د. جمال سند السويدي
تعد دولة الإمارات العربية المتحدة، منذ تأسيسها وحتى اليوم، أكثر الدول حفاظاً على القيم الثقافية والأخلاقية والعادات والتراث والتقاليد من خلال مبادرات وأنشطة وسياسات يرتكز بعضها على التراث والعادات العربية الأصيلة، وبعضها الآخر على القيم السامية المأخوذة من القيم الروحي للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، للدين الإسلامي.
وقد استطاعت القيادة الرشيدة من خلال اتباع إرث «زايد الخير» ترسيخ العادات والتقاليد في المجتمع الإماراتي، وتحصين الدولة والمجتمع من رياح أي ظواهر سلبية مهما تكن الحملات والقوى المروجة لها بفضل اتسام القيادة الرشيدة بروح المبادرة وامتلاكها القدرة على استباق الأحداث واستشراف المستقبل، واتخاذ ما يلزم تجاه أي مشكلة قبل تحولها إلى أزمة ينطبق ذلك على التعامل مع رياح الترويج للمثلية التي هبت في الفترة الأخيرة، فعلى الرغم من أنها تطال العالم العربي كله، فإن ثقتنا في قيادتنا الرشيدة لسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، تجعلنا مطمئنين على قدرة دولتنا على مواجهة تلك الحملات الممنهجة للترويج للمثلية ومجتمع الميم في العالم أجمع.
تلك المقدمة كان لا بد منها ونحن بصدد الحديث عن مجتمع الميم، الذي بات ظاهرة تمثل خطراً على جميع المجتمعات، بما فيها الدول الغربية المتقبلة له والمروجة والداعمة لمطالبه، وأصبحت تلك الظاهرة تمثل إشكالية كبيرة للدول العربية والإسلامية، لا سيما دول الخليج العربي، ويرجع ذلك إلى ثلاثة أمور:
الأول: وجود أفراد وجمعيات ونوادٍ داخل دول عربية عدة تروج لهذه الظاهرة الشاذة، وتؤيد مطالب «مجتمع الميم»، ليس بمسلك الخجل المصحوب بالشعور بالعار، وإنما بمسلك الجرأة الممتزج بالشعور بالفخر.
والثاني: ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي في الغرف المغلقة لدفع الدول الشرقية والعربية للاعتراف بمجتمع الميم والتجاوب مع مطالبهم، والتوقف عن معاقبتهم على أفعالهم.
والثالث: وجود رفض مجتمعي عربي وخليجي لهذه الظاهرة، لكونها مخالفة للشريعة الإسلامية، فضلاً عن أن الاعتراف بها يعصف بالقيم والعادات الأساسية للمجتمعات العربية والخليجية خاصة، وذلك لما تتضمنه من قيم مغايرة وسلوكيات دخيلة، يمكن أن تفتت في حال التغاضي عنها مقومات النسيج الاجتماعي في الدول العربية.ويثير الترويج للمثلية ومجتمع مثلي الجنس تحديات سياسية واجتماعية وأمنية في العالم العربي، خاصة أن هناك حملة غربية ممنهجة لترويجها في العالم العربي، تُشارك في تنفيذها منصات عالمية أمريكية وأوروبية على شبكة الإنترنت، على رأسها «نتفليكس» و«ديزني»، وتوجب هذه الحملة على دول الخليج العربي وغيرها من الدول العربية تبني مواجهة واعية وشاملة للحفاظ على النسيج الاجتماعي لشعوب هذه الدول، وهو ما نناقشه بالتفصيل.التحديات التي يثيرها الترويج للمثلية تفرض ظاهرة المثلية ومجتمع الميم تحديات سياسية واجتماعية وثقافية وأمنية، تكمن خطورتها في أنها متشابكة وتهدف إلى فرض نمط سلوكي جديد على المجتمعات بشكل قد يطال هويتها الاجتماعية والثقافية والدينية والوطنية، ويجعلها مجرد كيانات هشة، تدور بلا إرادة وبلا وعي في فلك العولمة أو القيم الغربية بمبرر الدفاع عن حقوق الإنسان بالمنظور الغربي.
وتُعد محاولات جهات غربية فرض منظومات قيمية وسلوكية وفكرية وثقافية على الدول العربية، لا سيما الخليجية، من خلال الترويج للمثلية هي التحدي الأحدث والأخطر الذي يواجهه العالم العربي، ويرجع ذلك إلى أنها محاولات مصحوبة بحملات تقف وراءها جماعات ضغط تستغل وسائل الإعلام والدعاية المختلفة لفرض هذه القيم تحت شعارات حقوقية تدافع عن الحقوق الإنسانية، وتضغط هذه الجماعات المدعومة عادةً من حكومات دولها، في مسارات عدة، منها السياسي لتغيير ثقافة وهوية الدول المستهدفة، ومنها القانوني لتغيير التشريعات والقوانين وتعديلها في اتجاه القبول بالظاهرة، والاعتراف بمجتمع الميم، كأقلية لها مطالب وحقوق مشروعة، على الرغم من أنها تعد سلوكيات غريبة وشاذة على المجتمعات الشرقية والعربية.ومما يجعل هذا التحدي مختلفاً عن التحديات الأخرى التي تواجهها دول المنطقة أن هناك منصات ترفيهية عالمية معظمها أمريكي يجري توظيفها للترويج لمجتمع الميم، وتستغل هذه المنصات وعلى رأسها «نتفليكس» و«ديزني»، التقنية الرقمية لنشر أفلام ومسلسلات وروايات وبرامج تحتوي على مشاهد إباحية تروج للمثلية، وتكمن خطورة هذه المنصات في انتشارها الواسع، ودخولها إلى كل بيت ما يشكل خطورة كبيرة على الأطفال والناشئة، وكذلك الشباب، بل وباقي فئات المجتمع معرضون للخطر نفسه.
أظهرت نتائج دراسة بحثية قائمة على أسلوب تحليل المضمون، أجريت على مسلسلات منصة «نتفليكس» في الفترة 2017 إلى 2020، أن «نتفليكس» تقدم في أعمالها الفنية الشخصية المثلية على أنها شخصية متفهمة للحب والحياة أكثر من غيرها، وقدوة لغيرها في الحب والوفاء، شخصية تتمتع بالحكمة والخبرة في الحياة وكرم الضيافة وحب الفكاهة والبشاشة، واثقة في نفسها وتشع الثقة في الآخرين، يُضاف إلى ذلك، أن عرض «نتفليكس» للمثليين يكون إيجابياً في المعظم وفي العلاقة الزوجية للمثلي، فهو شخص قليل الخلافات مثالي ومخلص ومتفهم، ينتج علاقة أسرية ناجحة بنسبة تصل إلى 79%، ويسعى في ممارسة العلاقة الحميمية إلى علاقة متكاملة..
وتزداد حدة هذا الخطر الداهم في ظل تزايد الإقبال على الاشتراك في هذه المنصات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يبلغ عدد المشتركين في منصة «نتفليكس» 220 مليون مشترك، مقابل 221 مليون مشترك لمنصة ديزني»، ومن المتوقع أن تصل منصة «ديزني» إلى 245 مليون مشترك في 2024.
استهداف دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج العربي:
تهدف حملات الترويج للمثلية في دول الخليج العربي إلى نزع مبررات الخصوصية الثقافية لهذه المجتمعات كأحد أهم مرتكزات موقفها الرافض لمجتمع الميم، ويترتب على هذه الحملات وما تدعو إليه، آثار سلبية على القيم الثقافية والعادات الاجتماعية المتأصلة في تلك الدول، ما قد يؤثر على استقرارها الاجتماعي،
ويمكن حصر أهداف تلك الحملات في ثلاثة بنود هي:
أولاً: تغيير الميول والأفكار والاتجاهات في المجتمعات العربية والإسلامية، وتحييد تأثير القيم الدينية والأعراف المجتمعية، وكذلك القيم الثقافية والأخلاقية على الموقف من المثلية والمثليين، دون التفات إلى أن هذه الحملة تسبب انحرافاً خطيراً عن قيم هذه المجتمعات.
ثانياً: إدخال الطفل الخليجي والعربي في دوامة صراع بين ما يعيشه من مثل وقيم وعادات وتقاليد، وبين ما يراه من أفكار مغايرة، تركز على الغرائز الجنسية المخالفة لطبيعة البشر، وذلك بقصد تغريبهم وجعلهم يعيشون في حيرة وتذبذب بشكل دائم.
ثالثاً: إقحام الأطفال والشباب في الدول العربية الخليجية في الجدل الدائر في العالم بشأن بعض الأفكار السائدة عن المثلية، مثل ادعاء أن المثلية تسبيها جينات محددة لا دخل للشخص المثلي فيها أو العوامل الاجتماعية، وبالتالي من حقه أن يعيش حياته كما يريد، بالإضافة إلى التركيز على مبررات يجري تجنيد الباحثين والأطباء والإعلاميين وأصحاب الرأي والفنانين لترويجها على أنها حقيقة، على الرغم من أنها ليست كذلك، فضلاً عن تعمد المروجين للمثلية عدم عرض الحجج المضادة التي تكشف كذب مبرراتهم في الدفاع عن مجتمع الميم.أخطر وسائل الحملة العالمية في الترويج للمثليةتستخدم المنصات الترفيهية العالمية وسائل عدة للترويج للمثلية، ونشر أفكارها،
وسائل الترويج الخطيرة
بيد أن أخطر وسيلتين للترويج لذلك هما، الأولى: مضمون الرسائل التي تحتوي عليها الأفلام والمسلسلات، والثانية: تنويع الشخصيات المثلية في هذه الأفلام والمسلسلات خاصة الكرتونية، وذلك لضمان أقوى تأثير في نفسية وذهنية المتلقي، إذ أظهرت نتائج دراسة بحثية قائمة على أسلوب تحليل المضمون، أجريت على مسلسلات منصة «نتفليكس» في الفترة 2017 إلى 2020، أن «نتفليكس» تقدم في أعمالها الفنية الشخصية المثلية على أنها شخصية متفهمة للحب والحياة أكثر من غيرها، وقدوة لغيرها في الحب والوفاء، شخصية تتمتع بالحكمة والخبرة في الحياة وكرم الضيافة وحب الفكاهة والبشاشة، واثقة في نفسها وتشع الثقة في الآخرين، يُضاف إلى ذلك، أن عرض «نتفليكس» للمثليين يكون إيجابياً في المعظم وفي العلاقة الزوجية للمثلي، فهو شخص قليل الخلافات مثالي ومخلص ومتفهم، ينتج علاقة أسرية ناجحة بنسبة تصل إلى 79%، ويسعى في ممارسة العلاقة الحميمية إلى علاقة متكاملة..
وفي ما يتعلق بتنويع الشخصيات، أشارت الدراسة إلى أن الفئات العمرية للشخصيات المثلية في المسلسلات متنوعة، ويتراوح عمرها بين 13 و17 سنة بنسبة 50%، وأظهرت أن هناك تعدداً في الميل الجنسي لهذه الشخصيات وأن نسبة الشخصيات ذات الميول المثلية فقط بلغت 78.5% مقارنة بنسبة 21.4% للشخصيات متعددة الميول المثلية الجنسية، بالإضافة إلى أن نسبة عدد الذكور في المسلسلات بلغت 85.7% مقارنة بـ14.2% للإناث.
وسائل المواجهة قد يتفق الجميع على أن التصدي لحملات الترويج للمثلية بات ضرورة ملحة، لما تمثله هذه الحملات من انتهاكات لثقافة وهوية المجتمعات والدول العربية وقيمها الأخلاقية وعاداتها وتقاليدها، فضلاً عن أنها تمثل عدواناً على كرامة الإنسان واستقلاليته وحريته، إذ صار حق الحفاظ على الثقافة الفردية والمجتمعية والتقاليد الراسخة في نظر المروجين للمثلية نزعة عنصرية، وحتى لا تتغلغل في بعض أفراد مجتمعاتنا تلك الثقافة دون أن نشعر، ينبغي إعداد استراتيجية مبتكرة لحماية المعايير الأخلاقية والسلوك الاجتماعي أو إطار عمل خليجي على أقل تقدير لمواجهة مخاطر الترويج للمثلية، لما لها من مخاطر كبيرة على الأطفال والشباب في دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها من دول الخليج العربي.ولا يعني مقترح الاستراتيجية أو إطار العمل التقليل أبداً من الجهود والمبادرات القائمة بالفعل، وإنما يهدف إلى دعم تلك الجهود والمبادرات بجهود وبمبادرات إضافية، وذلك لخطورة المسألة وجسامة مخاطرها، فدولة الإمارات العربية المتحدة توجد بها قوانين تقضي بمعاقبة «أي عمل فاضح علني مخل بالحياء»، وعلى صعيد مدونات السلوك وأحدثها، وافقت وزارة التربية والتعليم في نهاية عام 2022، على مدونة «قواعد سلوك جرى تحديثها خاصة بالمعلمين والمعلمات يحظر أحد بنودها «مناقشة الهوية الجنسية أو المثلية الجنسية أو أي سلوك آخر يعتبر غير مقبول للمجتمع الإماراتي» داخل الفصول الدراسية، وفقاً للمادة 358 من قانون العقوبات الاتحادي، يعاقب بالغرامة «التي لا تقل عن ألف درهم ولا تتجاوز خمسين ألف درهم من أتى علناً فعلاً فاضحاً مخلاً بالحياء».واستناداً إلى هذا وذاك، فإن هناك حاجة ملحة لعمل جماعي عربي وإسلامي وعالمي تشارك فيه الشخصيات المؤثرة من مثقفين ورجال دين وتربويين، وكل فئات المجتمع وعبر الثقافات المختلفة، للضغط على المنصات الترفيهية والتأثير على توجهاتها، وهناك تجارب مهمة يمكن الاستفادة منها طبقتها دول مثل تركيا والهند وروسيا والبرازيل تجاه «نتفليكس» و«ديزني»، كذلك يمكن الاستفادة من حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الصادر بالإجماع في ديسمبر 2022، الذي لا يقر زواج المثليين كحق من حقوق الإنسان الذي يقوّض إحدى الركائز الأساسية لمبررات «مجتمع الميم» من أجل الاعتراف بهم.ومن أجل الحماية المجتمعية للنشء والشباب، يمكن إنتاج برامج وأفلام تبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة والقيم الخليجية والعربية في التصدي للشطط الذي بلغته حملة الترويج للمثلية، التي تؤثر على الأطفال في دول العالم بإنتاج محتوى ترفيهي مناسب،
ويمكن أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة رائدة في إنتاج ترفيهي تربوي خليجي للأطفال والشباب يواكب الثقافة الرقمية ويستفيد منها.
كاتب المقال: أ.د. جمال سند السويدي ، مفكر وكاتب وخبير استراتيجي إماراتي، يشغل منصب نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
عذراً التعليقات مغلقة