قضايا أدبية
حميد المصباحي
كاتب وروائي من المغرب
الفكرة، تختلف باختلاف اللغات، ليس بالمعنى اللساني، بل بمعنى أن هناك أنماطا من الفكر، تقتضي أشكالا مختلفة من القول الفني المكتوب، هي غيرها في الفلسفي، والسياسي وحتى الديني، لذلك للفكرة في الرواية والشعر دلالتها، وخصوصيتها، فإذا كان الشعر يحاول السمو بها، باحثا عنها بما يناسبها من الكلمات، بحيث تنطق لتحيل على المعنى قبل تمثله، متجنبا الخشن منها نطقا وحتى إيقاعا، مستنجدا بموسيقى الصوت، لتسكن فيها المعاني هادئة مسترسلة، وتتشكل بها صور شفافة يظهر من خلالها غيرها الخفي، مما لا يلغيها أو يمس بناءها العام، فإن الرواية، تقدم الفكرة، كصورة مخدوشة الجوانب، وكأنها تبحث في المعتاد والمتلاشي في الحياة لتبعثه من جديد، غريبا في مبناه ومحتوياته متمايلة، منتشية بإعادة قراءة الجروح المنسية، تاريخا، وحالات نفسية، ومتاهات اجتماعية في عمق وعي الكائن البشري، أو حتى لا وعيه، لا تعتني الفكرة في الرواية بإيقاعات الكلمات، حتى لا يفتتن القارئ، بالمباح والمحكي، فينتشي السارد بقدرته الأسطورية على التحكم في غيره، وهي لعبة الروائي، الذي كلما أخطأ التصويب، علق كلماته متهما بالغواية السارد، ليهرب هو من مسؤولية البوح المفضوح، ناسيا وضوحه وعراءه و هو ما يسميه النقاد السارد تجنبا للحرج، بينما الشاعر يظل سيد القول، هو ما يقول ويكتب، لكن ألا يتفاعل هذان الكائنان؟
عندما يكتب الشاعر رواية، ندرك شاعريته، بنسجه لأحداث منفلتة من عالمه الشعري، إنه يكتب حول ما يعجز عن قوله شعريا، بحيث يستوحي المعاني من كلمات سبق أن قالها فعلقت بذهنه، ورسخت دلالات غير مكتملة، لأن الإيقاع الشعري رفضها، فتحين فرصة القول بها روائيا، واستدراجها لنسقه الحكائي، فبدت سامية مخترقة في سياق اليومي كما تراه الرواية، التي باختراق الشعر لها تكتسب دعامة جديدة بتخلصها من المفارق المفروض دائما على الرواية.
لكن عندما يكتب الروائي الشعر، ولو بشكل نادر، تبدو القصيدة حكائية كالأساطير، تريد قول الكثير، فتضيع في السردي بصيغ التغليب، كمن يرقص طالبا من الموسيقيين عزف المناسب لحركاته الفنية.
الشعر العربي:
1_ المحنة:
وجد نفسه جاهليا في البداية، ورغم قسوة الحكم عليه، فرض نفسه حكمة وإيقاعات عليها اعتمد لفهم لغة العرب، التي بها يفهم حتى القرآن كأساس لهوية دينية بإعجاز قرآني ديني، وبذلك وجد متراوحا بين حبه والنفور منه، فرغم خدمته للدعوة عندما أدرك المسلمون دور الكلمة في نصرة الجماعة، فإنهم بفعل غير ذلك اتهموه بكونه رداء شيطانيا، فنا وحتى قائلا، وهنا كانت المحنة التي نجت منها اللغة، التي طالما اعتبرت لغة الحق، فينبغي ألا تقول إلا حقا، والناس عشاق صور، لذلك قالوا، أجمل الشعر أكذبه، فكيف يدافع أهل الصدق عن جمالية الكذب؟؟
فهل عليه أن يعيش واصفا ويتخلى عن مجازاته، وهو ما لم يستطع ولو أراده، فلم يجد الشعراء غير التحرر من ربقته القديمة تدريجيا، ليظهر الشعر النثري في اتجاه ما هو حر، بذلك تصير الفكرة مرموزه لا أحد يرى فيها توصيفا، بل كلها مجازات لا يمكن الاتفاق حول دلالة واحدة، وقد تم توسيع المعاني بما اكتشفته حضارات أخرى، عندما فلسفت قولها الأدبي والشعري، فربطته بالوجود مستعيرة من الفكر الفلسفي قضاياه وأحيانا حتى لغته، وغدا الشعر من خلال اللغة وجودا آخر لا يمكن القبول بما يفرض عليه حتى لو كانت اللغة نفسها، بسلطها الخفية والظاهرة، لكن الشعر العربي لم تنقصه الحكم، قبل الإسلام وبعده، وهي حكم في تعاملها مع الزمن، تكون قد استحضرت الكوني في التعبير عن قلقها من الفناء حتى وهي تتغنى بآثاره، كحنين لما مضى ولا تمكن استعادته، مما عمق الشعور بالعجز والخوف من الآتي كما عاشته شعوب وحضارات أخرى، فالموت دفع الناس للتفلسف كما ذهب إلى ذلك أرسطو وأفلاطون، لكن دفع آخرين ربما للشعر والأساطير والحكايات المتحدثة عن عالم الأموات، وقد وجد كتاب في الحضارة الفرعونية، عرف بكتاب الأموات، وهي فلسفة فرعونية، اعتقد فيه قراؤه الخلاص الذي ينير لهم الانتقال من عالم إلى آخر، فالشعر هو القول الجمالي المعبر باللغة عما يربط الإنسان بالحسي، أو يدفعه لتجاوزه بدون الوصول للتجريد الفلسفي، أي الاكتفاء بالتخيلات والتهيؤات المصورة بلغة المجازات والاستعارات المثيرة للكائن البشري، والمغرية إيقاعا وتصورا، هنا تكمن حيرة الشاعر وهو يعانق محنا مختزلة في اعتباره قائلا لما ينبغي أن يرسم لنفسه حدودا محاذية لأقوال أخرى، تخاصمه وتدفعه لأن يكون غيرها أو شبيها بها، وبذلك يعيش محنه وفق حاجات حضارته، فيعاني مما ساد فيها، علما خطابا أو دينا وسياسة.
2- التجديد:
جدد نفسه محافظا على إيقاعاته التي اتسعت ولم تعد مجرد قوافي، بل أحدثت إيقاعات داخلية في اللغة نفسها، ومع التجارب والانفتاح على معارف حضارات أخرى، صارت الجمل حرة طليقة بنثرها المسمى شعرا حرا، أو نثرا شعريا، فأهملت المقامات التعبيرية العروضية ولم تعد مقياسا للشعر، باعتباره كلاما مقفى ذا دلالة، وبذلك نشطت حركة الشعر وتعددت منطلقاتها واختلفت المشارب رغم وحدة اللغة، فاجترحت الأصوات والأقلام لنفسها مسارات تنافست بها على السيادة وحسن الانتشار، لكن قوة القديم بقيت ماثلة بقوتها وسلاستها وحتى تأملها للمعاش، حربا وهجوما وربما حتى ادعاء لبطولة القبيلة بل أحيانا تمردا عليها من خلال قصيدة الشعراء الصعاليك، الذين تمردوا على حياة الجماعة بدون إعادة النظر في نظام القصيدة نفسه، لكن هذا التجديد حدث بتقليد المعاصر في تجارب حضارية مغايرة، في لغات أخرى لها سياقاتها الحضارية والثقافية وحتى إكراهاتها، تلك التي دفعت للتقدم بعد أن استنفذ القديم قدرته على الاستمرار، فترنح فاقدا توازنه بفعل الاختلالات التي عرفها، فهل يتجدد الفكر والفن القولي بتقليد ما جد في حاضره بفعل تثاقف طبيعي، أم أنه ينتقل من تقليد إلى آخر؟؟
إن التفكير في الأصل، تقليد لم تعد له الجاذبية التي كانت له من قبل، إذ سؤال عمن بدأ، صار بحكم الصراعات حوله، بمثابة تثبيت لهوية أثبت الزمن والتاريخ، أنها تصنع وتتحرك، وليست هناك أصول للفن اختص بها شعب دون آخر، حتى إن كان إليها سباقا، فما أن تعود للبداية حتى تجد مؤشرات دالة عليها، لكن بأشكال أخرى، فالعقل البشري والوجدان كذلك، يتفاعل مع محيط عام يحاول الإلمام بما فيه، فيحدث التشابه والاختلاف في الوقت ذاته، وتحدث التداخلات خالقة نسيجا إنسانيا، عميقا في تنوعه، لكن وحدته الإنسانية حاضرة فيها باختلافاتها، وبذلك بدأ الشعر بلغة أخرى، أقل تعقيدا مما ساد وأكثر إيحاء واختفى مها عنف الذم وكل أشكال التكسب القديم، فتغيرت أغراض الشعر ومراميه وتحرر الشاعر من تاريخه الذي ارتهن له لزمن، وخضع مكرها لما كانت تمليه العادة.
3- التنويع:
هي آلية تجاوزت التجديد، بأن تفرعت الإضافات واتخذت أشكال تيارات، كل تيار يضع لنفسه أوليات، إما في شكل قضايا بشرية أو جمالية أو حتى لغوية.
أ_ البشرية: تعاطف الشاعر بشعره مع قضايا الحرية ومناهضة التعسف والعنف، وكانت القضية الفلسطينية، في صلب هذا الاتجاه، الذي ساد فيه شعراء فلسطينيون، مثل معين ابسيسو، محمود درويش، وانضاف إليهم الكثير من الشعراء في العالم العربي، ممن ارتبطوا التزاما بمصير شعوب، تعاني الاحتلال أو حتى القهر السياسي والاجتماعي، وقد كانت هذه الفترة زاخرة، بما اعتبر حضور الإيديولوجي والسياسي في الكلمة الشعرية، وهي حساسية شعرية بفعل هذه الصفات، لم يبحث النقد في إضافاتها الجمالية واللغوية وما رسمته بجدة في عالمها الشعري، لكن ذلك سوف يتم الكشف عنه لاحقا.
ب_ الجمالية: وهي اتجاه حاول التنكر للشعر المرتبط بأية قضية مهما كانت عدالتها، فرسم لنفسه مسارا جماليا، أي التعلق بما هو شاعري ومؤثر في القارئ والسامع، بحيث يفسح مجال الفهم المتعدد للرموز الشعرية وهي توحي بما يوسع الخيال ويخصبه لاستيعاب القادم والخفي إضمارا أو غيابا، فبدأت التساؤلات حول معنى الجمالية ومصدرها، فتم استحضار الأساطير والحكايات، بل إن مخيال الشاعر، لجأ لأسطرة الوقائع وإعادة بنائها لتبدو في استحالة حدوثها، راسمة لعالم، الجميل فيه هو استحالته، عبثيا أو جنونيا، وهو الغريب كصور، جعلت منها اللغة وجودا آخر مخالف لمفاهيم التجريد الفلسفي.
ج_ لغوية: بما يعنيه من محاولات لتفجير اللغة لتبدو مفككة، تحتاج لإعادة التركيب فيبرز المعنى متشظيا، وبذلك تصير اللغة أبلغ تعبير عما يراه الإنسان المعاصر من انكسارات بها يرمم عوالمه ويبعثها من ابتذالها اللغوي باحثة عن لغة بديلة، هي تلك الشبيهة بطلاسم فيها الغموض جمال محرض على إعادة النظر في اللغة نفسها، لتصير شعريتها مختلفة عن كل مقاييس ومعايير البلاغة القديمة وما تعلمه الشاعر بها من تزييف مفضوح وتشبيها مشوهة للغة تحتاج لما يفقدها شفافيتها العامة، وتصير رمزياتها مغايرة لما ساد.
الرواية عربيا:
بدأت مداعبة للحكاية تاريخيا، كأنها قصص القدامى وهم يصفون أفعال كائنات متحكمة في البشر أو خاضعة سحريا لهم، هكذا كان منطق الحكاية متناقضا منذ البداية، وكان الإنسان فيها، يتراوح بين السيادة والخضوع، وقد كانت ألف ليلة وليلة مزيجا حافلا بنسج خيارين متعارضين، الحكي موت_ الحكي حياة، بما يعنيه ذلك، من وعي متقدم بالتعارض، كسر في الحياة الإنسانية لا يمكن قهره بدون الوقوع في التناقض، فالحكاية إنسانية مهما اختلفت أشكال التعبير عنها، فحتى وهي أسطورة، تحكي رغم أنها لم تحول الخرافي إلى غريب، إلا فيما بعد، ليتميز هو الآخر عن العجيب، وتبدأ التمايزات ليظهر الخطاب بمكوناته وغاياته ووسائل تعبيره، وبعدها انتفض التلقي كمفهوم يستحضر القراء ويهبهم حق الوجود والتأويل في سياقهم الثقافي الخاص، وقد كان النقد عربيا، يبحث عما يدعم به معرفته بنظريات الأدب التي استقاها من الغرب، وتحمس لإيجاد قوالب لها، جاهزة أو قابلة لاحتواء مفاهيمه، فتحركت الرواية في عالمنا العربي، ملبية هذا النداء، لترتدي حلة تؤهلها للقبول وربما حتى للتويج، فهي استجابت لدعوة التمدن والتحديث، فقيل عن السابق منها كلاسيكيا، واستجمع الروائيون عدتهم للانخراط فيما سمي، بالرواية الحديثة أو الجديدة فيما بعد، وانهارت معها قيم البطولة والتضحية، وصار الشخص شبيها بمسخ يحمل الهزيمة ويفاخر بها دفاعا عن حقه في القبول بها، بدل لعب دور البطولة والانتصار الأسطوري على الأعداء والخصوم، فتلاشت حتى قيم الدفاع عن النبل والعدالة التي بدأت بها الرواية قبل أن تهتدي إلى الإقرار بهشاشة الكائن البشري وهو يواجه مصيره، وقد فرضت الرواية العربية وجودها من خلال تجربة نجيب محفوظ، التي تعرف من خلالها الغرب عن الرواية العربية ترجمة، فاختزلها ربما في ذلك، مما ولد رغبة عارمة في الكتابة بما يناقض تجربة محفوظ، واعتبر ذلك مغامرة أدت، إلى ظهور تجارب مختلفة بكل دول العالم العربي، حيث انجذبت الرواية المغاربية إلى الكتابة بلغة الغرب محاولة خلق عالمها بلغة مغايرة، بينما كتاب العربية، اعتبرهم المشارقة، مغامرون مهووسون بإعادة كتابة الرواية العربية بأفق غير عربي، وهو ما تحققت به بعض رهانات المغايرة، فتجدد نفس اللغة الحكائية بما يغنيها من التاريخي والوثائقي وحتى الأسطوري أحيانا، بل تم استحضار الحلم والرسالة المكتوبة أو المتخيلة، فبدأت أساليب التجريب تفرض خيارها بدل التكرار، وتم الانتباه كما في الشعر، إلى وجود روايات مستحضرة للصراعات القومية أو الاجتماعية الطبقية، كشهادة اعتراف بما تدين به التجارب الأدبية للفكر النضالي بكل ألوانه ومنطلقاته الإيديولوجية، التي بتراجعها حاولت الرواية العربية، تحديد تيمات أخرى لنفسها، فاخترقت التاريخي بما يشبه الألغاز وطلاسم الحكايات القديمة، التي بها اختفت حقائق أو زيفت للتمويه على شخوص أو وقائع وأحداث، لا أحد ينكر هذا الحق الأدبي أو يتنكر له، وبذلك مضى إلى اجتراح أبعاد أخرى، من قبيل التناص وما وراء النص، إذ وصل الأمر إلى مخاطبة القارئ ومحاورته حول ما يقرأ، فصار الروائي متنصلا من تعاليه ومتعاليا في الوقت نفسه عن علمه المسبق بما يقع وإلمامه بما تنوي الشخصيات القيام به، بل إن الرواية أحيانا في مثل هذه التجارب، تتمرد وتنقسم وتبدو وكأن الروائي فقد خيوط التحكم فيها، بفعل اتساع حجم نسيجها وتشابك علاقات شخوصها، فتشظي معناها وتطلب إعادة ترتيب لها لتفهم، بل إن الكاتب صار مخاطبا لنفسه من خلالها، وحتى للقراء والنقاد، في لعبة باحثة عن غرابة موحية بما يعيشه كاتب الرواية، من رغبة ملحة، في التمرد على كل أشكال الرواية.
حميد المصباحي
عذراً التعليقات مغلقة