د. عماد الدين الجبوري
بعدما حققت الصين تمددها الاقتصادي العالمي الباهر عبر “مبادرة الحزام والطريق”، إضافة إلى توافقها السياسي مع روسيا في ضرورة تعدد القطبيَّة لفك القبضة الغربية عن العالم، بدأ الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية تحركًا مضادًا عبر مشروع “البوابة العالميَّة”، لكي يحافظ على ديمومة القطب الأوحد، ويحجم العملقة الصينية والرؤية الروسية في آن. وبما أن منطقة الشرق الأوسط غنية بالطاقة وتربط بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، لذا فإنّ الغرب اتجه لدعم إنشاء ممر جديد لخط بحري وبري يربط الهند بالبحر الأبيض المتوسط، وتم إطلاق الخطة على هامش قمة مجموعة العشرين، الذي أنعقد في نيودلهي مؤخرًا، وفق مذكرة تفاهم اتفق عليها الأطراف المعنية.
وهذا الممر التجاري المقترح لا يقتصر على السفن وشبكة السكك الحديدية فقط، بل سيشمل مدّ سِلك سميك عبر بحر العرب لنقل الطاقة أيضًا، أمّا الدول الأوسطية التي سيمتد من خلال الممر فهي: الإمارات، السعودية، الأردن وإسرائيل. ومن المتوقع أن تكون التجارة بين الهند وأوروبا عبر السكك الحديدية أسرع بنسبة 40 في المئة، إضافة إلى أن الدول الراعية لهذا المشروع ستحقق فوائد جمّة في البنيَّة التحتية والاستثمار في التكامل الإقليمي وأمن الدفاع التجاري والطاقة النظيفة وغيرها.
ومن أجل تحقيق مشروع “البوابة العالميَّة” فقد خصص الاتحاد الأوروبي إنفاق نحو 300 مليار يورو على استثمارات البنية التحتية في الخارج للأعوام ما بين 2021 و2027، بجانب الدعم الأميركي المتواصل في هذا المجال، فالغاية الظاهرة من هذا المشروع هو تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية والتقنية والترابط “عبر القارات والحضارات”، لكن الغاية الباطنة منه فيمكن استنباطها بما يلي:
أولًا، التصدي إلى الاستفحال الصيني في “الحزام والطريق”، واستغلال الجانب السلبي فيه، إذ بالرغم من عدم تدخل الصين بسياسات الدول المرتبطة بمشروعها وعلى المستويين الداخلي والخارجي، لكن سياستها الاقتصادية بالتمويل للبنية التحتية تعرض الدول الفقيرة إلى فخ الديون الثقيلة الحجم، وتداعيات ذلك على القطاع العام.
ثانيًا، العزل الجغرافي والتأثير الاقتصادي على روسيا، بغية إضعافها وتراجعها سياسيًا، خاصة بعد حربها في أوكرانيا، وقطعها الغاز عن أوروبا كرد فعل للعقوبات الغربية.
ثالثًا، التفعيل التجاري الأوروبي مع الهند عبر دول الممر في خط جديد يبتعد عن الحاجة إلى الخط الروسي التقليدي. وكذلك سحب الهند والسعودية والإمارات من التراصف مع الصين وروسيا، إضافة إلى استعراض قدرة الاتحاد الأوروبي على الفعل المستقبلي.
رابعًا، إشارة توكيدية من الولايات المتحدة إلى دول الممر خاصة، والعالم عامة، بأنها لن تتخلى عن المنطقة، وسيستمر حضورها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط.
خامسًا، دمج إسرائيل أكثر بالمحيط العربي ليس كواقع حال لا بدّ منه وحسب، بل كعامل فعّال في المنطقة أيضًا، لا سيما أن المشروع الإيراني أدى للغرب ولإسرائيل دوره التدميري في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وإضعاف النظام الرسمي العربي بشكل عام.
سادسًا، التقليل من أهمية قناة السويس في الملاحة البحرية الدولية، والإقلال من عائداتها لمصر في آن، إذ أن نسبة 13 في المئة من التجارة العالمية عبر هذه القناة سوف تتأثر قطعًا.
ومع أن مشروع “البوابة العالميَّة” ما زال في مستهل الطريق، وبعد شهرين سيتم نشر خطة التنفيذ ومراحلها، وهذا بدوره سيحتاج إلى وقت حتى يكتمل، وحتى ذلك الحين فمن غير المتوقع أن تقف كل من الصين وروسيا بلا حراك من ناحية، ومن المبكر الكلام عن نجاح المشروع على نحو تام من ناحية أخرى. كما أن هذا المشروع أبعد العراق وتركيا من حساباته، مع أنهما الأقرب مسافةً والأقل تكلفةً، وهذا له أكثر من معنى أو هدف. أولهما، إنَّ إسرائيل أهم عند الغرب من تركيا العضو في النيتو. وثانيهما، تحقيق تعاون تجاري بين إسرائيل والسعودية، وربما يقود لاحقًا إلى التطبيع كما مع الإمارات والأردن.
وفي كل الأحول، فإنَّ المشروع ما زال تحت خطوط عريضة قد تطرأ عليه تغيرات وتبدلات، خاصة أن تأييد الرئيس الأميركي بايدن له صلة بالانتخابات القادمة، كما أن الرئيس التركي أردوغان أبدى امتعاضه الشديد لتجاهل المشروع إلى بلاده تمامًا، أمّا نتنياهو فبشر الإسرائيليين، وانقسم إعلامه ما بين مؤيد ومشكك. وعليه، فمن السابق لأوانه جعل المشروع بديلًا منافسًا إلى طريق الحرير الصيني الجديد “مبادرة الحزام والطريق”، ولن يعوق أو يؤثر على ما حققته الصين في هذا الاتجاه منذ العام 2013. وفوق هذا وذلك، فإنَّ الدول الرئيسة في المشروع مثل الهند والسعودية تراعي مصالحها بالدرجة الأساس، وبذلك من المستبعد أن تصطف بجانب القطب الغربي ضد القطب الشرقي الصاعد، والتي هي مشاركة في تبلوره أصلًا.
عذراً التعليقات مغلقة