إنها الجمعة ليلا، أخيرا قررت أن أحمل أغراضي و أتتبع خطى هواي عساني أعثر على مبتغاي. كانت طنجة منارتي، قطب الضوء الذي يشدك إليه، رائحة أنثى تقودك خارج مدارات الوعي، خارج نفسك و داخلها في نفس الآن. كانت هذه المنارة قد صارت ما صارت إليه منذ أن خرجت لي حوريتها من أعماق الأشياء و المجهول لتشع وسط سمائي السوداء بجاذبيتها الشمالية، و لتتركني مأسورا باحثا في جزرها و أرخبيلاتها، مطوقا بأزهارها، ببسماتها، و بسحنتها الشمالية المحبوبة حتى التلف، كما إعصار إذ يهيج عند شاطئ ما، فلا يترك في طريقه إلا الذكرى و نوارس تحوم بحثا عن أثر ما.. مشدودا إلى هذا السحر أراوغ الدروب الأخرى التي تناديني و لا أستطيع الصمود أمام إغراء مدينة صارت بحجم امرأة أشهد أن لا امرأة إلا هي. امرأة حينما تحضر تغيب جميع النساء، لا بخيلاء زائف، لا بجمال كبريائي، بل بعظمة تختفي وراء بساطة نادرة. جمال خفي، متكتم، لا يكشف لك عن نفسه إلا إذا كنت صادقا معه. ففي زمن تتعرى فيه الأنثى للجميع يفقد الجمال جماليته، و تفقد الأنثى أنوثتها، من هنا تميز هذه العروس التي تخاف على زينتها من أن تفتضح، و تخاف على عطرها أن يشمه جميع الرجال التافهين، إنها تقتصد حتى في تمظهرها أمامك، لوعيها أن الجمال يكمن في خفائه، في سريته، لا في تبجحه. كيف تريدون مني أن أسلك طريقا غير هذه الطريق، ليست كل الدروب تؤدي إليها، فدربها مُرَمَّز، مُشَفَّر، و مفاتيحها مجهولة و لا سبيل إليها سوى المصادفة التي قد تقودك و قد لا تقودك. و وحدي في عراء الليل أحاول اجتياز الأسلاك الشائكة، أحاول القفز على الحواجز متتبعا عبيرها الصامت، فأنطح الخواء الذي يصارعني ضدي، فأصارعه ضده. تترصدني المجاهيل و تصدني الهواجس طالبة مني أن أعود من حيث جئت مانعة إياي من ملاقاة تلك العروس، كما لو أن الوقت لم يحن بعد حتى تتفتق أزهارها عن أريجها، كما لو أن مجال الرؤية ما زال غير ممكن بعد. لحظتها كدت أشعر بالخواء و السديمية، و بدت لي النوارس تشاكس بلا معنى، لكن في العمق ما يزال العبير يعبر فوقي و يلفني و يدعوني.. في الصباح، و أنا أصحو وجها لوجه أمام عذرية المكان و نقاوة النسيم، همت وسط شوارع المدينة المتثائبة، و حتى أستعيد الذكرى مررت وسط البولفار الفارغ إلا من المنسيين، و توقفت عند سور المعكازين، ثم نزلت عبر السوق الداخل لأجدني قرب ساحة الميناء، ثم شارع البلايا الفسيح..نزلت إلى البحر و جلست عند حافة شاطئه، أستلقي مستمتعا بصباح متمسك بعذريته. سرت أبحث عن غرفة في أحد الفنادق، كان أغلبها شاغرا. بعد بحث طويل استطعت أن أجد واحدة بفندق قرب شارع البلايا. أخذت حماما باردا، و بسرعة خرجت إلى المنار ممتطيا صهوة تاكسي صغير. هناك، راعتني روعة مياه المتوسط و هي تنبسط عند هاوية المنحدرات، وأنت فوقها عند ربوة عالية كما لو أنك تنظر إليها من خلال علو طائرة تطير بك جوا. هنا فتنة أخرى و لا مجال لفتنة غيرها، كما لو أنه جزء آخر من فتنة عروس الشمال يفتنني، يهزني عاليا لكي أقيس مسافة الفقد حينما سيمحي المكان عن المكان. تلقيت رسالة عبر هاتفي المحمول تهنئني على وصولي، و تسألني عن مكاني. فأجبتها أنني مسحور بسحر أمكنتك، مأخوذ بروعة ما يروعك، إنني في المنار. اعتقدت أنها ستأتي لكن خاب أملي. انشغلت بالإنصات إلى لهجة أهلها، فتأخذني متعة الإنصات و لذة الذكرى. قررت أن أنزل إلى شاطئ قريب، هناك تناولت وجبة غذائي و ظللت في المقهى المشيد من القصب أراقب الناس و هم يسبحون. لم تكن معي مظلة شمسية تقيني حرارة الشمس لذا امتنعت عن السباحة خوفا من أن تحترق بشرتي. بعدها عدت إلى الفندق صاعدا جبلا ذكرني بجولة جبلية بين جبال الأطلس الشامخة. أخذت حماما باردا، استرحت قليلا، ثم خرجت لا ألوي على شيء إلى أن جاءتني رسالة منها تسألني:” أين أنت؟ أنا قادمة “. كيف يمكن لي أن أصف الذي لا وصف له؟ لا مجال للكلام و لا يمكن للتعبير أن يعبر عما يتجاوزني، تبدو تعابيري بائسة أمام حجم الهزة التي سربلتني إياها رسالتها القصيرة. بعد انتظار وجيز، خرجتْ من بين أمواج البشر هي دون غيرها عروس الشمال. تساءلت مرارا هل أنا في سبات أم أنها الحقيقة عينها، كنت أريد أن أقول لها اغرزي أظافرك في و ألميني عساني أتيقن أنني أنا الذي يقابلك و ليس خيالا مني، أو أنك أنت من أقابل و ليس طيفا منك. صافحتها، تأملتها، تمشينا بالقرب من بعضنا. أخذتني إلى أقرب مقهى تطل على البحر حيث نسائم الصيف المسائية تضفي ما تضفيه. كنت مفتونا بهذا اللقاء، كل حواسي كانت مستنفرة للتلتقط كل ذرة منها. كنت أقول بيني و بيني: ها هي الآن هنا، يكفي أن تمد يدك كي تتحسس واقعية وجودها، يكفي أن تنظر اتجاهها كي ترى إشراقتها. تحدثنا عنا و عن الآخرين، تأملنا ذاتنا و غيرنا، فأخذنا الوقت خارج الوقت، و حل المساء و أسدل الليل علينا ستائره، فأضفى على المكان عذوبة أخرى، و بدت جلستنا و لا أمتع.. و حينما تأخر بنا الليل قليلا نهضت تستودعني فقمت أرافقها. و عوض أن تأخذ التاكسي من أقرب مكان ظللنا نمشي و نستمتع بمشينا، نتسكع على امتداد الشوارع، كما لو أننا نقاوم بطريقة ما، نراوغ، لكن في الأخير نستسلم. يوم الأحد بدأت طبول الزمن تقرع نديرها، و أن نهاية هذا الحلم وشيكة. بدأت أشعر أن السعادة طيف لا يحق لك التمتع برؤيته أبد الدهر، فقررت أن أظل متيقظ الأحاسيس و ألا تفوتني أي صغيرة دون أن ألاحظها في جغرافيا هذا المكان. خرجت أتمشى وسط شارع البلايا. جميل أن تستيقظ و تجد نفسك تتمشى بالقرب من البحر، من عبيره، و شمسه. تتخيل نفسك طائرا هائما منحلا من قيود الزمان و المكان، متحررا من أعباء اليومي و الروتيني. تناولت وجبة الفطور، بعدها سرت أتمشى وسط الأحياء الطنجوية القديمة خاصة السوق الداخل مستعيدا فضاءات طنجة المتخيلة. قصدت مقهى الداوليز، و هناك استمتعت برؤية بانورامية لكورنيش طنجة، بحر على شاكلة حوض هادئ، ميناء تخرج منه سفن شاقة طريقها نحو الضفة الأخرى بلهفة، و أخرى عائدة محملة بالذكرى و الحنين و الوجع. عند الزوال قصدت أحد المطاعم المزدحمة أتناول غذائي، بعدها عدت إلى غرفتي بالفندق. ارتحت، نمت، استحممت، ثم خرجت إلى مقهى “خوضة بحر” أنتظر مجيئها. و أنا أتأمل الناس محتسيا فنجان حليب الدافئ، جاءتني رسالة هاتفية منها تطلب مني أن ألتحق بها بالقرب من مسجد محمد الخامس. هناك، وجدتها تنتظرني بابتسامتها، بمشيتها، بطلتها. وقفنا ننتظر الحافلة التي ستأخذنا إلى مغارة هرقل. كان الموكب الملكي يمر فأغلقت الطرقات. اضطررنا أخذ تاكسي كبير. أحسسنا و نحن على متنه بمتعة السفر، كانت قريبة مني جدا، و كان إحساسي بها قويا. حينما وصلنا تهنا عن المكان، أرشدتنا سيدة إلى الاتجاه الصحيح. تجولنا داخل المغارة و وسطها، كنت مشمولا بحضورها، كانت المغارة بهيبتها بأسرارها، تعكس هيبة اللحظة و فتنتها. كان شيء ما فيها يحولها إلى عظمة لا متناهية و تفجر الغوايات المستترة، كنت أريد فقط أن أعانقها و أذوب فيها، أو أن أختفي و أنزوي فيها كلاجئ من ويلات هذا الزمن. كنت كما ناسك متعبد لا يهوى إلا هي و لا هي إلا من يهواها. جلسنا وسط الناس، في ذلك المقهى الغرائبي، نحتسي كأس شاينا المنعنع، نراقب غروب شمس الأطلسي، و نستمتع بزرقة المياه، و امتداد الأفق نحو ضفة ما محجوبة عن الرؤية. لم نكن نهتم بالناس من حولنا، حتى ضجيجهم اختفى. وحده وجودنا صار ذا مصداقية و معنى، أما الآخرون فهم مجرد آخرين، ديكورات تؤثث وجودنا، كما عروسين في حفلة زفاف حيث لا أهمية للحضور و الكل موجود من أجل شخصين لا غير. أخذنا الوقت كالعادة و بدأ الغروب يغرب فحزمنا أغراضنا و عدنا. صباح يوم الإثنين، خرجت كالعادة لتناول وجبة الفطور، ثم عدت إلى غرفتي لأن أشعة الشمس كانت محرقة. أخذت حماما باردا، قرأت جريدة، ثم جلست أستمتع بقراءة بعض كتابات عروس الشمال. انشددت إلى طريقتها الممتعة في خلق سرد يختزل الأفكار و العواطف، يقتصد في اللغة و العبارات، لكنه يجعلك تنتشي. خرجت إلى أقرب مقهى و جلست أتابع القراءة، غصت في عوالمها أبحث عن لؤلؤ ما، عن جوهرة ما، فخرجت شارد الذهن، تائهه. نسيتني و نسيت أن أتناول غذائي في وقته.عدت إلى الفندق قصد ممارس القيلولة إلى ما بعد العصر. في المساء كنت على موعد معها، وقفت أنتظر مجيئها. و حينما انبثقت، لم أتوقف عن تأملتها. كانت ترتدي السواد: شالا أسود على رأسها، جاكيتة سوداء، و تنورة سوداء، و نظارات سوداء: هل جاءت لتشيعني؟؟ كتمت مشاعري و أنا أسير بالقرب منها وسط الناس، نتحدث، نناكت، نضحك. جلسنا بمقهى نتابع كلامنا، حواراتنا اللامتناهية، نصغي إلى بعضنا، نتأمل الوجوه و الأقوال، و نصغي إلى نبض الدماء. كنا نناشد اللحظة أن تتمطط أكثر، لكن اللحظة كانت دائما لحظة. خرجنا من المقهى، تمشينا، ثم كالعادة ناديت على تاكسي ليسرقها مني، و أسرقني منها. صباح يوم الثلاثاء بدأت أتهيأ للعودة. أخذت أتمشى وسط الطرقات التي ستصير ذكرى. و حينما هدني التعب جلست بمقهى أنتظر أن تعلن عن مجيئها.كان الموكب الملكي يتهيأ للمرور، فجاءتني رسالة هاتفية منها تخبرني أنها ستتأخر بسبب الطرق المغلقة. أخيرا رأيتها قادمة، من بعيد رأيت بشاشتها التي تسبقها، رأيت ابتسامتها، رأيتها قادمة بكل ما لها و ما عليها. و كان علي أن أختزن كل صورها حتى أتدفأ بها وسط صقيع غربتي بعيدا عنها. في المقهى جلسنا متقاربين، وحده الحنين يجرنا نحو بعضنا، وحده الخوف من الفقد يغمرنا، وحده الشوق يجعلنا نشتاق. كان الكلام يسترسل، يأخذنا في سراديبه، في منعرجاته، يتيه بنا، نستمتع به و ينشئ نفسه بنا، و نحن وراءه لا نلوي على شيء، إلى أن نجدنا و قد نهضنا و خرجنا و تمشينا ثم وقفنا ليسلك كل منا طريقه: هي إلى عملها، و أنا إلى محطة قطار يدحرجني بعيدا بعيدا.
إدريس رافين إدريس منذ سنة واحدة
كالعادة كتابة د.عزيز تجمع بين السرد الحكاءي بمزيج من الأدب و الفن و كثيراً من الخيال بأسلوب شبه فلسفي وغارق في عمق التعبير الراقي عن المشاعر.