الطريق إلى قلبك
بلقيس بابو
كاتبة وطبيبة من المغرب
اِعتدت ارتياد ذاك المكان الذي يجذبني سِحره الخاص، أزوره بمفردي أو برفقة بعض الصديقات، لنحتسي فناجين قهوة أدمناها منذ سنوات الدراسة، ندردش قليلا قبل أن تمضي كلُّ واحدة منا إلى حال سبيلها.
وهناك على الطاولة المقابلة لطاولتي، كان يقبع بمفرده منزويا، يدخن سيجارة تلو الأخرى، أطيل النظر إليه من غير أن تشغلني ثرثرة الصديقات؛ تراودني الرغبة في أن يكف قليلا عن إشعال سيجارة عقب سيجارة، حتى أخالُ نفسي و قد امتلكت الجرأة لأقتلع السيجارة من بين أصابعه لعل رئتيه تتمكنان من استنشاق بعض الهواء النقي.
يبدو أنه قد يقارب الستين من عمره أو يزيد، فالخصلات البيضاء وبعض التجاعيد الخفيفة تشهد على ذلك.
كان يدفن عينيه بين صفحات كتاب خلته للحظات سيلتهمه؛ لم أستطع التوقف عن التحديق فيه كما لو كنت أسعى إلى اكتشاف سر لغز محير.
مع ذلك كنت أشارك جليساتي محداثتهن كيلا يفطنَّ إلى ما يشغلني عن ذلك، قبل أن أعود مجددا لمراقبة ذاك الجالس الغريب الأطوار على الطاولة المقابلة لي، تراودني الرغبة في ألا تفوتني حركة من حركاته، أو تغيير في تعابير ملامحه التي يرتسم عليها في كل مرة تفاعل معبّر مع ما يقرأ؛ أرقب ارتعاش أصابعه كلما حاول تدوين شيء ما على مذكرة صغيرة موضوعة إلى جانب فنجان القهوة .. لم يعد لدي شك في أن ما يعيشه مع المقروء يشغله، بل يبتلعه ابتلاعا كما لو أن بينهما لحظات عشق لا يعكر صفوها صخب الزوار ولا ثرثرة المتحاورين من مرتادي المقهى، بل حتى العيون الفضولية المحدقة فيه لا تستفزه، تمنيت لو أستطيع أن ألقي نظرة على ما يقرأ وأيضا على ما يدون أحيانا في وريقات المذكرة بجانبه.
حديث صديقاتي ذو شجون، وحين تسألني إحداهن عن رأيي ، أجيب: لست أدري، فسمعي لم يلتقط كلمة مما قلن .
– ما بك، تبدين شاردة الذهن، كأنك لست هنا؟تسألني إحداهن.
-لا شيء ! فقط أشعر ببعض الصداع.
ليتهن يتركنني شاردة في حيرتي وينصرفن إلى حال سبيلهن.
نظراته متثاقلة، وعيناه تبدوان متعبتين، كأنه يطيل السهر أو لم يأخذ ما يكفي من نومه الليلة الماضية، لكن لماذا؟؟ لعل شيئا ما يؤرقه، أو عملا ما يجبره على التفرغ له لإنهائه في آجاله، تُرى .. أي وظيفة ترهق موظفا إلى هذا الحد؟ أكاتب ؟ أم صحفي؟ أم باحث يعكف على الغوص في موضوع عويص؟ أم ماذا؟.. تساؤلات، أستدرك بعدها لألوم نفسي :
وما دخلي أنا؟ ما الذي يجلعني أنشغل بأمر هذا الغريب إلى هذا الحد؟
ثم أحقّاً هو غريب ؟ إني أشعر كما لو كنت أعرفه من قبل .
يخبرني حدسي أنه شخص طيب، حنون لا يؤذي أحدا، رغم عزلته، بل بدليل عزلته، على الرغم من عصبيته الواضحة كما يبدو من كم السجائر التي يتناولها، وينفث دخانها من غير توقف كقاطرة من أوائل القرن الماضي، بل كما يبدو من ارتعاش يدَيْه وزفيره العميق وفركه باستمرار لجبينه بطرفي خِنصِره وبِنْصِرهِ، بينما تمسك أصابعه الأخرى السيجارة، وتتفرغ اليد اليمنى للقلم تمسكه وتدون به.
تعبرني الرغبة في أن أعرف ما يكتب، ولماذا؟ ينهشني الفضول
أتساءل إن كان بإمكاني أن أشاركه طاولته وأفكاره، لو يمكنني قراءة مخطوطه ومناقشة مواضيعه، ولم لا أجدها فرصة للغوص في أغوار عالمه المشوِّق.. شعرت كم يكون رائعا لو تحقق ذلك…
لكن، أي حق يسمح لي بذلك؟ أيمكن لامرأة أن تقتحم عالم رجل وحيد؟ ثم تسأله عن خصوصياته لمجرد أن تشفي غليلها؟
و لمَ كل هذا الحماس؟ ألم يكن من طباعي ألا أكترث بأمر أحد غريب أبدا ؟ ما هذا الفضول الذي تمكن منِّي فجأة ؟؟
تستأذن رفيقاتي الواحدة تلو الأخرى للانصراف، إنها الفرصة التي لن تتكرر، تغمرني الرغبة في القيام بالخطوة الأولى، لأكلمه، سأتعمَّد المرور قريبا منه، متظاهرة بالذهاب إلى الحمام ،ثم ألقي نظرة علنّي أرمق عنوان الكتاب أو ربما أسترِّق النظر إلى مذكرته، ومنها أمهِّد الطريق نحو اكتشاف المزيد من أسراره.
لم يسبق أن فعلت هذا من قبل، وكأن قوة خفية تجذبني نحوه، تتحكم في تفكيري، تستبد بذهني، تُلِّح عليَّ بمعرفة عالمه الخفي.
لم يرفع عينيه أبدا حتى و أنا أجلس في الطاولة المقابلة له، لم تلتقِ عيني بعينيه قطُّ، ولو في نظرة خاطفة، نظرةٌ قد تكون خطوتي الأولى نحو الاقتراب منه واقتحام عالمه المبهم.
سأقف، و أقترب منه.. سوف أتجرأ.. وأي بأس في ذلك؟؟
سوف أستأذنه بلباقة وأنتزع منه الغضب بابتسامة خفيفة كي لا يبادر بقتلي حين أقطع حبل تركيزه المسترسل منذ ساعات..
-مساء الخير ..
رفع جفنيه المتثاقلتين ببطء، عيناه محمَرَّتان من طول السهر وسحاب الدخان يتراقص حوله.
– نعم؟؟؟ …أيمكنني المساعدة ؟
أربكتني نظراته، أدهشني سؤاله، لكنني لملمت فتات شجاعتي وبعض ما بقي من جرأتي:
-لو سمحتم أوّد أن أعرف عنوان الكتاب الذي بين يديكم ؟ وهل يمكنني اقتناؤه..
– العنوان؟؟ …لا يباع..
تبسّم و هو يتأمل ملامحي المصدومة.
ثم أردف بعبارات متقطعة:
-أمن أجل ذلك؟ ظللت تراقبينني طوال الوقت ؟..
زادني سؤاله ارتباكا، علت وجنتيّ حُمْرة وأحسست وكأن الدم سينفجر منهما ولم أستطع أن أنبس بكلمة فقد يسمعَ صوت نبضاتي المتسارعة…
– تفضلي! اجلسي…!
ياللهول! ..إنه يدعوني إلى طاولته..كنت كمن أُفْرِغ فوق رأسه كيسٌ من مكعبات الثلج …
-اجلسي! … الكتاب لايباع لأنه لم يطبع بعد ، مازال بصدد التصحيح والتنقيح …
-أهو من تأليفك؟
-أجل.
-رائع! ما موضوعه؟ عمّ يتحدث؟….
يضحك من حماسي غير المبرر الذي لم أستطع أن أكبح جماحه…
– عنوانه: “الطريق إلى قلبك” إنها رواية.
أخذ قلمه و انتزع ورقة من مذكرته، كتب بخط جميل :
(إلى غاليتي الفضولية، روايتي:
الطريق إلى قلبك)
هذا إهدائي لكِ ….
دَسَّ الورقة في يدي وأنا أجلس حائرة بين فرحة وذهول..بين اندهاش و شرود و عدم تصديق.
أعادني فجأة للحظة:
– فنجان قهوة؟ أتريدين ؟
-معذرة، فنجاني مازال هناك، سأجلبه..!.
رجعتُ إلى طاولتي، أخذت حقيبتي وحملت فنجاني لأعود إليه على عجل ..
يا للدهشة!،لم يعُد هناك، لقد رحل ..!
سقط ما بيدي ؛ الحقيبة والقهوة ….، تسمَّرت لحظة فاغرة فمي:
أتبخر؟ أين ذهب؟
أتكفه بضع ثوان ليضع معطفه على ظهره؟؟
كيف أمكنه أن يرحل في لحظاتٍ لا تكفي ليلملم حاجاته وكتابه و وريقات مذكرته و يعيد قلمه الفضي في الجيب الداخلي لمعطفه، و يدس علبة السجائر في جيبه الخارجي .. كيف تمكن في برهة خاطفة من الزمن أن يخطو خارج مدخل المقهى؟؟..
يا للغرابة! حتى فنجان قهوته لم يعد هناك.
هرولت نحو الباب الواسع أطل يمين ويسار المبنى، علَّني أرمق طيفه منصرفا، أو ألمحه، يفتح سيارة أو يستقل سيارة أجرة …
أمرٌ عجيب!…لا أثر له بالمكان على الإطلاق.
اقتربت من حارس سيارات أمام المبنى ، كمَنْ يبحثُ عن طفلٍ تائه، هز رأسه بالنفي مستغربا…
هرولت إلى الداخل بحثا عن النادل عساه يعرف إلى أن يتجه عادة.
– أتعرف أين مضى ذاك الرجل الجالس هنا بتلك الطاولة،منذ ساعات ، صاحب الكتاب والمذكرة ودخان السجائر المتصاعد ؟ …
قطب جبينه مستغربا، وهو يراني أشير بيدي إلى الكرسي…هنا، كان قابعا، ذاك الرجل الذي ظل يقرأ وحيدا..
-من ؟
ذاك الذي كنت أحدثه قبل قليل؟؟؟ أنت تعرف كل الزبائن ؟ أليس كذلك؟
نظر النادل إليّ نظرة استغراب، صمت قليلا، كمن يحاول أن يتأكد من سلامتي العقلية…
-سيدتي… اسمعيني، تعالي معي، هذا الكرسي و هذه الطاولة، بالضبط ظلَّا شاغرين منذ الصباح ، لم يجلس أحد هنا قط… أبدا سيدتي..
-لكنني، جلست معه ها هنا، بل كلمته..!
-نعم جلستِ هنا، شاهدتك، وحسبتك تغيرين الطاولة، سيدتي، صدقيني،لم يكن هناك أحد؛ أنا النادل الوحيد وأنا هنا منذ الفجر،…
أستأذنك ، سيدتي، الزبناء ينادونني…
لا أعرف ما الذي حلَّ بي، أدوامة؟ أم دوار؟؟ لا أصدق ما أسمع، أمسكت رأسي بين يديّ الاثنتين، خشية أن أقع، أن يُغمى عليّ وإذا بشئ خشن في يدي يلامس جبيني، ماهذا؟؟
يا إلهي ، إنها الورقة الصغيرة بيدي، تلك الورقة التي أهداني السيد ، و قد كتب عليها :
(إلى غاليتي الفضولية: روايتي:
– الطريق إلى قلبك ) .
النص خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة