عن الأدب.

الفرق بين ضون كيخوتي وبارت، أن الأول ندم على الكتب التي أضلته، فيما الثاني كان يبحث عن “نويفا فيتا” حياة جديدة، كما يخبرنا كيليطو، الأول داخل القراءة والتلقي والثاني داخل الكتابة، الإبداع. 

التوبة من كتب الضلال هي التي جعلت كيليطو يستدعي الناسك سمعان العمودي وطقوسه الصارمة في ص67 من الكتاب، حيث يشير إلى أن أبا العلاء المعري نفسه مارس التوبة بمعنى أعمق، بالتخلي عن الكتابة التقليدية كما مارسها في ديوانه “سقط الزند”، معتبرا الكتابات المقلدة مَيْنا أي كذبا، لأن صاحبها لا يقيم في زمنه، أي أن الشاعر ينتصر للحداثة، باعتبارها الإقامة في العصر، لشعر الصدق بدل شعر الكذب. مع أبي العلاء المعري في لزومياته، لم يعد أعذب الشعر أكذبه بل أعذب الشعر أصدقه، ولعل هذا ما يجعله قريبا من زهير بن أبي سلمى: 

وإن أشعر بيت أنت قائله   بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وأقرب إلى قدامة بن جعفر وابن طباطبا والآمدي ومن الشعراء المتنبي وأبو نواس وأبو تمام، الصدق الفني مقابل الكذب الشعري.. نتذكر أن النابغة الذبياني عندما سئل عن أشعر الناس، أجاب بأنّه من كان كذبه جيدًا، ورديئه مضحكا، أما أبو هلال العسكري فاعتبر في كتابه “الصناعتين الكتابة والشّعر” أنّ الشّعرَ في معظمه قد بني على الكذب، فيما ذهب عبد القاهر الجرجاني في “أسرار البلاغة” إلى ربط أصدق الشّعر بأكذبه بالصّنعة والتخييل التي تسمح عبر المبالغة والتّهويل في توليد معانٍ جديدة غير مسبوقة هي سبب متعة تلقي الشعر وسر تميزه وخلوده..

مخاطر اللسان في الانتقال من لغة إلى أخرى 

الترجمة خيانة، ليس أجمل من هذا التعريف بالسلب، الذي يتضمن إقرارا بالصعوبات الناتجة عن الترجمة ونقل النص من لغة إلى أخرى، بل تلك الموجودة في ذات اللغة، حين ينتقل النص من الأدب الوضيع إلى الأدب الرفيع، أو حين ينتقل في ذات اللغة من زمن متأخر إلى زمن متقدم، يفرض وجود تحقيق وشراح وحواشي على المتن الأصلي تصبح بدورها كتبا موازية، النص وهامشه، بعض الكتب تعتبر على يد بعض الشراح أفضل من أخرى، كما في ديوان الحماسة أو شرح المتنبي للبرقوقي أو ابن جني الذي قال المتنبي عنه فيما يشبه التزكية والإشهاد الاستحقاقي: “ابن جني أعرف بشعري مني”، أو كان ذلك في الانتقال من لغة إلى الأخرى عن طريق الترجمة، تعدد الألسن مبلبل، لكنه وسيلة لخلق إبداعات شتى للتعارف والتثاقف، حيث يؤكد كيليطو أن لا كتاب اشتهر في لغة أخرى، أي في سياق ثقافي مغاير لمنبته دون أن تكون له قصة، تصبح أحيانا أشهر من النص ذاته ولا يحيى إلا في حضنها وقد يشكل حاشية يتحدث عنه الناس بكثرة وقد لا يكونون قد قرأوا صفحة واحدة منه، تلك حكاية “رسالة الغفران” كما يحللها عبد الفتاح كيليطو، ثم ابن رشد، وألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، وعمر الخيام.. موردا قولة رينان البليغة: “الكتاب الذي لم ترجم لم ينشر سوى نصف نشر”، وبعد سرد كيليطو فضائل الترجمة يعرج على تعداد مخاطر الترجمات على الكاتب والمؤلَّف الأصلي وعلى الكتاب المترجم في سياق لغة مغايرة وثقافة مختلفة.

الفرق بين ضون كيخوتي وبارت، هو أنّ الأول ندم َعلى الكتب التي أضلّته، فيما الثاني كان يبحث عن “نويفا فيتا” حياة جديدة، كما يخبرنا كيليطو، الأول داخل القراءة والتلقي والثاني داخل الكتابة، الإبداع. 

يحلل عبد الفتاح كيليطو في كتابه “التخلي عن الأدب” بعد كيف يصبح للكاتب وضعا اعتباريا ويخلد كتابه حين يرتبط بقصة في انتقاله من لغة إلى أخرى، بل كيف أن العديد من الأعمال المشهورة اليوم، المصنفة سابقا في خانة “الأدب الوضيع” مقابل “الأدب الرفيع” كانت منسية في ثقافتها وحين ترجمت أو قدرت له الحياة في لغة أخرى، عادت بقوة إلى نبعها الأول أكثر شهرة، أي أن الترجمة أخرجتها من النص الغفل، المتخلى عنه إلى النص المعترف به أي المتجلي في أحلى صورة.. 

الناسخ والشارح: وظيفة الخلود

النسخ كان علامة على بداية انتقال الثقافة العربية من الصدور إلى السطور، من الشفهي إلى الكتابي، وبرفقته ازدهرت حرفة كاملة للوراقين، وظيفة النسخ التي كان يقوم به محترفون وحتى الكتاب أنفسهم، كانت مهمتها حفظ النصوص، أي حماية الذاكرة الجماعية من التلف، وهو ما سيتناهى إلينا كتراث، ومع النسخ بدأ الجمع والتدوين، ثم تصنيف العلوم والآداب ولغتهما وتوثيقها أي تقييدها من التلف، لأن الذاكرة قنص والكتابة قيد، وشهد القرن الرابع الهجري نهضة ثقافية وحضارية كبيرة بسبب النسخ، ثم الترجمة، أي القبول بلسان آخر بما يحمل من علوم وفنون، وتعدد الكتب المنسوخة وعلم للتحقيق في النسخ الأصيلة وفرز ما للكاتب عن المتقول عليه…

نتذكر ما قيل عن خلف الأحمر حول اختلاقه نصف الشعر الجاهلي، وما قيل عن نساخ كانوا في المكتوب أشبه بخلف الأحمر في المروي – الشفوي.. لذلك جاء مع النسخ الشرح والتذييل والحواشي على متن النصوص، تعدد الشراح وتمايزوا في شرح وتفسير الكتاب الواحد، وأفرز كل ذلك إشكالات هي من صميم قضايا النص وتلقيه وتأويله عبر الوسطاء، أي الشراح، كما يؤكد كيليطو في ص 47 من كتابه. حيث اعتبر أن الترجمة اليوم تقوم بدور الشارح في النصوص القديمة، تورينا الوجه الآخر للأحاسيس والمشاعر في رموز والإشارات في حوض لساني مغاير.

أعاد عبد الفتاح كيليطو في “التخلي عن الأدب” سبب نفور الفلاسفة من الشعراء إلى كون القدامى أدخلوا الشعر في باب المتعذر ترجمته من لسان إلى لسان، إنه العتبة العليا للخيانة التي يتهم فيها المترجم بقتل النص وتجفيف مائه، يقول الجاحظ: “إنّ “الشعر لا يُستطاع أن يُترْجَم، ولا يجوزُ عليه النقل، ومتى حُوّل تقطَّع نظْمُه، وبَطُل وَزْنُه، وذهبَ حسْنُه، وسقط موضعُ التعجُّب، لا كالكلام المنثور”، ألهذا لم يعرف العرب المسرح ولم تتم ترجمة التراجيديا والكوميديا التي أصبح لهما اسم آخر مع النقاد العرب أو الشاعريين الكبار وهي القوبوديا والتراقوديا؟ بل إن ابن رشد كان يقفز على الشعر اليوناني الذي كان يستشهد به أرسطو في معرض ترجمته، لكن هذه المرة ليس من باب الخوف على موت النص في اللسان العربي ولكن من باب التمايز والتفوق، فهذا في شعرهم، والعرب أمة الشعر فهو ديوانهم، تفوق لسان على لسان في مسائل.. لذلك لم ينتصر الفلاسفة للشعر بسبب صعوبة ترجمته (انظر ص 54 من “التخلي عن الأدب).

وبسبب غرابة الشعر وكونه عصيا عن الترجمة، يحضر نص رسالة الغفران، الذي أعاد التأكيد على أن الجن هو مصدر إلهام الشعراء إذ لم ينقل لنا أحد أنه روى شعرا عن الملائكة (ص61).

الكتاب المأمول والكتاب المطمور

في ثنايا كتاب “التخلي عن الأدب”، نجد حديثا عن الكتاب المأمول الذي حلم به ضون كيخوتي، حين أعيته حماقات نقل روايات الفروسية إلى الواقع، ضون كيخوطي كان وهو على فراش الموت يطمح للتخلي عن أدب الفروسية ويتطلع لو منح بعضا من حياة باقية ليقرأ رواية تنير العقل،(التخلي عن الأدب ص66)، وبحث بارث عن حياة جديدة أي أنه طمح للحياة في كتابة مغايرة بعد أن أحس بأنه استنفد نوعا من الكتابة، حدث له ذلك بعد موت أمه، وهو ذاته ما نجده لدى المعري الذي أصبح رهين المحبسين أو ثلاثتهما، وتخلى عن نوع من الأدب، يتمثل في الأغراض التقليدية، ترك شعر المين أي الكذب،.. وكيليطو نفسه انتقل نحو الرواية بعد سلسلة كتب كثيرة في النقد أو الشعرية، ولعل هذا ما دفعه إلى اختيار العنوان المثير الذي يفرض تنازعا في تملك جنس إبداعي “والله إن هذه الحكاية حكايتي”. 

يحدثنا كليطو أيضا عن الكتاب المطمور من خلال قصة الكتاب الأخير للمعري الذي تم محوه، إعدامه من طرف بني عمه، ويفتش الكاتب في أسباب طمس هذا الكتاب من طرف الأوصياء على المعري، الذين أعدموا كتابه الأخير قبل دفن جثة كاتبه.. ما الذي قاله المعري ولم يصلنا: هل هي كتابة الخرف، هل هي كتابة الوقاحة، هل هي كتابة أضعف من مستوى ما ظهره به في السابق؟ لم نعثر على جثة الكتاب لاستنطاقها، فما تبقى لنا هو أثر جريمة إعدام كتاب فقط.. يستنتج كيليطو في كتابه الممتع “التخلي عن الأدب”.

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com