قصة قصيرة:
نسخة فريدة
الحبيب الدائم ربي
صمم مهندسون في إحدى الإمبراطوريات خارطة لبلادهم بحجم مساحتها الشاسعة، وتفننوا في تحديد مواقع المدن والأمصار والعمائر ، رسموا الطبيعة بجبالها ووهادها وغاباتها وأنهارها دون نسيان الشموس والأقمار والطيور والسباع والكائنات التي تهب أو تدب على اثنتين وثلاث ورباع وثمان وأربع وأربعين وهكذا…الرجال والنساء والكلاب والغيلان…حتى أن الخريطة، التي أهديت للإمبراطور، طابقت البلاد فما درى الرعايا أهمْ في وطن أم في خريطة، تماما كالشخص الذي حلم، في الحكاية الصينية، أنه غدا فراشة فما عاد يعرف حين استيقظ من الحلم أهو فراشة تحلم بأنها إنسان أم هو إنسان يحلم بأنه فراشة، تماهى حلمه بالواقع حد التوحد..المؤلم أن ينتهي حال الخريطة إلى بقايا نفاية في صحراء شاسعة ، كمآل الفراشة الحالمة في قلب فانوس.ولئن كان الأمر محزنا فإنه لا يقل طرافة ومأساوية عن حكاية تلك الأرملة المخلصة التي آلت على نفسها أن تصرف الثروة المتواضعة لزوجها الراحل في جنازة تليق به وإكراما لحبهما الذي ظل متجددا على الدوام حتى فرّقه هازم اللذات ومفرّق الجماعات…تعاقدت السيدة المصون مع شركة لصنع التوابيت كي تصنع لها تابوتا من أفخر أنواع الخشب، تابوتا لم يشهد له البلد( وليكن الإمبراطورية المذكورة) مثيلا…وهكذا كان ..لولا طارئ غير متوقع خدش صفو “الاحتفال المقدس”..ذلك أن الشركة اكتشفت أن خطأ في التقدير جعل التابوت أقصر من طول الفقيد، وبعد نقاش جانبي وصونا لكبرياء المناسبة وافقت الزوجة، على مضض، قطْع ساقي المرحوم كي تتساوى القامة بالتابوت، ووري الفقيد الثرى مبتور الساقين في قداس جليل…. هاتان حكايتان رهيبتان، الأولى لبورخيس والثانية لماركيز، ما انفككت أقرأهما،صيفا، كما أقرأ بالتذاذ، لا تشوبه ملالة، باقي ما يكتبانه ويكتبه سواهما من نوابغ الأدب والفكر…وما أثارني أكثر ولأول مرة، هو تلك الحكاية الشنيعة التي يرويها الكاتب الصيني، هوكاش روكاش ،الذي عمّر مائتي سنة، عن شيخ مغربي اسمه سعدون البلمعي، كان يعرف “الصينية”، عن ظهر قلب، دون أن يقرأها في كتاب..ولفرط جهل هذا الكاتب بالثقافة المغربية فإنه اعتقد أن “البراد” اسم رجل وأن “الصينية” لغة وليست مجرد لازم من لوازم إعداد الشاي، والخطير في هذا الخلط ،غير المقبول من شخص حكيم، هو أنه زعم أنه يعرف “العربية” معرفة تامة، وهي عنده دابة من حديد بأربع عجلات(وواحدة احتياطية) وزمّور، تسير بسرعة الحصان أو أكثر،والكتاب شيق وظريف لما يحتويه من تهافت لطيف،ففي معرض مقارنته، مثلا، بين شح الصينيين والمغاربة ساق الواقعة التالية- التي نتحفظ بشأنها-إذ روى كيف أن ثريين بخيلين أحدهما من المغرب والآخر من الصيف، جمعهما أمر ما، وكان عليهما أن يتغذيا معا، وأن يظهر كل واحد منهما للآخر أنه ينفق أمواله بيسر: فبعد أن تناقشا(أي استهما) في “براد” شاي ، طلب المغربي، ولعله سعدون البلمعي، من صاحب الدكان نصف خبزة وأمره بفتحها ونزع لبابها وحشوها بقطعة جبن، طلب الصيني، من جهته،نصف خبزة وطالب بفتحها وحشوه بلباب نصف الخبزة الذي اشتراه المغربي…والكتاب هذا جدير بالقراءة، في العطلة الكبيرة نظرا لما يحويه من مغرّبات غاية في الشناعة، لولا أنه غير موجود أصلا،مادمنا اخترعنا محتوياته تحفيزا لأخيلة من لا يحبون قراءة بورخيس ولا ماركيز ولا سواهما، بل ولا يفكرون في القراءة في “العطلة الكبيرة ” ولا في باقي أيام الله.
القصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات واداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة