فارس الخطاب
شاركت القوى الإيرانية اليمينية واليسارية الليبرالية والعلمانية والإسلامية كافة في الثورة الشعبية التي رفعت شعاراً واحداً لهدفٍ أوحد،ألا وهو “إسقاط نظام الشاه بشكل كلي” ، وقد تحقق ذلك وتم تحويل إيران من نظام ملكي دستوري إلى جمهورية إسلامية زعيما ومرشدها “الخميني” الذي كان من بين أهم دعواته منذ بدأ قيادته الفعلية لإيران هو مد الثورة أو ما سُمي حينها بـ “تصدير الثورة” إلي دول الجوار ، كما باتت المؤسسات التشريعية والقضائية تحت سيطرة رجال الدين ، فيما كانت المؤسسات التنفيذية من نصيب المثقفين الإسلاميين والليبراليين التكنوقراط ، والمؤسسات الإعلامية لليبراليين واليساريين ، المؤسسات العسكرية والأمنية فكانت من حصة الحرس الثوري الإيراني مدعوماً من الشباب المنتشي بنجاح الثورة مع طبقة العمال التي كانت تنتظر إنفراجة كبيرة في تحسين أوضاعها مقارنةً بفترة الشاه.
لم تكن الحكومة الإيرانية وبقية الأجهزة العاملة في إيران فاعلة حقاً أو ذات صلاحيات حقيقية تمكنها من إدارة دفة مؤسسات الدولة بشكل مثمر وصحيح ، وقد لمس ذلك أول رئيس حكومة مؤقتة لإيران بعد الثورة ، المهندس مهدي بازركان ، الذي لجأ بعد إكتشافه شكلية الوزراء الذين تم ترشيحهم لكابينته الوزارية وعملهم لصالح أحزابهم وليس لصالح برنامجه الحكومي ، لجأ إلى الخميني نفسه الذي كان يتفهم معاناة “بازركان” حتى إسقالته وقراره التحول من الجهاز التنفيذي إلى التشريعي ، ليأتي من بعده دور الدكتور أبو الحسن بني صدر كأول رئيس للجمهورية في إيران ، الذي ركز على هدف توافق به مع الخميني ذاته ، وهو التخلص من التبعية الاقتصادية.
إضافة إلى الإضطرابات واللاوضوح في مسيرة الثورة داخلياً، فقد رفع “الخميني” شعار الاستقلال الوطني وعدم التبعية للقوى الكبرى، وقد كانت أول ترجماته اقتحام مجموعة من الطلاب الثوريين الإيرانيين مبنى السفارة الأميركية في طهران عام 1979م، وتم قطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، صاحب ذلك تهديدات بنقل الثورة الإسلامية إلى دول الجوار العربية ؛ العراق ، البحرين ، المملكة العربية السعودية وغيرها ، مع إعتماد خطاب سياسي خالٍ تماماً من الدبلوماسية مع معظم دول العالم مما ساهم في عزل النظام الجديد في إيران الذي بدأت الأوضاع الداخلية فيه أيضاً تزداد سوءاً خاصةً مع بدء الحرب العراقية- الإيرانية في سبتمبر 1980م ، التي أدخلت المؤسسة الحاكمة في طهران وكل القوى الثورية الإسلامية المؤيدة لها في حالة إستنفار في جميع مناحِ الحياة لإيران ، وحولت إقتصادها الضعيف إلى إقتصاد حربٍ هش مما دفعها إلى البحث عن دول تساعدها في دعم ميزانية الحرب واستمرارها.
بتقديري لم تمارس إدارات الحكومات الإيرانية منذ يناير / شباط 1979م السياسة في تعاملاتها الدولية، واستعاضت عن الخطاب السياسي والدبلوماسي المعتمد في العلاقات الدولية، بشعارات فضفاضة مرتبطة بالثورة الإسلامية والتحشيد الجماهيري الإيراني وغير الإيراني (شيعة العراق والبحرين والمملكة العربية السعودية وغيرها) ضد “الشيطان الأكبر” و”صدام حسين” وبعض حكام دول الخليج العربي.
إن العمل التعبوي الممنهج والمنظم للحرس الثوري الإيراني ، وهو القوة العقائدية والفكرية والعسكرية ، المناط بها موضوع “تصدير الثورة الإيرانية ، وتحركه بشكل استخباراتي منظم في دول شرقية وغربية ، وإنكشاف بعض هذه التحركات الخاصة بالتغيير الطائفي في دول مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب وسواها ، عمق من الهوة الدبلوماسية بين إيران والكثير من دول العالم ، ورغم ذلك ، ورغم تسلم زمام إدارة البلاد لعدة روؤساء متشددون أو إصلاحيون في طهران ، إلا إن هذا النهج لم يتغير ، بل يمكن القول ، لم يجرأ أحد على تغييره ، وهو أيضاً ما ساهم في زيادة عزلة إيران وعدم قبولها بإطمئنان في محيطها الإقليمي والدولي.
بحسب متابعتي للملف الإيراني ، فإن إيران وطيلة تاريخها الحديث كانت من الدول المتميزة دولية وطهران كانت إحدى العواصم العالمية حتى رحيل الشاه وتغيير نظام الحكم فيها ، ومرد ذلك بالدرجة الأساس نظام الدبلوماسية الإيرانية الذي لم يستخدم الذراع العسكري على حساب السياسي والدبلوماسي ، بل إن نجاح السياق السياسي لإيران أرخى بظلاله على قوتها العسكرية والاقتصاديةوجعلها من الدول المُهابة والمحترمة رغم بعض الملاحظات الخاصة بحقوق الإنسان التي كانت يشار بها إلى قبضة (السافاك) للقوى المعارضة في داخل وخارج إيران.
لقد أحدث الرئيس الإيراني (المتشدد)، إبراهيم رئيسي ، بتكتيك سياسي ملحوظ ، تغيراً بدا ملموساً في العلاقات الدولية لإيران عندما رشح ، حسين أمير عبد اللهيان ، وزيراً للخارجية ، وبدت خطوة رئيسي للكثير أنها متسرعة وأن عبد اللهيان ليس هو الأجدر يخوض غمار هذه التجربة كون سجل خبراته هي غالباً في العمل الدبلوماسي في دول مهمة لإيران مثل العراق والبحرين ، وأيضاً لإن الأجواء الحالية شديدة التشابك والتعقيد سواء في المحيط الإقليمي العربي (المملكة العربية السعودية ، الإمارات العربية المتحدة ، العراق ، سوريا ، لبنان ، مصر .. وغيرها)، أو المحيط الدولي متمثلا بالعلاقات مع الولايات المتحدة وبريطانيا ومجموعة الإتحاد الأوروبي،ثم العلاقات مع الدول التي باتت الآن أقرب إلى وصفها بالحليفة وهي (روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وفنزويلا.. وغيرها).
إن شخصية عبد اللهيان التي تمرست على العمل والمتابعة في ملفات عربية وأفريقية أعطت رسائل طمئنة إلى دول عربية كالمملكة العربية السعودية التي بلغت حدة التوتر معها درجة التصعيد القصوى خاصةً مع تدخل إيران الواضح والمباشر لجماعة أنصار الله الحوثية في اليمن وتسببها عن قصد بتحويل حرب اليمن إلى حرب إستنزاف للمملكة لم يكن بالإمكان تحمله والاستمرار فيه. وفعلاً لم يمض الكثير من الوقت، حتى أعلنت جمهورية الصين الشعبية نجاحها في رعاية وضمان إتفاق إيراني-سعودي سيساهم في حل المعضلات والمشاكل التي تعيشها المنطقة العربية ومنها الملف اليمني ، وفعلاً أعقب توقيع الأطراف الثلاثة على الاتفاق في بكين بدأت الإنفراجة تأتي من اليمن أولاً حيث نجحت وساطة عمانية بالحوار مع الحوثيين وبرعاية السفير السعودي في اليمن في محاولة لتهدئة الأوضاع والاتفاق على هدنة لستة أشهر تستمر حتى نهاية عام 2023 تتضمن إجراءات لفتح مطار صنعاء وتشغيل ميناء الحديدة وصرف الرواتب للعاملين في الدولة مع إستمرار المفاوضات من أجل تكريس الوحدة اليمنية .
إن الولايات المتحدة التي تراقب التحركات الدبلوماسية الإيرانية والتي تعتبرها محاولة لترميم أو تأجيل صراعاتها مع جيرانها العرب إعتماداً على دعم روسيا والصين وصولاً إلى تفاهمات مشتركة في توظيف القدرات بمنطقة الخليج العربي ومضيق هرمز، غيرت من تكتيكاتها ايضاً من خلال تحشيد قوات ضاربة في منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر والعراق وشرق سوريا ، في محاولة منها لإفشال سلوك إيران الدبلوماسي الناعم الذي حقق لها حتى الآن مكاسب إقليمية ومحورية تعتبرها واشنطن خطيرة جداً.
عذراً التعليقات مغلقة