سذاجة – قصّة قصيرة- للكاتب المغربي محمد الدرقاوي

سذاجة – قصّة قصيرة- للكاتب المغربي محمد الدرقاوي

آخر تحديث : السبت 26 أغسطس 2023 - 12:19 مساءً
محمد الدرقاوي 

  ـ  كاتب من المغرب
thumbnail PHOTO 2023 08 07 13 27 33 - قريش
محمد الدرقاوي

سذاجة

سذاجة…اليوم   الأول في عيادتي  بعد عطلة العيد ،كانت نهاية  عمل الفترة المسائية   متأخرة عن المعتاد، الساعة  على وشك الثامنة .. حتى الغذاء اكتفيت بلمجة قلب العيادة  مع  حليمة مساعدتي..

سدت حليمة باب العيادة وشرعت  تعيد ترتيب مكتبي  كعادتها   قبل أن تدخله  المنظفة  ، بينما كنت في غرفة صغيرة أنزع  وزرة العمل ..

طرقات قوية  متتالية على باب العيادة  متبوعة بضغطات  طويلة على الجرس. 

سألتني مساعدتي  بتراخ :

ـ هل أفتح الباب ؟ قد تكون حالة مستعجلة ..

ـ تعبت ولا أستطيع فحص أي كان .. ألم تتعبي؟..

ـ تبسمت وقالت : أكاد أسقط من طولي..

الطرقات تتوالى ، ولا تدل أن  من يقرع الباب  بهذا العنف  مريض..

ارتديت بدلتي وتوجهت نحو الباب  أفتحها ..

رجل قصير القامة  بدين ، يميل الى السمرة  ،اشعث الشعر ،  يرتدي جلبابا رصاصي اللون فاض عن حجمه ،  بسرعة هاجمني :

ـ أين هي ؟

ـ من ؟

ـ ألا تعرفها ؟..تشتغل عندك ولا تعرفها !!  ؟..

من تقصد ؟ وعمن تبحث ؟

زوجتي ، هل لازالت بالداخل ؟

وأنا افكر في مساعدتي  حليمة  التي أدرك أنها غير متزوجة  بادرني وقد مد يده يزيحني عن الباب   يريد الدخول الى العيادة ..

بمرفقي صددته بقوة ..

ـ ألست الموثق صالح ؟

قلت بقلق ظاهر :

ـ لست الموثق صالح وليس في العمارة موثقون..

نظرة ارتياب وشك  من عيون لايستقر لها سواد على بياض  شيعني بها قبل أن  يتركني  ويدلف الى المصعد ..

أشعرت حليمة  بانصرافي ، سددت الباب  خلفي  خوفا من أن يعود ويفزعها..

في المرأب  وجدته تائها  بين السيارات  كأنه قد ضل طريقه  ، ما أن رآني حتى اسرع الي يبادرني :

ـ كنت أتمنى أن أجدها حتى يعرف حقيقتها  كل من في العمارة ..

ـ تركته ودلفت الى سيارتي ،لكن خلفي كان يسرد أزلية حول أراضيه وأملاكه التي تم الاستحواذ عليها بالتزوير  ، حول تجارة كان يسيرها  وصارت بقدرة قادر  في ملكية زوجته ..

“لما استولى الموثق على كل ما كنت أملك تركتني لتتزوجه  وبين عشية وضحاها صرت متشردا لا أملك  شيئا ، مخلفة ثلاثة أطفال  ،ليس  عندي من يرعاهم “..

أدركت أن الرجل   ربما مجنون تتصارع الخيالات والاوهام في عقله فيتخيل مالا يمكن تصديقه ..

في البيت   وقد أثارني غياب  زوجتي  ، وجدت حماي وحماتي في انتظاري ، حالتهما تنذر بكارثة قد وقعت ،  هل سليمة بخير ؟ شرر يتطاير من عين حماتي  التي حاولت الكلام فمنعها حماي :

ـ والله لو نبست بكلمة واحدة لكان اليوم نهايتنا معا..

ـ أعوذ بالله ماذا وقع ؟  أكره أن تركبني مشاعر مفاجئة  ،أو قد تستحوذ على تفكيري مفاجآت لم أكن مستعدا لها ..

لأول مرة  أرى حماي رغم عشرتي الطويلة له في لحظة غضب كهذه ..

طلب مني حماي أن ندخل الى مكتبي  ثم نتكلم..

بسرعة لبيت رغبته  ،فما في صدري من حرائق يلزم أن أعرف سببه ومصدره حتى أبادر بإطفاء النيران ..

جلسنا وجها لوجه ..

ـ نعم ماذا وقع ؟ سليمة بخير

ـ  زوجتك سليمة تريد الطلاق..

أعوذ بالله ماذا وقع ؟ ولماذا ؟ ..تركتها صباحا ونحن معا سمنا على عسل..

حملق في وجهي كأنه يريد أن يقرأ مافي عيوني ثم قال :

ـ هل تصدقني القول ؟

ـ كيف لا أصدقك القول وانت أبي بل وأكثر ،أنسيت أنك عمي وأنت من رباني وسهر على دراستي الى أن تخرجت ..

كان يطأطئ برأسه الى الأرض وأنا أتكلم  ..حرك رأسه سلبا وقال :

سابقتك  أفاقت  الغيال ، و جعلت الكل يصدق ما سمع ..

ـ ماذا سمعتم ؟ ومن القوال ؟ ..

وتذكرت أني كنت أمازح  زوجتي سليمة يوما فقلت لها :

ـ إذا لم تبادري بالخلفة سأتزوج..

رغم الحب الذي تعلم أني أكنه لها وأن ما يسري في دمي هو حبها  وأني لن استطيع أن أسمح بوجه غير وجهها يضمه صدري  فقد بكت يومها  وفي غفلة مني  انسلت من البيت الى بيت أبيها ..

دعابة تسلية تحولت الى لحظة تراجيدية  انهيناها بحوار ونقاش جدي  في بيت صهري وهمسة في مسمعها بعيدا عن أبويها  مذيلة بشهادة لما عدنا الى البيت تثبت أني العاقر وأنا من يتوسلها أن تقبل بي زوجا أبديا..

مر على هذا الحدث أكثر من ثلاث سنوات ونحن نعيش أسعد زوجين على وجه الأرض ، وبعد أن أصيبت سليمة  بسرطان القولون أصررت على أن تترك عملها  كإطار بنكي  ضمانا لراحتها ،فسعادتي أن نحيا معا بعيدا عن كل ما يضاعف من آلامها ..

فماذا وقع اليوم ؟ وما الذي غير مزاج زوجتي ؟ وقد بتنا ليلة كعروسين ليلة دخلتهما ،وتركتها صباحا بعد فطور معا وقد اتفقنا أن يكون عشاؤنا الليلة في احد المنتزهات الجديدة  وصلتنا من إدارته دعوة للعشاء والسهرة ..

كان حماي بكل لباقته ورجاحة عقله يتابعني بنظر وكأنه يقرأ  أفكاري وشريط الأحداث الذي يمور في عقلي..

رفع راسه وقال :

بني !!.. سليمة وقعت تحت صدمة مبلغ كاذب  ، أتى البيت خصيصا ليبلغها أن زوجته قد تركته من أجلك وقد تركت له ثلاث أبناء وليس لديه من يرعاهم ..

انطلت الكذبة  على سليمة  فسقطت في وهم أن ما تسمعه حقيقة  ففقدت توازنها ولولا الخادمة التي انقدتها لكانت في خبر كان ..

هي الآن في بيتنا وتصر ألا تعود اليك..

المصيبة هي أن أمها شجعتها على طلب الطلاق بدل ان تظل  بنتها تحت رحمة تهديداتك ..وقد أكد لها  اليوم اعتذارك عن المجيء للغذاء وتاخرك مساء سوء ظنها ..

عمي   !! .. بعد ثلاث أيام من عطلة  كانت العيادة اليوم في اكتضاض حتى غذائي لم يتعد لمجة صغيرة ..

ـ أثق بك بني ، فانت عجيني لكن يلزم أن نعرف من هذا المبلغ الكذاب ؟

استغراب  سرقني بتفكير جعلني  أسائل نفسي :

الى متى ستظل سليمة تلفها سذاجة تناقض ثقافتها وخبرتها وشواهدها ؟

كثيرا ما أحكم بتغيرها وذكائها مما يستحوذ على اهتمامي برضا فأزداد بها تعلقا،لكن أحيانا وقليلا ما يحدث تسقط في أفكار مغلقة هي اثر من أمها التي كانت قد أصيبت بنوع من الهذيان شفيت منه تماما بعد علاج في كندا ..

تذكرت قولة نسيت  صاحبها :

“احترزوا من السذّج، ومن كلّ من يبدو ساذجا، فأحيانا يكون السّاذج أشدّ فتكا من ذاك الذكيّ، النبيه، النّابغ”

في بيت صهري وجدت سليمة وجها منقوعا في صفرة وعيونا اكتحلت باحمرار..

لما حاولت عناقها هاجت باعتراض فقاومت سلوكها  بصبر واحتمال ..  وحيث أني أكره اللجاج وهي بذلك أدرى   قلت والغضب يتلبسني  :

لم  آت اليك من أجل شرح ما وقع   أو أتوسلك  العودة الى بيتك   .. جئت  لاسمع سببا واحدا يجعلك  متأكدة من وشاية كاذبة  تحركين بها عائلة   للمرة الثانية  بعد عشر سنوات من زواج  وكان من العقل  أن تنتظري  عودتي  فنناقش الأمر بيننا  بعيدا عن إقلاق الغير  وترويعه ..

ثم فجرت ُأمام الجميع  شهادة عقمي ، التي اكتشفت أن حماتي لأول مرة تسمع بها..

أخرست المفاجأة لسان  حماتي وأكتفت  بالقول والخوف من تفاقم  النزاع  :

ـ من اليوم سأعفي نفسي من الخوض في أمورك..

كنت أتصور أن سليمة قد تجردت من كثير من العادات  وأوهام  بعض النساء المتوارثة  التي نشأت عليها وأن  تعاملنا  مع واقعنا الوجودي  بروح  من التفاؤل  وسعادة الرضا  بمايحسه كل منا نحو الآخر هو فوق كل الظنون   ،  أما والكسل الذهني  هو لازمة  نتشبث بها فلاغرابة ان صارت السذاجة   عند البعض  فلسفة حياة “..

رميت هذه الكلمات  بحدة  وتأهبت  للانصراف ..

الكل صار ينتظر من  سليمة ان تدلي بسبب  ثم تصف الرجل الكذاب الذي طرق بابها ..

أكتفيت بهز رأسي ثقة من  تخميني  أنه لن يكون الا المجنون الذي أتى متأخرا الى عيادتي .. فالكلام متطابق بين ما سمعت وما رماني به الرجل المجنون .. لكن من هو ومن علينا قد سلطه ؟

هممت بالانصراف  وقلت لسليمة:

أنا تعبان وأريد أن أنام  هل ترافقينني الى البيت أم بيت أبويك أولى بك ؟ 

الكل حبس لسانه  وجحضت عيناه ..كنت أنتظر أن تفصح سليمة عن رغبتها أو استمرارها في ما طلبت..

نظرة متفحصة رمتها على وجهي وكأنها تقرأ ما وراء كلماتي القوية  ،لم تعقب  الا بشهقات ودموع  هاطلات ..

شيعت والديها بنظرة  تحمل كل تفاصيل ما يغلي في نفسها .وبادرت  الى جانبي ..

كان حماي يتابعني  بنظرات كلها توسلات ..

رمشت بعيني استجابة وعد وصدق..

سليمة معي  ونحن  نجتاز البهو سمعت حماي يقول لزوجته :

لا أظنها تحتاج لمساعدة فهي على مارايت صارت بخير ولا ينقصها الا ثبات عقل 

في السيارة  حاولت سلمى أن تستدرجني للكلام:

ـ لن أحتاج منك الى تفاصيل ، موقفك قسم ظهري أما م أبي وأمي..

علّقتُ على كلامها ساخراً:

ــ هو ذا بالذات  ما يقلقني.

حين وصلنا البيت  ارتمت علي وأمطرتني بقبلاتها ..

نسيت تعبي ، نسيت نغصات   من سذاجتها ..أنثاي وأحبها ..

بعد مدة وقفت على حقيقة  الرجل ..

لم يكن مجنونا وانما كان ساذجا غبيا  ورث عن أبيه  ثروة طائلة  من أملاك وعقارات استعظمتها زوجته  فاستغلت غباءه  وسذاجته  بمساعدة  موثق مزور  أغراها بحب كاذب  وهجرة  الى  كندا ..

وغاب عني أو ربما من  السذاجة قد نلت حظا   أن  آخر من غادر العمارة  كان موثقا  قبل  أن يعاد ترميمها وتصير  العمارة خاصة بالأطباء  من مختلف التخصصات ..

القصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات واداب -لندن

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com