د. عماد الدين الجبوري
بالرغم من الوجود العسكري الأميركي المزمن في الشرق الأوسط، لكن على نحو مفاجئ عززت واشنطن قواتها بمزيد من القوة القتالية، إذ أعلن الأسطول الأميركي الخامس عن وصول ثلاثة آلاف من مشاة البحرية للانتشار في مناطق بحرية مهمة منها، باب المندب ومضيق هرمز. إذ دخلت سفينتان حربيتان هما “يو أس باتان” (USS Battan, LHD 5) و”يو أس كارتر هول” (USS Carter Hall, LSD 50) إلى مياه البحر الأحمر، قادمتان من البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس، وقبلهما وصلت طائرات “أف 16” إضافية لتعزيز طائرات “إيه 10” في مياه الخليج العربي، لتوفير غطاء جوي للسفن التي تتحرك عبر مضيق هرمز الحيوي، وتكون رادع لإيران، بحسب تصريح مسؤول عسكري أميركي. كما تحركت أرتال من المدرعات الأميركية على الحدود العراقية السورية، تحديدًا في شرق الفرات حيث آبار النفط. فهل هذا التحرك مناورة أميركية تقتضيها سياستها المألوفة منذ سنوات في المشرق العربي، أم أنها ضرورة تجاه مخطط إيراني تدعمه روسيا بإخراج القوات الأميركية من المنطقة؟
بالنسبة إلى إيران لم تكفّ عن زعيقها المعتاد ضد الولايات المتحدة، إذ عقب هذا التحرك الميداني بحرًا وبرًا وجوًا، رفع الحرس الثوري الإيراني صوته محذرًا الجانب الأميركي من أي توقيف أو احتجاز لسفن إيرانية، وسيقابل بالمثل، كما أن أي أفعال شيطانية أميركية ستقابل برد إيراني حاسم! وأكد على أن لدى الحرس الثوري الإيراني القدرة العسكرية، والقرار للرد على أي تحركات أميركية تصعيدية. وتخفيفًا لحدّة هذه اللهجة، أشار الجانب الإيراني إلى أن “دول المنطقة قادرة على حفظ الأمن والاستقرار في مياه الخليج ومضيق هرمز”.
وعلى ما يبدو، إنّ هذا التحرك الأميركي لا يرمي إلى تجييش المنطقة فقط، وجعلها ضمن الدوامة المستمرة من القلق وعدم الاستقرار، بل لمواجهة الخطوط الحمراء التي تجاوزتها إيران وبتأييد خفي من روسيا، مع أن التمدد الإيراني في دول عربية عدة جاء بموافقة أميركية أصلًا، إلا أن الخطورة التي بدأت تخشاها الإدارة الأميركية هو التعاون العسكري المطرد بين الجانبين الروسي والإيراني، سواء في حرب روسيا على أوكرانيا، أو في توافق روسيا مع إيران تجاه خروج القوات الأميركية من سوريا والعراق، خاصة بعد التحركات الروسية الإيرانية داخل سوريا، التي توحي عملياتها على تنفيذ مرحلة مرهقة تستنزف فيها القوات الأميركية، لا سيما أن تقرير صحيفة “واشنطن بوست” كشف عن وثائق استخبارية أميركية عن وجود خطط إيرانية لتشكيل وحدات قتالية تحت اسم “المقاومة الشعبية”. ولقد استهدفت إيران قواعد أميركية في دير الزور والحسكة والسويدية في ريف الرقة الغربي، واحتمالية وقوفها وراء سقوط مروحية أميركية على متنها 22 عسكريًا أميركيًا. وكل ذلك يحدث ضمن صراع النفوذ في المناطق المتداخلة بين اللاعبين، التي تجاوزت فيها إيران قواعد الاشتباك التقليدي، ما دفع بوزارة الدفاع الأميركية (Pentagon) بتزويد قواعدها في تلك المناطق بقاذفات صواريخ “هيمارس” الدفاعية الشديدة الدقة، التي يصل مداها إلى ٧٠ كيلومترًا، ثم نشرت طائرات “إف 22 رابورت” في قاعدة “موفق السلطي” في شمال الأردن، إضافة إلى تجهيز فرقة عمل جديدة للطائرات المسيّرة. وهذا الوضع برمته يثير التوتر وينذر بخطر داهم في آن. هذا إنّ لم نشر إلى التقارب الحاصل مؤخرًا بين السعودية وإيران، الذي تميل كفته الإقليمية لصالح النظام الإيراني أكثر.
وبنظرة عامة، فإن السياسة الأميركية المرسومة تجاه الشرق الأوسط لم تتغير خطوطها العامة، والتحشيد العسكري الذي تقوم به بين الفينة والأخرى، إنّما لتبقي التوترات هي السائدة في المنطقة العربية، مع تسريبا إعلامية على تحجيم الأذرع المسلحة الموالية لإيران، التي تتصرف كدولة. كما أن إيران لا تلعب من تلقاء نفسها على الحبلين الأميركي والروسي، بل تؤدي دورها في خدمة المصالح الغربية والإسرائيلية منذ أن قرر الغرب إسقاط محمد بهلوي والاتيان بالخميني عام 1979.
على أي حال، فإنّ مجمل التحرك الأميركي الجاري الآن، أقل استعراضًا عمّا قدمته عام 2019، إلا أن هذا لا يمنع من القول بأن قرار البيت الأبيض ربما أراد ضبط إيقاع اللاعبين في المنطقة، أو حتى تقليم أظافر الفرعنة الإيرانية، التي بدأت تخدش الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وربما أيضًا مجرد شد أعصاب لدول المنطقة بغية ابتزازها، أو جعلها أكثر طوعًا لتقبل التطبيع مع إسرائيل، أو الاثنان معًا، خاصة أن النظام الرسمي العربي متبعثر وفي أضعف حالاته. لذلك، ستبقى السطوة الأميركية وفق الزمن المنظور حتى تتبلور أكثر صورة الشرق العالمي الجديد، الذي تلعب فيه الصين وروسيا دورًا محوريًا تزيح عن العالم قطب الغرب السلبي، وإنّ ما يجري في منطقة الشرق الأوسط لا يبتعد كثيرًا عما يجري في منطقة غرب أفريقيا، وهذا حديث آخر.
عذراً التعليقات مغلقة